الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

مريم تلد عيسى (عليه السلام)

الحلقة: التاسعة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شعبان 1441 ه/ مارس 2020م

قابل جبريل عليه السلام مريم، وهي منفردة عن أهلها منتبذة منهم مكاناً شرقياً، ونفخ فيها نفخة بأمر الله وكان في النفخة كلمة الله الأزلية (كن) وفيها روح من عند الله، وشاء الله أن يتخلق الجنين في رحمها بتلك النفخة، فحملت بعيسى عليه السلام.
وقد أشارت آيات القرآن بإيجاز إلى مشهد ولادة مريم الفتاة العذراء لابنها عيسى عليه السلام قال تعالى: ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ (مريم: 22: 26).

(فانتبذت به مكاناً قصياً):

أي مكاناً بعيداً عن قومها حتى لا يتعرضوا لها بسوء، أي تنحّت بالحمل إلى مكان بعيد وذهبت إلى ذلك المكان القصيّ، رغبة منها في المبالغة في الابتعاد عن أهلها، لأنها خشيت الفضيحة، وخافت من كلامهم ونظراتهم واتهامهم، وتوقعت استغرابهم ودهشتهم.
وهذا الاستغراب أمر طبيعي، فهي فتاة عذراء بتول طاهرة صالحة يعرف أهلها صلاحها وطهارتها وها هي تحمل في بطنها جنينها، فمن أين جاءها؟ وهل يصدقون روايتها بأنه نفخة من الله، وأنه لم يمسّها رجل؟ فلعلّها أحبَّت أن تبتعد عن قومها وأن تنفرد بجنينها إلى ذلك المكان القصيّ، لتسلم من اتهامات البشر وتنجو من نظراتهم.
وهذا المكان القصيّ هو شرقي بيت لحم، حيث ولد المسيح عليه السلام فيه، كما ورد في الحديث الذي رواه الإمام النسائي في السنن، والبيهقي في دلائل النبوة عن أنس بن مالك رضي الله عنه من حديث الإسراء، وفيه يقول: "فقال لي جبريل انزل فصلِّ فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى ابن مريم".
إن المكان القصيّ المذكور في قوله تعالى (فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً) هو المكان الذي وَلدت فيه مريم عليها السلام ابنَها عيسى عليه السلام، وهذا المكان هو ببيت لحم، كما ورد في الحديث النبوي الشريف.
قال العلامة ابن كثير: وهذا هو المشهور، الذي تلقّاه الناس بعضهم عن بعض، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم، وقد تلقّاه الناس، وقد ورد فيه الحديث إن صحّ.
و(بيت لحم): مكان قصيّ بالنسبة إلى القدس لأنها تبعد عن القدس حوالي تسعة أميال.
والظاهر المتبادر من سياق الآيات أنها وضعته في المكان القصيّ الذي تنحّت إليه أو قريباً منه، وقد كانت في هذا المكان وحيدةً فريدة.
وأما ما ورد أنها فرّت مع يوسف النجار إلى مصر بعد أن علم بأمرها، وقيل إنه حاول قتلها، حيث ظن بها السوء بعد أن رآها حاملاً، فجاءه روح القدس وأخبره بأنها حملت من روح القدس، فإنه منقول عن الإنجيل، وأخبار الإنجيل عن يوسف النجار متناقضة ومتضاربة تشهد ببطلانها وتهافتها، وحين نقارن بين رواية الميلاد في إنجيل متى وفي إنجيل لوقا، نجد التضارب والاختلاف حول يوسف النجار، هل كان خطيباً لمريم حيث ولد عيسى أم كان زوجها؟ ومتى علم بحملها؟ وما موقفه من الحمل؟ وهل ظهر له الملك وأخبره عن حقيقة الحمل؟ أم لم يظهر؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التي تدل على وجود التحريف والتزييف في الأناجيل.
والذي أراه والله أعلم أن يوسف النجار لم تكن له أدنى صلة بمريم عليها السلام، وأنه لم يختلِ بها، أو يسافر معها، أو يتولى أمرها، أو يخدمها، حاشاها - وهي الطاهرة العفيفة الحيية الشريفة - أن تكون لها أدنى صلةٍ برجل أجنبي عنها.
والقرآن الكريم والسنة النبوية لم يرد فيهما أي ذكر ليوسف النجار، وما ورد في كتب التفسير، فإنه من الإسرائيليات التي مردّها إلى أهل الكتاب، وقد نقلوها عن الأناجيل المحرفة التي تضاربت وتناقضت تضارباً وتناقضاً يدل على ضعفها وزيفها.

