الأربعاء

1446-10-04

|

2025-4-2

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1)

(الأمير عبد القادر وسلطان المغرب)

الحلقة: الثانية والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020

كان تأثير رسائل سلطان المغرب ضعيفاً على النفوس في البداية، واستمر الأمير عبد القادر في جهاده بمعاونة هذه القبائل، إلى جانب إرسال المبعوثين الأكفياء لتوعية زعماء القبائل في الثغور والصحراء. وتولد لدى الأمير شعور بأن السلطان اتخذ قراره بعد تلك المعاهدة، وأن المظاهرات والاحتجاجات التي قامت بها القبائل على الحدود جعلته يعيش في قلق وخوف وليس من قنابل بيجو، وإنما من شعبية عبد القادر ؛ التي وصلت إلى حد مبايعته، أسوة بأشقائهم الجزائريين، ولكن الأمير رفض وبشدة، وأرسل إلى السلطان رسائل يطمئنه بها ؛ أنه ليس له أطماع بعرشه، ولا يهدف لأكثر من تطهير الجزائر من الفرنسيين.
وبعد نقل الزمالة إلى قرب الحدود المراكشية، أشار على الأمير خلفاؤه أي وزراؤه بالقيام بعمل أكثر إقناعاً للسلطان من الرسائل.
وفي صباح أحد أيام الخريف عقد اجتماعاً لمجلس الشورى في أحد مضارب الديوان، وبعد جلوس الجميع تكلم الأمير، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ؛ الذي لا يجوز لنا القيام بأي عمل إلا بعد ذكر اسمه تعالى، والان سأطلعكم على رسالة السلطان عبد الرحمن إلى أحد زعماء قبائل بني زناسن وقعت بيد أحد أعواننا، سلمها إليّ وهي من ستة رسائل أرسلت إلى القبائل.
إن السلطان يحرض القبائل على التمرد كما ترون، ويتدخل في شؤون دولتنا، وأكثر من ذلك إنه يطلب من هذه القبائل تقديم العون للفرنسيين؛ الذين عقد معهم صلحاً دائماً يعدّه مشرفاً، ويعتبر عودتنا إلى الحرب بعد صلح تافنة عملاً جنونياً مخالفاً للشريعة الإسلامية. وتابع الأمير كلامه فقال: يبدو أن السلطان كان يريد منا اقتسام الوطن بيننا وبين العدو، أي تقسيم التراب الجزائري، لذلك تراجع عن تأييدنا بعد عودتنا إلى الحرب، إنه لا يريد إزعاج العدو ولا مقاومته وإنما القبول بوجوده والاعتراف به رسمياً، والخضوع لمطالبه، ووضع مصالحه في المقام الأول في سياستنا وجيشنا، يجب أن تكون مهمته حماية نظام يكفل للفرنسيين مصالحتهم. وباختصار يريد السلطان منا أن نكون عملاء لا حكاماً أمراء.
ءَفوقف محمد عبد الرحمن رئيس قبيلة الأحلاف بعد انتهاء الأمير من كلامه، واقترح إرسال وفد من ذوي المراكز الكبيرة في الدولة، لمقابلة السلطان باسم الأمير ومحاولة إقناعه بنوايا أمير البلاد الطيبة نحوه، وبأن الأمير ليس له مطامع أكثر من تحرير البلاد، وتم تشكيل الوفد في تلك الجلسة بعد أن تقدم خليفة الأمير ونائبه البوحميدي الولهاصي، وتقدم أيضاً محمد بن عبد الرحمن الخليفـة الاخر للأمير، وسار الوفد في اليوم الثاني من شهر (أيلول عام 1847م) وأخذت القافلة تبتعد رويداً رويداً والأمير ينظر إليها يا له من حدث موجع، ولكن لابد منه إنه أخرسهم في الكنانة، ومضت القافلة تحت ظلال الشفق الممتد فوق الغابات حتى كثبان الصحراء، والتفت الفارس يلقي آخر نظرة على الزمالة مودعاً وتوارت القافلة وراء أشجار الصنوبر والبلوط، تحف بها قلوب المجاهدين، وأيديهم مرفوعة بالدعاء إلى الله ترجو لهم التوفيق.
