الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

عيسى (عليه السلام) نبي مرسل من عند الله تعالى

الحلقة: الثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شعبان 1441 ه/ إبريل 2020م

1. تعاليم عيسى ابن مريم عليه السلام من عند الله تعالى:
تشمل هذه التعاليم رسالة المسيح، كذلك الإيمان بالوحي، فطبيعيٌّ أن يخبر المسيح أنه يوحى إليه من عند الله وأن التعاليم التي يبلغها لهم ليست من عنده، وإنما يوحى بها إليه من ربه، وذكر الله المسيح في القرآن الكريم في جملة من يوحى إليهم من النبيين.
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (النساء: 163-165).
وهذا السياق القرآني يتحدث عن موكب واحد يتراءى عن طريق التاريخ البشري الموصول، ورسالة واحدة بهدى واحداً للإنذار والتبشير، وموكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من البشر: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وداود وموسى وغيرهم ممن قصَّهم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم، وممن لم يقصَّ عليه، موكب من شتى الأقوام والأجناس، وشتى البقاع والأرضين في شتى الآونة والأزمان، لا يفرقهم نسب ولا جنس ولا أرض ولا وطن، ولا زمن ولا بيئة، كلهم آت من ذلك المصدر الكريم، وكلهم يحمل ذلك النور الهادي، وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير، وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة إلى ذلك النور، سواء منهم من جاء لعشيرة ومن جاء لقوم ومن جاء لمدينة ومن جاء لقطر، ثم من جاء للناس أجمعين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.
كلهم تلقّى الوحي من الله فما جاء بشيء من عنده، أولئك الرسل -من قصّ الله على رسوله منهم ومن لم يقص-اقتضت عدالة الله ورحمته أن يبعث بهم إلى عباده يبشرونهم بما أعدَّه الله للمؤمنين الطائعين من نعيمٍ ورضوان، وينذرونهم ما أعدَّه الله للكافرين العصاة من جحيمٍ وغضب كل ذلك (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق; وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق. ولكنه -سبحانه وتعالى-رحمة منه بعباده، وتقديرا لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم -أداة العقل -اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين يذكرونهم ويبصرونهم; ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) عزيزاً: قادراً على أخذ العباد بما كسبوا، حكيماً: يدبرّ الأمر كله بالحكمة، ويضع كل أمر في نصابه.
ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتِّب للناس حجة على الله سبحانه لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، هذا ما احتشد كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون بالآيات والشواهد على الخالق ووحدانيته وتدبيره وتقديره وقدرته وعلمه.
ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس، ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج، ولكن الله سبحانه بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها، فتعطّلها، أو تفسدها، أو تطمسها، أو تُدخل في حكمها الخطأ والشطط، قد أعفى الناس من حجية الكون وحجية الفطرة، وحجية العقل ما لم يرسل إليهم الرسل، ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثَّل في الرسالة، هذه الأجهزة فتصحُّ أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي. وعندئذٍ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع، أو تسقط حجيَّتها وتستحق العقاب.
وخطأ وضلال -إن لم يكن هو الخداع والتضليل-كل زعم يقول: إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلِّغ بدون الرسالة ما بلَّغته بالرسالة، فالعقل ينضبط مع الرسالة بمنهج النظر الصحيح، وآية أن ما يتمُّ بالرسالة -عن طريق العقل نفسه-لا يمكن أن يتمَّ بغيرها، فلا يغني العقل البشري عنها.
إن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلاً واحداً من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية والمتوسطة بالرسالة.
- لا في تصور اعتقادي.
- ولا في خلق نفسي.
- ولا في نظام حياة.
- ولا في تشريع واحد لهذا النظام.
إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعاً، بل إنهم ليقولون: إن عقل أرسطو هو أكبر عقلٍ عرفته البشرية -بعيداً عن رسالة الله وهداه -فإذا نحن راجعنا تصوُّرَه لإلهه -كما وصفه -رأينا المسافة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتدياً بهدي الرسالة.
فسبحان الله الذي قال في كتابه الكريم: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).
2. عيسى عليه السلام من أولي العزم:
قال تعالى:﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾(الأحقاف: 35).
وأما أولو العزم من الرسل فهم، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم جميعاً، وقد كانت وصية الله تعالى لعيسى عليه السلام وأولي العزم من الرسل ما ذكره الله تعالى في سورة الشورى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ (الشورى: 13) .
فعيسى عليه السلام من أولي العزم الذين أقاموا الدين الذي أمر الله به الأنبياء والمرسلين، وهذا خطاب من الله سبحانه وتعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يقول لهم فيه:
- (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) ارتضى ونهج وأوضح لكم هذا الدين.