مجيء المخاض لها:

ولما ذهبت مريم إلى المكان القصيّ في بيت لحم، منتبذة بابنها من أهلها، أحسّت هناك بآلام المخاض والطلق والوضع، قال تعالى: ﴿ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ (مريم: 23).
وقد اختلف العلماء بمدة حملها بعيسى، فهل حملته حملاً طبيعياً، استمر مدة تسعة أشهر، كما تحمل النساء، أم كان حملاً خاصاً لم يستمر أكثر من ساعات؟ وممن ذهب إلى أن حملها استمر تسعة أشهر ابن كثير، وحملَ (الفاء) الدالة على التعقيب على ترتيب وتعقيب مراحل الحمل التي يمر بها الجنين، على التفاوت الزمني بينها.
قال ابن كثير: الفاء - وإن كانت للتعقيب - لكن تعقيب على كل شيء يحسبه، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ (المؤمنون: 12: 14). فالمشهور الظاهر -والله على كل شيء قدير-أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن.
وذهب آخرون إلى أن مدة حملها كانت سريعة، وهذا قول منسوب لابن عباس رضي الله عنهما، روى الإمام الطبري وابن كثير أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما هو إلا أن حملت وولدت، فليس بين حملها وولادتها زمن.
إن الله عز وجل يقول عن سيدنا عيسى عليه السلام (ولنجعله آية للناس) (مريم: 21)، أي هو آية في كل شيء، ومن ضمنه مدة حمله، بل إن المعجزة هي في عدم وجود مدة لحمله، وليس كما جرت العادة، وكذلك فإن العقل يؤيد هذا؛ نظراً لكون الحمل يتطلب زمناً، هو الحمل المعروف لدى الناس، أي الذي ينشأ عن علوق النطفة، ثم بتحوُّل النطفة علقة، والعلقة مضغة وهكذا، أما الحمل الخارق فلا يقاس على الحمل المعتاد، وكذلك فمن مرجحات هذا القول: أنه لو ثبت حمل مريم لدى قومها فلربّما كانوا رجموها قبل أن تضع حملها؛ لأن تبرئة السيدة مريم ما كانت إلا بنطق وليدها كما أخبر القرآن.
إنَّ الحديث القرآني لا يذكر كيف حملته ولا كم حملته، فهل كان حملاً عادياً كما تحمل النساء، وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة، فإذا هي علقة فمضغة فعظام، ثم تكسى العظام باللحم، ويستكمل الجنين أيامه المعهودة؟
إن هذا جائز، فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية، والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة سيرتها الطبيعية، كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية، فتختصر المراحل اختصاراً، ويعقبها تكوّن الجنين ونموّه واكتماله في فترة وجيزة.
وليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين، فلا نجري طويلاً وراء تحقيق القضية التي لا سند لها.
وقد مال الدكتور صلاح الخالدي إلى ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، من أن الحمل بعيسى لم يستمرّ أكثر من ساعات، وأنها ما أن حملت به وهي في "المكان الشرقي" حتى انتبذت به إلى "المكان القصي" - بيت لحم- وهناك (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة).
ومما يقوّي ميلنا إلى هذا الرأي التعبير بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب الفوري، والتي ترتب المراحل ترتيباً سريعاً فورياً، (فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً، فأجاءها المخاض) في المكان القصي - بيت لحم- الذي ذهبت إليه نخلة ولما أحست بآلام المخاض اضطرت أن تلجأ إلى تلك النخلة، وما كان هناك أحد عندها، وعبر القرآن عن هذه الحالة المثيرة العجيبة بقوله (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة)، أي: جاء المخاض بمريم إلى جذع النخلة واضطرها إلى القدوم إليها، وأكرهها على ذلك، والمخاض: الحامل إذا ضربها الطلق وهذا على معنى التشبيه، كأن الذي في جوفها شيء مائع يتمخض ويتحرك ويضطرب.
وكأن الجنين في رحم الأم يضطرب ويتحرك قبل نزوله وكأنه يسبح فيما حوله من السائل الذي تضمن المشيمة، وإضافة الجذع إلى النخلة يشير إلى أنها نخلة حية خضراء نامية، وليس الجذع ساق نخلة يابساً مقطوعاً ملقى على الأرض، وهذا تصوير قرآني معجز رفيع بديع.