وقف الأمير عبد القادر وسط ذلك الجمع وارتجل هذه الأبيات، فقال وهو في طريق عودته إلى داخل المضارب:
قلدت يوم البين جيد مودِّعي درراً نظمت عقودها من أدمعي
وحدا بهم حادي المطايا فلم أجد قلبي ولا جلَدي ولا صبري معي
ودّعتهم ثم انثنيت بحسرة تركت معالم معهدي كالبلقع
ورجعت لا أدري الطريق ولا تسل رجعت عِداك المبغضون كمرجعي
يا نفس قد فارقت يوم فراقهم طيب الحياة ففي البقا لا تطمعي
وصل الوفد إلى فاس، فاستقبل السلطان المجاهد البطل البوحميدي بكأس من السم أفقدته الحياة، واستشهد هذا الفارس وهو يقوم بمهمة جليلة، وفي حصن تازة استشهد أيضاً باليوم نفسه خليفة الأمير على المدية محمود بن عيسى البركاني.
وصلت أخبار هذه المصائب إلى الأمير عبد القادر فاستقبلها استقبال المؤمن بالقضاء والقدر، وكانت خيبته في سلطان المغرب كبيرة، لقد رضخ لضغوط فرنسا ووقع معها معاهدة سلام يوم (10 سبتمبر 1844م)، وكان من أهدافها وضع الأمير عبد القادر في وضعية الخارج عن القانون في كامل التراب المغربي والجزائري.
وقد استشاط الشعب المغربي غضباً، وأراد مبايعة الأمير عبد القادر، ولكنه رفض ذلك فقد كان الشعب المغربي يكنُّ للأمير تعاطفاً معه، ويعتبره بطلاً للجهاد، كان لذلك الاتفاق أثر سيء على الشعب الجزائري والمغاربي، وكانت تلك المعاهدة بين سلطان المغرب وفرنسا بإشراف إنجليزي.
1 ـ معركة ايزلي «وعواقبها»:
كانت معركة ايزلي الشهيرة التي سميت كذلك لأنها وقعت على ضفاف وادي إيزلي، بالقرب من وجدة، حيث كان ابن السلطان معسكراً هناك، فقط بغية حماية حدوده وليس الهجومتعد هذه المعركة الحاسمة ـ حسب بيجو ـ من ضمن أحداث الحرب الأكثر إثارة للدهشة، وقد ظهرت عنها العديد من التأويلات، بحيث لم يصبح أمامنا إلا الافتراضات. أولاً وقبل كل شيء فإنه من المستحيل أن يتم سحق الجيش المغربي، الذي كان الفرنسيون يقدرونه بـ (30000) رجل في بضع ساعات ؛ إلا إذا قبلنا بأن المهمة التي أسندت إلى المغاربة في حالة هجوم فرنسي ؛ هي الاكتفاء بطلقات بارود شرفية خاصة، وأن الاتفاق الذي عقد السلم الذي أرضى السلطان ؛ قد توصل إليه بدعم وضمان من إنجلترا.
أما الافتراض الثاني، فهو أن عدد القوات المغربية قد بولغ فيه، وحسب أحد المؤرخين «الملمين بالموضوع»، فإنه كان أقل حتى من جيش بيجو، وكانت ستسحقه «القوة العددية» لجيش بيجو، إلا أن هذا الافتراض لا يفسر كيف يمكن لمعركة أن تنتهي في مثل ذلك الوقت القصير، حتى وإن أخذنا بعين الاعتبار عدم كفاءة الأمير المغربي أمام خبرة الجنرال، فهذا الأخير كان قد أعلن من قبل أنه يملك جيشاً، بينما «لا يملك محمد إلا حشداً من الغوغاء، وأنه سيخترقه اختراق السكين للزبدة». والحقيقة أن الأمير الذي كان يراقب المعركة صحبه (1500) فارس على بعد بضعة أميال منها لم يكن يستطيع ـ حتى وإن رغب ـ أن يتدخل أمام كارثة لم تكن سريعة فقط، بل حاسمة كذلك، ولو أنه لاحظ روحاً قتالية من جانب جيش سلطان المغرب، ومعركة حقيقية قد اندلعت لكان قلب بثقل عبقريته وبسالة رجاله الكفة، ولتقبلهم إخوانهم المغاربة بالفرح والسرور.