- (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) الذي ارتضاه ووصاه لنوح.
- (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) فهذا الدين هو نفسه الذي ارتضاه إليك يا محمد وارتضاه لعباده.
- (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) ارتضى هذا الدين -أي الإسلام-لإبراهيم خليل الله وموسى كليم الله وعيسى روح الله، بعد أن ارتضاه لنوح أبو البشر بعد آدم، ومحمد آخر رسول وخاتم النبيين، وهم أولو العزم من الرسل.
- (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أوصاهم جميعاً بإقامة هذا الدين والتمسك به، ونهاهم عن ترك هذا التوحيد والإسلام.
- (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) شقَّ على المشركين دعوتهم إلى الإسلام، وإلى توحيد الله، وقولهم لا إله إلا الله ونبذ الوثنية وعبادة الله وحده لا شريك له، والإسلام والانقياد والطاعة له سبحانه وتعالى.
- (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يعلم الله الصالح من عباده فيهديه إلى طريق الرشاد، ويجتبيه من بين الناس جميعاً، أي أمرتهم رسلهم بتوحيد الله والإيمان بملائكته واليوم الآخر، وبالبعث النشور وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام والحج والتقرب إلى الله بصالح الأعمال من الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم القتل والكفر والزنا والأذية للخالق والاعتداء على الحيوان واقتحام الدناءات فهذا كله مشروع ديناً واحداً وملَّة متحدة لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم، وأما تفصيل العبادات فهذا يختلف باختلاف الشرائع .
وما شرعه الله لأولي العزم صادر عن كمال العمل والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم السلام تنبيه على كونه ديناً قديماً أجمع عليه الرسل والخطاب لأمته عليه السلام، أي شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، ومن بعده من أرباب الشرائع وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم السلام، وأمرهم به أمراً مؤكداً، وتخصيص المذكورين بالذكر أشير عليه من علو شأنهم وعظم شهرتهم ولاستمالة قلوب الكفرة إلى الاتباع لاتفاق كل على نبوة بعضهم واختصاص اليهود بموسى عليه السلام والنصارى بعيسى عليه السلام.
كما أخبر الله سبحانه وتعالى أنه أخذ على النبيين جميعهم الميثاق وخصَّ بالذكر أولو العزم من الرسل، وقد أخذ الله ميثاق النبيين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عليهم الصلاة والسلام أجمعين في حمل أمانة هذا المنهج، والاستقامة عليه وتبليغه للناس والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها، وذلك حتى يكون الناس مسؤولين عن هداهم وضلالهم وإيمانهم وكفرهم بعد انقطاع الحجة بتبليغ الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ (الأحزاب: 7).
إنه ميثاق واحد مطرد من لدن نوح عليه السلام إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ميثاق واحد ومنهج واحد، وأمانة واحدة يتسَّلمها كل منهم حتى يسلمها، وقد عمَّم النص أولاً:
- (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ)، ثم خصص صاحب القرآن الكريم وصاحب الدعوة العامة إلى العالمين.
- (وَمِنْكَ) ثم عاد إلى أولي العزم من الرسل، وهم أصحاب أكبر الرسالات ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، وبعد بيان أصحاب الميثاق عاد إلى وصف الميثاق نفسه.
- (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)، ووصف الميثاق بأنه غليظ منظور فيه إلى الأصل اللغوي للفظ ميثاق -وهو الحبل المفتول -الذي استعير للعهد والرابطة، وفيه من جانب آخر تجسيم للمعنوي يزيد إيحاءه للمشاعر، وإنه لميثاق غليظ متين ذلك الميثاق بين الله والمختارين من عباده، ليتلقوا وحيه، ويبلغوا عنه، ويقوموا على منهجه في أمانة واستقامة.
- (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) والصادقون هم المؤمنون، فهم الذين قالوا كلمة الصدق واعتنقوا عقيدة الصدق ومن سواهم كاذب، لأنه يعتقد بالباطل ويقول كلمة الباطل ومن ثم كان هذا الوصف دلالته وإيحاؤه.
وسؤالهم عن صدقهم يوم القيامة كما يسأل المعلم التلميذ النجيب الناجح عن إجابته التي استحق بها النجاح والتفوق أمام المدعوين بحفل النتائج، سؤال للتكريم وللإعلان والإعلام على رؤوس الأشهاد وبيان الاستحقاق، والثناء على المستحقين للتكريم في يوم الحشر العظيم، فأما غير الصادقين، الذين دانوا بعقيدة الباطل وقالوا كلمة الكذب في أكبر قضية يقال فيها الصدق أو يقال فيها الكذب، قضية العقيدة، فأما هؤلاء فلهم جزاء آخر حاضر مهيَّأ، يقف لهم في الانتظار وأعدَّ للكافرين عذاباً أليماً.