آلام مريم عند الوضع وتمنّيها الموت:

وهناك عند جذع النخلة أخذها الطلق، واشتدّت بها آلام المخاض وأطلقت زفرة شديدة موجعة قائلة (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً)، وهذه الآية الكريمة تصور لنا من خلال الكلمات الواصفة والكاشفة عن مشهد آخر من مشاهد قصة السيدة مريم، وإننا نكاد نرى من خلال تلك الكلمات المصورة السيدة مريم البتول وهي تواجه آلامها الجسدية والنفسية، فها هي ذي تشق طريقها بحملها لتتوارى بعيداً عن أعين الناس وعن أهلها خوفاً من المواجهة التي باتت وشيكة بينها وبينه؛ خوفاً من وصمها بما لم تقترفه ولم تتصف به أصلاً في لحظة من لحظات حياتها، تلك كانت آلامها النفسية، لأنها تتيقن أن الناس لن يصدقوا أن مولودها جاء من غير أب.
أما آلامها الجسدية فتتمثل في تلك الآلام التي تشعر بها المرأة عند مخاضها، إنها تواجه طلق الولادة وحدها في مكان قصي بعيدة عن أهلها، ولا علم لها ولا خبرة بمثل هذه الأمور، ولا معين لها في شيء ولا تملك من مقومات الحياة شيئاً، لذا فإنها تمنت الموت، فقالت (يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً)، لقد تمنت الموت خوف العار والفضيحة، وهي الطاهرة البتول التي اصطفاها الله لتكون موضع آية عظيمة من آياته، أو أمناً من خوض الناس في معصية بما افتروا عليها حتى لا تكون سبباً في عذابهم وسخط الله عليهم.
(وكنت نسياً منسياً): لم أخلق، ولم أك شيئاً ولا يعرف ولا يذكر ولا يُدرى من أنا، فعندما قالت: (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً)، فإننا لنكاد نرى ملامحها ونحسّ اضطراب خواطرها ونلمس موقع الألم فيها، وهي تتمنى لو كانت نسياً منسيا.
وما هي إلا فترة قصيرة عانت فيها مريم ما عانت من آلام المخاض وهي وحيدة فريدة، وهي مستندة إلى جذع النخلة حتى وضعت مولودها عيسى عليه السلام، ومرت فترة قصيرة تستعيد عافيتها وتعود تدريجياً إلى حالتها الطبيعية، وكانت ما زالت على نفس جلستها بجانب جذع النخلة، وما زالت أسيرة هواجسها وأفكارها، وما زالت قلقة منفعلة حزينة مكروبة، وفجـأة سمعت من يناديها من تحتها.