الشيء المؤكد الوحيد هو أن هذه المعركة مهما كانت طبيعتها كانت حاسمة بالنسبة لبيجو، فقد كان يقول لجنوده: إن مستقبل الجزائر يتوقف على هذه المعركة، فإذا خسرناها سوف نضطر للعودة من حيث أتينا. وقد كان يقول الحق ؛ لأن الاتفاق الذي كان السلطان قد قبله سيصبح غير ذي موضوع، وهذا لن يكون إلا في صالح الأمير، وكانت إنجلترا ستعدل موقفها دون أن تمنع السلطان من مساعدة الأمير مع الاحتفاظ بعرشه، وكانت ربما ستقنع حكومة باريس بضرورة الخروج من مأزقها في الجزائر، لقد كان للانتصار صدى كبير في باريس، وتحصل بيجو إثره على لقب «دوق»، كما سمي أول شارع كبير في الجزائر باسم هذه المعركة.
2 ـ استمرار الحرب:
على الرغم من عناده ووسائله البربرية، فإن بيجو لم يتمكن من القضاء على الأمير، حيث إنه كان في كل مرة يبشر بنهاية أمره، كان خصمه الذي لا يقهر يبرز من جديد بضربات موجهة ضد الجيش الفرنسي، ويعيد إشعال نار الحرب التي لم يكن يريدها وإنما فرضت عليه فرضاً.
وفي الأيام الأخيرة، وبينما كان من عادة بيجو أن يدلي لمحيطه ببيانات صاخبة حول نهاية عبد القادر، فإنه في أوائل (1844م) عندما كان الأمير لاجئاً في المغرب لإعادة تنظيم قواته قام بيجو باقتراح حقيقي على الأمير، بواسطة «ليون روش» رجل المخابرات الفرنسية، وكان الاقتراح بأنه نظراً لأن الحرب قد انتهت بالنسبة للأمير، فإن بيجو سيسمح له ويساعده هو وحاشيته على الذهاب للعيش بمكة، وقد كان رد الأمير: إن ساعة جهاد الكفار تساوي أكثر من سبعين سنة في العيش بمكة.
إن وضعيته «الخارج عن القانون» التي جاءت لها معاهدة طنجة لم تكن بطبيعة الحال قابلة للمعارضة، ولذلك فإنه انطلاقاً من التراب المغربي ـ أين كان مقره ـ كان يفكر في القرون التي سيرجع فيها إلى الجزائر، وأيضاً في الحالة اليائسة التي كان عليها هو ودائرته، وقد تمكن بن سالم بعد الكارثة التي ألحقها به بيجو في (17 ماي 1844م) وما تبعها من تدمير لخمسين قرية قبائلية في أسفل منطقة سباعو من الاتصال بالأمير بعد التعبير عن القلق الذي تولد عن غيابه، طلب بن سالم من الأمير أن يظهر من جديد، ليبعث الأمل في نفوس المسلمين الذين انتابهم اليأس.
ومن المؤكد أن هذا الحدث قد أثبت للأمير بأن النهاية لم تحن بعد، وأن الوضعية وإن كانت خطيرة فإنها ليست ميؤوساً منها، وأن وجوده مع رعاياه حتى أولئك الذين كانوا تحت نيران الاستعمار كان ضرورياً وسيمكنه من مواصلة الجهاد.
ومن الرسائل التي جاءت من أحمد بن سالم إلى الأمير مكتوب فيها: لقد أشاع المرجفون ما لا نقدر على ذكره، ودخل الشك على الناس في وجودكم الشريف، وأشاعوا أن والدتكم تصدر المكاتيب والتحارير اللازمة باسمكم الكريم، وقد بلغني أن الفرنسيين عازمون على الزحف إلى بلادنا وليس عندي ثقة أكيدة بطاعة القبائل وانقيادهم إلى كلمتي، فأنا أسألكم بالله تعالى أن تردوا إلي الجواب عن هذا المكتوب بخط يدكم الشريفة. فأجابه الأمير بخطه: إني اطلعت على مكتوبكم مخبراً بأن خبر موتي قد امتد إلى الشرق، فاعلم أن الموت لا مفر منه ولا محيد عنه، إذ هو من قضاء الله الذي لا يرد، والاقتدار ما أؤمل به مهاجمة أعداء ديننا، فكن في راحة ساكن البال صبوراً، ومتى استقر الأمر لنا هنا نتوجه إلى نواحيكم.