3. أصول الشرائع:
إنَّ وحدة الدين عند الله حقيقة، وقد دلَّت عليها النصوص كما قال تعالى:﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾(الشورى: 13).
وقد اتفقت الشرائع في أصول التشريع غالباً؛ لأن مصدر التشريع واحد، فقد شرع الله لعباده ما يصلح شأنهم على امتداد رحلة البشرية، وأرسل الله في كل أمة رسولاً وبشيراً ونذيراً، ليجدِّد ما اندرس من معالم أصول الدين، ويضيف بأمر الله ما يناسب كل قوم من شرائع في فروع الدين﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (المائدة: 48).
إذن الاختلاف في فروع الشرائع وفي ميادين التطبيق العملية في كثير من الأصول، ولكن يبقى الجوهر واحداً في رسالات الأنبياء، فكل شريعة تصدِّق ما قبلها من الشرائع، وتمهِّد لما بعدها، وجاء القرآن الكريم مصدقا لما بين يديه من الكتب السابقة، ومهيمناً عليها بما يشتمل عليه من استيعاب لجوانب الكون والحياة كلها، وما يُصلح البشرية إلى قيام الساعة﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾(المائدة: 48).
- لنأخذ أمثلة من اتفاق أصول الشرائع:
‌أ- الصلاة:
- قال تعالى على لسان أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام:﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾(إبراهيم: 40).
- وقال تعالى:﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ﴾(المائدة: 12).
- وقال تعالى على لسان عيسى عليه السلام:﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾(مريم: 31).
- وقال تعالى عن هذه الأمة المحمدية:﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ (البقرة: 238).
- وقال تعالى:﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 71-72). فالاتفاق حاصل في أصل مشروعية الصلاة، ولكن الكيفيات والمواقيت ربما كانت مختلفة في الصور وميادين التطبيق.
‌ب- الزكاة:
- قال تعالى:﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾(البينة: 5).
- وقال تعالى:﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾(مريم: 55).
- وقال تعالى:﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة: 103).
يلاحظ مدى ارتباط الزكاة بالصلاة في مواضع عدة من كتاب الله تعالى، فالصلاة عبادة روحية بدنية، والزكاة عبادة مالية، وهما لازمتان لصلة العبد بربِّه وتزكية النفس والمال وتكافل المجتمع.
‌ج- الصيام:
- قال تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾(البقرة: 183). فالصيام فريضة قديمة على المؤمنين في الأمم السابقة، كما تنصُّ عليه الآية.
‌د- القصاص:
- قال تعالى:﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاص ﴾(المائدة: 45).
- وجاء الإسلام، فقال الله عز وجل:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾(البقرة: 178-179).
فالقصاص عقوبة مقررة في جميع الشرائع الإلهية المتقدمة لضرورة حماية الأنفس وصيانة المجتمعات من الفوضى وانتهاك الحرمات.
‌ه- الجهاد:
- قال تعالى:﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾(آل عمران: 146).
والمقاتلة دفاعاً عن النفس أو الدين أمر مشروع في الشرائع السابقة حسب مقتضيات الأحوال والظروف، وهذه بعض أصول الشرائع بين الأنبياء والمرسلين.
4. أصـول الإيمان:
اتفقت جميع الرسالات السماوية على أصول الإيمان على امتداد دعوات الرسل عليهم الصلاة والسلام ولم تختلف هذه الرسالات في تقرير أصول الإيمان قبل أن ينال منها التحريف والتبديل، لأنها تتحدث كلها عن مقررات ثابتة لا يقوم الإيمان إلا بها، فهي حقائق ثابتة لا تتطور ولا تتغير ولا يدخلها النسخ كما يدخل فروع الشرائع وقد جاءت النصوص القرآنية تؤكد هذه الحقيقة.
- قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾(النحل: 36).
- وقال تعالى:﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾(الزمر: 65-66).
- وقال تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾(الأنبياء: 25).
ولقد وجه الله النداء العام لبني آدم محذراً إياهم الشيطان ومهالك الغواية، ومذكراً إياهم بأصل النشأة والمعاد فقال تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ (الأعراف: 27-29).