ابنها يناديها من تحتها وما صاحب ذلك من نفحات وبركات:

قال تعالى:﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾(مريم: 24: 26).
في هذه الحالة الأليمة التي ألمت بمريم عليها السلام، وفي تلك اللحظات العصيبة التي مرت بها وهي تعاني من آلام المخاض والوحدة والوحشة والترقّب لما ينتظرها من قومها حين يجدوا معها هذا الوليد في غمرة هذه الآلام الحسية والنفسية تدركها رحمة الله تعالى وجميل ألطافه فيتحول العسر إلى يسر، والضيق إلى سعة، ويولد عيسى وينطقه المولى عز وجل. ويقول لها كما أخبر القرآن (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا).
والراجح الذي ناداها هو عيسى وليس جبريل عليهما السلام، وذلك أن الكلام فيما سبق كله عن عيسى وليس عن جبريل، والضمائر السابقة تعود عليه (فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً فناداها من تحتها إلا تحزني)، ودليل ترجيح هذا القول أيضاً أنها لما ذهبت إلى أهلها وهي تحمله، واستغربوا أمرها أشارت إليه، وهي لم تشر إليه إلا ليتكلم نيابة عنها، وهي لم تفعل ذلك إلا لأنه ناطق، وأنه قد تكلم معها من قبل وقد جرّبت ذلك منه.
ثم إن كون المتكلم معها ابنها الذي ولدته قبل لحظة أبلغ وأظهر في المعجزة؛ لأن كلامه مع أمه ثم مع أهلها بعد ذلك ليس مألوفاً ولا معتاداً، وإنما هو بأمرٍ من الله، ولنتصور مدى مفاجأة مريم الكبرى وهي تسمع ابنها - ابن لحظة - يُناديها ويُكلمها ويشدُّ أعصابها ويرفع معنوياتها.
إن الله تعالى هو الذي ألهم عيسى عليه السلام أن يقول لأمه هذا القول، وأنطقه بهذا الكلام، وإلا فما أدراه بهذه الخطة العلمية الحكيمة، ولم تمضِ على ولادته إلا لحظات، ففي قوله (أن لا تحزني): (أن) حرف تفسير، وما بعدها جملة تفسيرية تفسر لنا نداءه، وتخبرنا بما قاله لها، (ولا تحزني): نهاها عن الحزن ودعاها إلى إزالة ما اعتراها من همّ وكرب، ودعاها إلى الهدوء والطمأنينة وعدم التوتر والقلق والانفعال، فلا تحزني مما حصل، فإن الله معك، يحفظك ويرعاك فها هو الطعام والشراب عندك قدمه الله لك بمعجزة من معجزاته، ولا تحزني في التفكير بمواجهة أهلك فإن الله سيقدم لهم معجزة أيضاً، يعلمون منها براءتك ويوقنون أن الأمر من الله.

أنبع الله لها جدول ماء آية وكرامة:

(قد جعل ربك تحتك سرياً): هذا من كلام عيسى لأمه يرشدها إلى (السريّ) الذي جعله الله تحتها، وقد اختلف العلماء في المراد بالسري الذي جعله الله تحتها، فقال بعضهم: السري هو عيسى عليه السلام: أي مرتفع القدر، عالي المنزلة، أي: لا تحزني، فإن مولودك الذي تحتك الآن سيكون سرياً عندما يكبر، ويجعله الله رجلاً له منزلة ومكانة.
وقيل: السري: هو الجدول - النهر الصغير الجاري - سُمّي بذلك؛ لأن الماء يسري فيه، وعلى هذا القول عامة المفسرين.
وعلى قول عامة المفسرين: (قد جعل ربك تحتك سريا): أجرى الله لك جدول ماء، وها هو يسري ويسيل ويجري ويمر في سريانه من تحتك فلا تحزني، ويشير هذا إلى أنه لم يكن في المكان سري -جدول ماء - من قبل، وإنما فجّر الله لها الماء وأنبعه عندما لجأت إلى جذع النخلة، وجعله يمر من تحتها، ويتابع سريانه وجريانه، وكان هذا خارقة من الخوارق المتتابعة والمعجزات التي أجراها الله، وصاحبت خلق عيسى والحمل به وولادته.