وبعد نقل الأمير الزمالة إلى المغرب الأقصى قرر الاستمرار في غزواته على القوات الفرنسية داخل الجزائر، وعمل بيجو على التصدي له، وقال لهيئة أركانه: إن قلوب المغاربة تعلقت بعبد القادر، بسبب اتباعه للشريعة الإسلامية، بحيث صارت القوافل تسير في المناطق التي يتواجد فيها بأمان، عكس المناطق الأخرى. إنه يمثل خطراً على فرنسا وهو في المغرب الأقصى أيضاً. وأرسل إلى حكومته يخبرها بخطر الأمير في المغرب ويطلب منها التدخل لدى السلطان لوضع حد لوجوده هناك.
وأمر بيجو الجنرال لاموريسيير والجنرال بيدو بالتوجه إلى الحدود المغربية، فنزلا في مقام السيدة مغنية شمال تلمسان، وقاما بهدم مقام الولية مغنية التي يجلّها السكان. وعلى إثر استفزاز الفرنسيين للحدود المغربية، وسخط الشعب المغربي من ذلك، خشي السلطان ثورة الرعية عليه فبعث إلى عماله بوجدة ابن الكناوي طالباً منه الاتصال بالفرنسيين، والطلب منهم الكف عن الاستفزاز.
فاستهزأ الضباط الفرنسيون برسوله، فزحف الكناوي على رأس جيش على الفرنسيين الذين دخلوا التراب المغربي، وانهزم الجيش المغربي، وهي أول معركة بين المغاربة والفرنسيين.
وبعدها كانت معركة إيزلي التي انهزم فيها الجيش المغربي، وهددت بريطانيا فرنسا بالحرب، ودخل الطرفان في مفاوضات طلب فيها الفرنسيون من السلطان: اعتبار الأمير عبد القادر في المغرب خارجاً عن القانون، ومنع المواطنين المغاربة من التعامل معه، ودفع غرامة (12) مليون فرنك فرنسي. وأبرمت اتفاقية طنجة في (10/9/1844م) ومعاهدة لاله مغنية بين المغرب وفرنسا يوم (18/3/1845م) وانتشر السخط بين الشعب المغربي على السلطان ؛ الذي انهزم جيشه في أول معركة مع الفرنسيين خلال ساعات، وقبل الشروط المجحفة التي فرضها عليه الفرنسيون، وارتفعت أصوات الكثير من القبائل تطالب بالثورة على السلطان، وإعطاء الطاعة للأمير عبد القادر ؛ الذي كاتبه بعض رؤسائها، فرفض مسعاهم طالباً منهم الوفاء للسلطان، راح الأمير يرسل الوحدات تغير على القوات الفرنسية في الجزائر، وعلى القبائل المتعاملة معها، ووصلت هذه إلى سيدي بلعباس وتيارات وتاكدامت، فذعر بيجو وجنرلاته لهذا واتصلوا بالسلطان فهددوه،أرسل هذا إلى الأمير يطلب منه المغادرة، ولما وصل رسول السلطان أدرك أن الأمير لا يمثل خطراً على السلطان، بل إنه يحث القبائل المغربية على ولائها للسلطان، وأن هدفه الجهاد داخل الجزائر.
3 ـ مساندة أبطال المغرب للأمير عبد القادر:
ومن أبطال المقاومة الجزائرية أبو معزى، وهو مراكشي من أولاد سيدي الطيب بنواحي وزان، دخل الجزائر حوالي سنة (1835م) وقام بنشر دعاية ضد الفرنسيين في مناطق وهران الجنوبية، ثم انتقل إلى زواوة يحث أهلها على الجهاد، فاستطاع أن يجمع حوله خلقاً كثيراً، وبما أنه كان مستقلاً في حركته عن الأمير عبد القادر ؛ فقد ظن الفرنسيون أولاً أنه يمكنهم الاعتماد عليه في إضعاف سلطة الأمير، ثم عادوا يرهبون منه، بعد أن نازلهم سنتين كبدهم فيها خسائر فادحة، وتوج عمله بالانضمام إلى الأمير عبد القادر الذي عينه خليفة له على جبال زواوة، فقاتل معه إلى أن اضطر الأمير سنة (1845م) إلى الالتجاء لمراكش، فعاد أبو معزى إلى الجزائر، واستمر في قتاله، ولما عاد الأمير في نفس السنة انضم إليه مرة أخرى أبو معزى، والتفت من حولهما كافة قبائل وهران والجزائر، وسجلوا النصر العظيم على الفرنسيين في معركة سيدي إبراهيم بغرب جامع الغزوات، الأمر الذي اضطر من أجله «بيجو» لطلب جيش قوامه عشرة الاف جندي قسمها إلى ثمانية عشر جحفلاً، طارد بها الأمير وخلفاءه، فوقف أبو معزى وقفة عظيمة واستمر في القتال حتى تغلبت عليه هذه الجحافل، واضطر للاستسلام، فاعتقل في حصن «هام» بشمال فرنسا في نفس الغرفة التي كان نابليون الثالث معتقلاً فيها قبل توليه الحكم، وبعد ما وقع العفو عنه انتقل إلى تركيا، حيث رحب به العثمانيون وخصصوا له معاشاً.