وعقيدة الإيمان التي أمر الله بها الأنبياء والمرسلين ودعوا إليها مخلصين تشمل عناصر أساسية، تطهر القلب من بذور الشرك والوثنية، وتربطه بالله عقيدة صافية نقية وهي:
- ما يجب الإيمان به من جانب الله تعالى: إقراره بوجوده وخلقه وتدبيره وقضائه وقدره، وإفراداً له بالوحدانية والعبادة، ووصفاً له بصفات الكمال والجلال مع الإقرار الكامل بكل ما وصف به نفسه، ووصفه به رسولهصلى الله عليه وسلم.
- إن أول ما دعا إليه المسيح عليه السلام هو الإيمان بالربوبية ووحدانية الخالق، والإيمان برسالة الأنبياء والمرسلين، وكانت هذه الدعوة أول ما نطق به في المهد، قال تعالى:﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾(مريم: 30)، وكان كل همه بعد ذلك أن يدعو الناس إلى طاعة الله وتقديم العبادة له دون سواه.
- كان يبين لقومه أن الله هو ربه وربُّهم، وأن الله هو رب الناس وملكهم وإلههم، وكان يذكر لهم أن الاعتراف بالربوبية والألوهية هو السبيل القويم الذي يؤدِّي إلى النَّجاة، قال تعالى:﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾(الزخرف: 63-64).
- من المعجزات التي حققها الله على يد المسيح لإثبات رسالته وصدقه في الدعوة إلى الإيمان بالله وبيان قدرة الله وقوته معجزة إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، وبيَّن المسيح بأنه يفعل ذلك بإذن الله تعالى، وسيأتي تفصيل ذلك في محلِّه بإذن الله تعالى، والدليل على أن عيسى كان يحمل في رسالته وجوب الإيمان بجميع الرسل والنبيين، دعوته إلى التصديق برسالة موسى كما كان يوجب التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وهو ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 46).
أ‌. أصول الإيمان "الإيمان بالبعث والقيامة والجنَّة والنَّار":
جاءت عقيدة البعث في رسالة المسيح كما جاءت في رسالات غيره من النبيين، فقد أعلن هذه العقيدة منذ كان في المهد صبياً، إذ قال:﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾(مريم: 33).
إن هذه الآية الكريمة تبين أن الله يوجِد الإنسان عامَّة في هذه الحياة الدنيا بطريق التناسل والولادة، وأن المسيح خاصَّة وجد بطريق الولادة من غير ذَكر، وأن عناصر تكوينه هي عناصر تكوين كل الناس، وكان كلامه في المهد هو الحجَّة على براءة أمه مريم من البغاء، وأن الله كما أوجده في هذه الدنيا في جسمٍ بشريٍّ، فإنه سوف يميته كذلك كسائر البشر، وأنه سيبعث كذلك مثلهم، وأن مولده الخارق للعادة بقدرة الله تعالى، لا تعني خروجه مستقبلاً عن القدر الذي قدَّره على البشرية جميعاً، وما جرى على فم عيسى في المهد في هذه الآية الكريمة، هو إعلان لحقيقة البعث التي لا شكَّ فيها أنه قد آمن بها كل من سمع عيسى حينئذٍ من قوم مريم، ولا شكَّ أن هؤلاء نقلوا كلام المسيح الذي تفوَّه به في المهد إلى كل ما يلوذ بهم، وطبيعيٌّ أن لفظ البعث كان مفهوماً للمخاطبين، أو لبعضهم، فلا يخلو هذا البعض من أنه سمع شيئاً عن البعث ممَّن كان مؤمناً برسالة النبيين من قبل، كيحيى وزكريا.
وطبيعيٌّ أن تفسير المسيح عيسى ابن مريم كل ما يتعلق بعقيدة البعث بعد تكليفه بالرسالة، وبهذا شملت رسالته عقيدتي الجنة والنار، فمن آمن بالله واتبع رسوله وآمن برسالته دخل الجنة، وأما من كفر بذلك دخل النار، ولا شكَّ أن الإيمان بأن هناك جنَّة وهناك نار في دار الجزاء أصلٌ من أصول العقائد التي بعث النبيون لبيانها حتى يعلم كل فردٍ من الناس ما سوف ينتظره من الحياة الآخرة، فلا يستطيع أن يدَّعي عدم علمه بذلك وقتئذٍ، وحتى يحذر المؤمنون فيعبدون الله رغبة في ثوابه ورهبة من عقابه، ويخلصون في عبادته ولا يشركون بعبادة ربهم أحداً، والدليل على أن المسيح عيسى ابن مريم أدَّى ما عليه من تبليغ كل هذا قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ (المائدة: 72).