أثمر الله لها النخلة في غير الموسم آية وكرامة:

بعدما أشار عيسى إلى سري الماء الجاري تحتها، أرشدها إلى النخلة التي تستند إليها قال تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ (مريم: 25).
إن النخلة التي أُلجئت إليها والتي ولدت تحتها والتي أُمرت أن تهز بجذعها إليها، كانت نخلة نامية خضراء حية، ولم يكن إثمار النخلة إثماراً عادياً طبيعياً، ولو كان كذلك لكان ميلاد عيسى عليه السلام في الصيف؛ لأن وقت نضوج التمر يكون في الصيف وهو موسم جني التمر، ويذهب النصارى إلى أن ولادته كانت في الشتاء في الخامس والعشرين من كانون الأول.
ولا تكون النخلة مثمرة في هذا الوقت، ولا يكون البلح رطباً جنياً، إن إثمارها كان إثماراً خاصاً، معجزة من الله سبحانه، حيث أمر النخلة أن تثمر البلح، وأن ينضج البلح ليصبح تمراً، وأن يتحول إلى رطب جنياً، وجرى هذا كله في لحظات، وطالما الأمر أمر الله، فلا غرابة في ذلك، لأنه فعال لما يريد، ويقول للشيء كن فيكون، كما أراده، وإن كل ما أحاط بعيسى عليه السلام كان معجزات خارقة، وليس من الأمور المعروفة.
وإذا كنا قد رجحنا أن إنباع السري كان معجزة من الله، وأنه لم يكن الماء جارياً من قبل، فإن هذا يؤكد أن إثمار النخلة كان معجزة أيضاً، ليتكامل الطعام مع الشراب، فتأكل من الرطب الجني، وتشرب من ماء السَّري.
وقد قال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾(المؤمنون: 50). وتنكير كلمة (آية) للتعظيم؛ لأنها آية تحتوي على آيات، ولما كان مجموعهما دالّاً على صدق عيسى في رسالته جعل مجموعهما آية عظيمة على صدقه.
وقوله (وآويناهما إلى ربوة) فهو تنويه بهما، إذ جعلهما الله محل عنايته ومظهر قدرته ولطفه، والإيواء: جعل الشيء أوياً، أي ساكناً، و(الربوة): المكان المرتفع من الأرض، والمراد بهذا الإيواء: وحي الله لمريم أن تنفرد بربوة حين اقترب مخاضها لتلد عيسى في معزل من الناس، حفظاً لعيسى من أذاهم، و(ذات قرار): أي مستوية يستقرّ عليها، وقيل: ذات ثمار، والقرار: المكث في المكان، أي صالحة لأن تكون قراراً لاشتمالها على النخيل المثمر، فتكون في ظله، ولا تحتاج إلى طلب قوتها، و(معين): المعين هو الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، أي: ماء معين.
ورعاية الأم لوليدها فطرة الله تعالى، وشرعة الله للبشرية منذ آدم عليه السلام إلى يومنا هذا.

سنة الله في الأخذ بالأسباب:

أمر عيسى أمه أن تهزّ جذع النخلة، وأن تميلها إليها، ليتساقط عليها الرطب الجني منها قال تعالى: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ (مريم: 25).
لقد أوجد الله لمريم عدة معجزات خوارق، بدون جهد منها، منذ أن كانت متبتلة في المحراب حيث أتاها الرزق المنوع، إلى أن أنبع لها سري الماء وأثمر لها النخلة بالرطب، لقد كان الله قادراً على إنزال الرطب عليها دون جهد ولا حركة منها، ولكنه أراد أن تتحرك هي بحركة مادية خفيفة، أن تلمس جذع النخلة بيديها، والباقي ليس عليها، بل على الله.
هي لم تهز جذع النخلة في الحقيقة؛ لأنها ضعيفة وإنما الله هو هزها وحركها في الحقيقة، هي كانت سبباً مباشراً في تحريك النخلة، عندما وضعت يديها عليها، والله هو المسبب والمقدر، أوجد في النخلة التحريك وأمرها أن تسقط الرطب الجني، فتحركت، وأسقطت.
أمرها الله بهز جذع النخلة، لتأخذ بالأسباب، حيث رتب تساقط الرطب على هزها جذع النخلة، وهذا درس إيماني عقيدي لها، أن لتربط بين التوكل على الله، وبين الأخذ بالأسباب، والأهم من هذا أنه درس إيمانيّ عقيدي لنا، لنربط بين الأسباب والمسببات وننسق بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، فكل مؤمن يعتقد جازماً أن الله هو الضار والنافع، وأنه لا مانع لما أعطى الله، ومعطي لما منع الله، ومن ثم يتوكل على الله، ويفوض أمره إليه، ويوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا التوكل والتفويض يوجب عليه أن يأخذ بالأسباب، ويبذل الجهود، ليأتيه ما قدره الله له، وحركة مريم رضي الله عنها دليل على وجوب الأخذ بالأسباب، لتأتي المقادير والأرزاق.