وفي حرب القرم انضم للجيش العثماني، وقاتل في صفوفه وسقط في القوقاز في أسر الروم، ثم توفى في مدينة باطوم، وقد ادعى من بعده ستة أفراد جزائريين أنهم هم أبو معزى، وقد جرح هذا الأخير في إحدى المعارك وأسر، ثم أحيل إلى المحكمة العسكرية فكان موقفه رهيباً، وجرى بينه وبين رئيس المحكمة الحوار الآتي:
ـ سأله الرئيس: من أنت؟
ـ قال: أنا بو معزى.
ـ لماذا قاتلت فرنسا؟
ـ لكونها دولة باغية طاغية معتدية علينا.
ـ ألم تر أن العرب انضموا إلينا؟
ـ هؤلاء العرب قسمان: الأكثرية منهم أبرياء يخافون على حياتهم، والأقلية سفلة خونة لا يبحثون إلا عن
رضا الحاكم مهما كان، وعن توشيح صدورهم بشريط أحمر.
ـ ماذا تنتظر منا؟
ـ لا يهمني ما أنتظره منكم.
ـ وإذا أطلقنا سراحك ماذا تفعل؟
ـ أعود للجهاد في سبيل الله.
ـ وإذا قاتلناك؟
ـ سأتقدم لله ناطقاً بالشهادتين.
ـ وإذا سجناك؟
ـ سأقضي أوقاتي عابداً طالباً من الله أن ينصر العدل على الظلم
ـ لماذا تكرهنا؟
ـ لأنكم ظلام طغاة.
وقد حكم عليه بالسجن ثم أطلق سراحه بعد ذلك
ط ـ الأمير عبد القادر ينطلق من المغرب وينجد خليفته ابن سالم في زواوة:
ثم انتقل الأمير في لمح البصر فغزا قبيلة صدامة في وادي العبد متجاوزاً بيجو ولاموريسيير اللذين لم يكونا بعيدين عنه، ثم قبيلة الأحرار، وغنم منها وراح ينتقل من قبيلة إلى قبيلة، ويفرض الطاعة عليها، أو تعود له طوعاً واقتناعاً منها بأنه عاد من غيبته قوياً، ولم يزل ينتقل إلى أن وصل إلى زواوة ودخل جبال جرجرة، والتقى بخليفته السيد أحمد بن سالم، وعلم بتعقب العدو له فقطع أربع رحلات في رحلة واحدة، فسمي بأبي ليلة ؛ لأنه لا ينام في مكان أكثر من ليلة. غزا بني هيدورة من القبائل الذين دانوا بالطاعة للفرنسيين ، وما إن حل ببلاد القبائل حتى اجتمعت له قبائل زواوة فاختار منهم (5000) فارس وغزا بهم متيجة من الشرق ، وراح يدمر مزارع الكولون ويحرق منشاتهم وهرب من نجا من الموت لائذاً بأسوار الجزائر، قام بكل ذلك وبيجو يبحث عنه في عمالة وهران، ثم تحرك عائداً نحو الغرب حتى نواحي المدينة، ناشراً بين الناس أنه عاد للجهاد بقوة، ثم عاد لجرجرة ومنها توجه إلى الشمال، ونزل بأرض فليسة قرب دلس، وراح يشن الغارات المتتابعة على سهل متيجة، وقد مضى عليه أكثر من سنة بعيداً عن زوجته وأهله، فأنشد شعراً قال فيه:
بنيّ لئن دعاك الشوق يوماً وحنّت للّقا منا القلوب
ورمت بأن تنالَ مني وصلا يصح بعيدَه القلب الكئيب
فإني منك أولى باشتياق وناري في الفؤاد لها لهيب
وإن أخفي اشتياقي في فؤادي فإن الشوق يكتمه الأريب
وفي تلك الأيام العصيبة قال قصيدة أخرى ذكر فيها أهل الجهاد:
لنا في كل مكرمة مجال ومن فوق السّماك لنا رجال