ولقد ذكر الله لنا في القرآن الكريم أن كلاً من التوراة والإنجيل جاء فيهما ذكر الجنة، كما جاء ذكرها فيما بعد في القرآن الكريم، وأنه جاء في هذه الكتب المنزلة أن الله تعالى وعد المقاتلين في سبيل الله جنَّة الخلد وأنهم إذا فقدوا حياتهم في هذه الدنيا وأموالهم فإنهم سيحيون الحياة الحقيقية في الجنة، وسينالون فيها ما لا يعد ما كان لهم في الدنيا شيئاً مذكوراً.
وجاء هذا في قول الله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾(التوبة: 111).
ولقد ذكَّر المسيح الناس قبيل وفاته بكل ما يتعلَّق بيوم القيامة والحساب والجنة والنار، وحذَّرهم من الخروج على طاعة الله وأكَّد لهم ما ذكره لهم طوال حياته معهم: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ* وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران: 55-57).
إن هذه الآيات الكريمة، التي خاطب الله بها عيسى رسوله ليس من حقِّ المسيح إخفاؤها عن قومه، فليس ما فيها خاص به وحده، بل إنَّ ما فيها يخصَّ المرسل إليهم جميعاً إذ أنها حملت بين ثناياها عقائد الآخرة والحساب والثواب والعقاب، وخشية الله ورحمته، ولهذا نحن على يقينٍ، كما قدمنا، أن المسيح تلا هذه الآيات باللغة التي كان يوحي الله بها إليه، إلى قومه بمجرد نزولها عليه.
ب‌. من جملة العقائد التي جاءت في رسالة المسيح: الإيمان بوجود الملائكة:
جاء على أن الملائكة مخلوقات خاصَّة لا تعصي الله، وإذا كلَّفها الله بأمرٍ نفذته من غير تردُّد، والإيمان بوجود الجنِّ، وأن العصاة منهم هم الشياطين وأن الشياطين هي التي توسوس في صدور الناس.
أما ما جاء عن الملائكة في رسالة المسيح، فهو أنه هو نفسه كان البشرى التي بشّرت بها الملائكة أمَّه مريم، قال تعالى:﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾(آل عمران: 45)، وقال تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾(آل عمران: 42).
وأما ما جاء من الشيطان في رسالة المسيح، فهو ما جاء من دعاء امرأة عمران أن يجنب الله ابنتها مريم وابن مريم من وسوسة الشيطان، قال تعالى:﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾(آل عمران: 36).
إن قصَّة امرأة عمران وولادتها وولادة المسيح عيسى ابن مريم بما شملته من ذكر الملائكة والشيطان دليل على إيمان المسيحية الحقَّة وعيسى عليه السلام بوجود الملائكة والشياطين وكونهم من خلق الله تعالى.
والإيمان بوجود الملائكة عقيدة واجبة، إذ لولاها لما آمن أحد بالوحي ولا آمن بملك الموت وبالوظائف المختلفة التي يكلَّف الملائكة بأدائها، ولَمَا آمن بقصَّة آدم وسجود الملائكة له.
وكذلك الإيمان بوجود الجنِّ والشياطين أمرٌ ضروريٌّ لكل موحِّدٍ مؤمنٍ بالله تعالى سار على هدايات الأنبياء والمرسلين، إذا آمن بما يقوم به الشيطان من تضليل ووسوسة كانت عنده فرصة للتزوُّد بالطاعات التي تقوِّي عزيمته وتمكِّنه من التغلُّب عليه، فإن المرء إذا عرف عدوه أخذ حذره منه، وكان دائماً على قدم من الاستعداد لمقاومته، والتخلُّص من مكائده، وحيله وغواياته، والإيمان بوجود الشيطان واجب، ليكون المؤمن على علمٍ بقصَّة الخلق الأول، ونحن على يقينٍ أنه ما من نبيٍّ أو رسولٍ إلا قد عرَّف قومه بقصة آدم وزوجه وسجود الملائكة لآدم، وعصيان إبليس وتوعَّده الله بإضلال الناس أجمعين إلا عباد الله المخلصين .

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (223:209)
- سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة: دار الشروق، ط 38، 1430ه، 2009م، 2/1145.
-زاهر بن عوض الألمعي، دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، مطبعة النرجس، السعودية، ط2، 1422ه، 2001م، ص 37.
-ليلى بلخير، قصص أولي العزم، دار طيبة، دمشق. سوريا، ط1، 1432ه، ص 42.
-محمد وصفي، الارتباط الزمني والعقائدي بين الأنبياء والرسل، دار ابن حزم، ط1، 1418ه، 1997م، ص 315.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022