تغيُّر في الحالة النفسية لمريم عليها السلام:

وبعدما أمر عيسى عليه السلام أمه أن تهز جذع النخلة أمرها أن تأكل وتشرب: (فكلي واشربي وقري عيناً)، كلي من الرطب الجني الناضج الطيب الذي تساقطه عليها النخلة، واشربي ماء من الجدول السَّري الذي أجراه الله تحتك، ولا تخشَي جوعاً ولا عطشاً.
إن قوله تعالى (وقري عيناً) فيه إسناد القرار والرضى والسعادة إلى مريم، فقد جعل (عيناً) تمييزاً لكون العين أبرز عضو في الإنسان، تنعكس عليه علامات وآثار الرضى والسعادة، ولهذا يقال: هو قرير العين، أي: هو هادئ ساكن سعيد مطمئن، إن قوله تعالى (وقري عيناً) يدل على الحالة النفسية العالية التي نقل الله مريم رضي الله عنها إليها، فقد كانت قبل الولادة في غاية التوتر والانفعال والقلق، وتجلى هذا في قولها (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً).
أما بعد الولادة وخروجها منها بسلامة وسماعها مخاطبة وليدها لها، فقد رأت علامات عناية الله بها، وحفظه لها، وهي تعيش في ظلال معجزاته التي قدمها لها، فها هي تأكل الرطب وتشرب الماء من السري، وتأنس برؤية وليدها وتسعد بمخاطبته لها، ولذلك عاشت حالة نفسية عالية متألقة من قرارة النفس، ومن الرضى والسرور والسعادة والطمأنينة، وانعكس هذا كله على كيانها، لكنه كان أبرز ما يكون انعكاساً على عينها.
وهكذا أرشد المولود عيسى عليه السلام أمه إلى التعرف السليم السريع وهي ما نزل تحت النخلة: أن لا تحزن وتقرَّ عيناً، وتهزّ إليها جذع النخلة، وتأكل من الرطب الجني، وتشرب من ماء السري، ونفذت مريم ما سمعته من وليدها وأخذت حاجتها من الطعام والشراب، وزال حزنها وقلقها، وكانت قريرة العين مسرورة النفس.

فوائد الرطب للنفساء:

في أكل مريم عليها السلام من الرطب إشارة إلى ما أثبت الطب من أهمية الرطب للمرأة النفساء، حيث أثبتت الأبحاث العلمية أن الرطب يحتوي على مادة تقوي عمل عطلات الرحم في الأشهر الأخيرة للحمل، فتساعد على الولادة من جهة، كما تقلل كمية نزف الدم الحاصل بعد الولادة من جهة أخرى، ويحتوي الرطب على نسب عالية من السكريات هي مصدر الطاقة الأساسي وهي الغذاء المفضل للعضلات، وعضلة الرحم من أضخم عضلات الجسم، وتقوم بدور كبير أثناء الولادة، وإذا كان علماء التوليد يقدمون للحامل في حالة المخاض الماء والسكر، فإن الآية الكريمة قد نصت على إعطاء السوائل (فكلي واشربي)، كما أن الرطب يخفض ضغط الدم عند الحوامل فترة ليست طويلة، ثم يعود لطبيعته، وبانخفاض ضغط الدم تقل كمية الدم النازفة، والرطب أيضاً من المواد الملينة للقولون، ومن المعلوم طبياً أن المليِّنات النباتية تفيد في تسهيل وتأمين الولادة.