ركبنا للمكارم كل هول وخضنا أبحراً ولهذا زجال
لنا الفخر العميم بكل عصر ومصر هل بهذا ما يقال؟
ورثنا سُؤدداً للعرب يبقى وما تبقى السماء ولا الجبال
فبالجد القديم علت قريش ومنا فوق ذا طابت فعال
وكان لنا دوام الدهر ذكر بذا نطق الكتاب ولا يزال
ومنّا لم يزل في كل عصر رجال للرجال هم الرجال
لهم همم سمت فوق الثريا حماة الذين دأبهم النضال
سلوا عنا فرنسا تخبركم ويصدق إذ حكت منها المقال
فكم لي فيهمو من يوم حرب به افتخر الزمان ولا يزال
وهكذا تمكن الأمير في سنة من قطع مئات الكيلومترات والاتصال بعشرات القبائل والدخول لبلاد زواوة وإعادة خليفته البطل ابن سالم إلى وضعه بعد أن ارتفعت معنويات القبائل، وجن جنون بيجو فهو يطلبه في الغرب فيظهر في الشرق مهاجماً متيجة بجيش قال فيه المؤرخ البريطاني شرشل: عجب الفرنسيون من شجاعة عبد القادر وسرعة اختفائه، فكأنه يطير في الهواء. فشهد له في محافل باريس الجنرال يوسف بأنه أشجع ما عرفت الأمم من الرجال وبأن غرابة اختفائه السريع تحير العقول.
ويقول النقيب كلير: إن الحملة التي قام بها هذا الأمير أثارت إعجاب كل العسكريين الذين ينحنون بالرغم عنهم أمام هذه العبقرية، إنه العدو اللامرئي والذي يوجد في نفس الوقت في كل مكان، فهو يخترق الصحارى ويتسلل عبر منحدرات جبل عمور، ويدخل سهول المغرب بعد أن يوجه قبائل الغرب نحو الحدود، ثم يظهر فجأة بالشرق بعد أن يقوم بالانتقام من القبائل المتعاونة معنا، وبحركة ذاتية يمر بفرسانه الألف والخمسمئة بين طوابيرنا فيقطع عشرين رحلة في ليلة واحدة، كيف يمكنك أن تواجه هذه الحركة العجيبة بقيادة طوابير عاجزة ومنهكة في المطاردة، ووحدات متعبة وبمعنويات متدنية بسبب نتائج سلبية، إننا نعتمد على الوقت أكثر من اعتمادنا على عبقرية الذين يقودوننا.
توجه الأمير غرباً محاذياً للصحراء والعدو يطارده، والقبائل تتجنبه خوفاً من بطش وانتقام الفرنسيين وإفقارهم لها، وعندما نزل على أولاد السيد ابن الشيخ البكري في بلدتهم بالبيّض تلقوه بالتكريم والاحترام، وقال له كبيرهم: إنا نسألك بالله تعالى ألا تعرضنا للحرب والبلاء مع عدو ديننا ودنيانا بإقامتك عندنا في بلادنا، فإن الفرنسيين لا يخفى عنادهم وظلمهم، ولولا أنهم أشد الخلق عتواً وظلماً واعتداء ما تسلطوا علينا، وقصدوا أن يملكوا بلادنا، وأين بلادهم؟ فهم في بر ونحن في بر اخر، ومع ذلك فهم اعتدوا علينا، وقصدوا أن يملكوا بلادنا ورقابنا. فلما سمع الأمير عبد القادر قول هذا الشيخ رق لهم وأشفق عليهم، وارتحل عنهم مغرباً إلى دائرته، وكانت على نهر ملوية فيما وراء جبل بني زناسن.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022