(إني نذرت للرحمن صوماً):

تابع وليدها عيسى عليه السلام إرشادها إلى التصرف المناسب عندما تواجه أهلها، فقال لها: (فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً).
قال عيسى عليه السلام لأمه: اذهبي إلى أهلك أنت تحملينني، فإن شاهدت أحداً من البشر سوء كان من أهلك أو من غيرهم، واستغرب منك لأنك تحملين على حضنك ولداً، وسألك عن سر الأمر فلا تجاوبيه ولا تكلميه، وأعطيه إشارة يفهم منها أنك صائمة عن الكلام، وناذرة أن لا تكلمي أي إنسان، وأحيلي عليّ، وأنا سأتولى الكلام والشرح.
هذا هو المعنى المفهوم من هذه الجملة الشرطية القرآنية: (فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً)، فمعنى: (فقولي): أشيري لمن يكلمك ويسألك إشارات باليد أو غيرها، يفهم منها أنك صائمة عن الكلام، ممتنعة عن مخاطبة الناس، واعتبرت الآية هذه الإشارات قولاً؛ لأنها تسد مسدّ القول، وتفهم الشخص المقابل المراد، فكأنهما قول خارج من الفم، وبعض الإشارات باليدين والعينين واللسان وغيرها قد تعبر عن ما في النفس، وتفهم الشخص المقابل مثل الكلام الخارجي من الفم أو أكثر، ولغة الصم والبكم تقوم على الإشارات باليدين، ولتلك الإشارات قاموس خاص، ولكل إشارة رمزٍ جمل معدودة، تشير لمن يسألونها وتفهمهم أنها نذرت للرحمن صوماً.
والنذر هو قربة وعبادة يتقرب بها الناذر إلى الله بأداء المنذور، وذكر النذر في قصة مريم رضي الله عنها دليل على أنه كان عبادة يعرفها المؤمنون السابقون ويتقربون بها إلى الله.
وقوله: (إني نذرت للرحمن صوماً) عني به الإمساك عن الكلام، بدلالة قوله بعده: (فلن أكلم اليوم إنسياً). والمعنى: أن كل من أمسك عن شيءٍ، وامتنع عن فعله فهو صائم عنه، ومعنى الصوم هو الإمساك عن الفعل مطعماً كان أو كلاماً أو مشياً، فهناك من صام عن الطعام وهناك من صام عن الكلام وهكذا، فالصوم في الآية المذكورة والمقصود به الإمساك عن الكلام، وعلى مريم أن تشير لكل من سألها أنها صائمة عن الكلام، ولذلك لا تكلم أحداً من البشر الإنس (فلن أكلم اليوم إنسيا). (والإنسيُّ): هو الشخص المنسوب إلى الإنس، عكس الجني، المنسوب إلى الجن.
لقد جعل الله صوم مريم وصمتها عن الكلام آية لها ودليلاً على براءتها وطهارتها، فبينما صامت هي عن الكلام، وهي القادرة عليه، فقد أنطق الله وليدها عيسى عليه السلام الذي لم تمض على ولادته إلا فترة يسيرة وهو في المهد، فكان كلامه أقوى وأبلغ في إزالة التهمة عنها، كما أن السكوت عن السفهاء وعدم الرد عليهم من أخلاق الصديقة البتول العفيفة الطاهرة المطهرة.

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م ص (140:127)
- محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م، ص. ص 213-215.
- صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1، 1419ه – 1998م، 4/262.
- أحمد الشرقاوي، المرأة في القصص القرآني، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2001م، ص. 2/745.
- ابن فارس، مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، القاهرة، 1399هـ -1979م، ص 977.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022