فتنة القبر وسؤال الملكين
الحلقة: العاشرة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020
لقد جاءت الأحاديثُ بفتنةِ القبرِ وسؤالِ الملكينِ، وممّا يُستَدَلُّ به من القرآن على سؤال الملكين قول الله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ *﴾ [إبراهيم: 27] .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ (ﷺ) قال: « المسلمُ إذا سُئِلَ في القبرِ يشهدُ أنْ لا إلـه إلاّ الله، وأنْ محمَّداً رسولُ اللهِ، فذلك قولُه تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة﴾ [إبراهيم: 27] ».
وفي (الصحيحين) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال نبيُّ الله(ﷺ): « إنّ العبدَ إذا وُضِعَ في قبرِه، وتولّى عنه أصحابُه، إنّه يسمَعُ قرعَ نعالِهم، قال: يأتيه ملَكانِ فَيَقْعُدانِ، فيقولانِ لَهُ: ما كنتَ تقولُ في هـذا الرجلِ، قال: فأمّا المؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنّه عبدُ اللهِ ورسولُه، قال: فيقالُ لهُ: انظرْ إلى مقعدِكَ مِنَ النَّارِ، قد أبدلَكَ اللهُ به مقعداً من الجنّةِ » قال نبيُّ الله(ﷺ): « فيراهما جميعاً » .
«وأما المنافقُ والكافرُ فيقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هـذا الرجلِ ؟ فيقولُ: لا أدري، كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ، فيقال: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ، ويُضْرَبُ بمطارقَ من حديدٍ ضربةً، فيصيحُ صيحةً يسمعُها مَنْ يليه غيرَ الثقلين» .
1 ـ اسمُ الملكين (منكر ونكير):
عن أبي هريرةَ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسولُ اللهِ (ﷺ): «إذا قُبِرَ الميتُ، أتاه ملكانِ أسودانِ أزرقانِ، يقال لأحدِهما المنكرُ، وللاخرِ النكيرُ، فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هـذا الرجلِ ؟ فيقولُ ما كان يقولُ: هو عبدُه ورسولُه، أشهدُ أنْ لا إلـهَ إلاّ الله، وأنّ محمّداً عبدُه ورسولُه، فيقولانِ: قد كُنّا نعلمُ أنّكَ تقولُ هـذا، ثم يُفْسَحُ له في قبرِه سبعونَ ذراعاً في سبعين، ثم ينوَّرُ له فيه، ثم يقالُ له: نَمْ، فيقولُ: أرجعُ إلي أهلي فأخِبرُهم، فيقولانِ: نم كنومةِ العروسِ الذي لا يوقظُه إلاّ أحبُ أهلِه إليه، حتّى يبعثَه اللهُ مِنْ مضجعِه ذلك .
وإنْ كانَ منافِقاً قال: سمعتُ الناسَ يقولونُ فقلتُ مثلَه لا أدري، فيقولانِ: قد كنّا نعلمُ أنّكَ تقولُ ذلك، فيقالُ للأرضِ التئمي عليه، فتلتئِمُ عليه، فتختلِفُ فيها أضلاعُه، فلا يزالُ فيها معذَّباً حتى يبعثَه الله مِنْ مضجعِه ذلك».
2 ـ عودة الروح إلى الميت عند السؤال:
وممّا يستدلُّ به على عودةِ الروح إلى جسدِ الميّتِ عند السؤال حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي قال: خرجنا مع النبيِّ (ﷺ) في جنازةِ رجلٍ من الأنصارِ، فانتهينا إلى القبرِ، ولمَّا يُلْحَدُ، فجلسَ رسولُ اللهِ (ﷺ)، وجلسنا حولَهُ، وكأنَّ على رؤوسنا الطيرَ، وفي يدِهِ عُوْدٌ ينكتُ في الأرضِ، فرفعَ رأسه فقال: « استعيذوا باللهِ مِنْ عذابِ القبرِ » (مرتين أو ثلاث) .
ثم قال: « إنّ العبدَ المؤمنَ إذا كانَ في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزلَ إليهِ ملائكةٌ من السماءِ، بيضُ الوجوهِ، كأنَّ وجوهَهم الشمسُ، معهم كفنٌ من أكفانِ الجنةِ، وحَنوطٌ من حَنوطٍ الجنّةِ، حتى يَجْلِسوا منه مَدَّ البصرِ، ثم يجيءُ ملكُ الموتِ 5، حتى يجلسَ عندَ رأسِهِ، فيقولُ: أيتُها النفسُ الطيّبةُ، اخرجي إلى مغفرةٍ مِنَ اللهِ ورضوانٍ، قال: فتخرجُ تَسِيْلُ كما تسيلُ القَطْرَةُ مِنْ في السقّاءِ، فيأخُذُها، فإذا أخذَها لم يَدَعوها في يدِهِ طرفةَ عينٍ، حتّى يأخذَوها، فيجعلوها في ذلك الكفنِ، وفي ذلكَ الحنوطِ، ويخرجُ منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجِدَتْ على وجهِ الأرضِ، قال: فيصعدون بها، فلا يمرّونَ ( يعني بها ) على ملأ من الملائكةِ إلا قالوا: مَا هـذا الروحُ الطيِّبُ ؟ فيقولون: فلانُ بنُ فلانٍ، بأحسنِ أسمائهِ التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتّى ينتهوا بها إلى السماءِ الدُّنيا، فَيَسْتَفْتِحُوْنَ له، فَيُفْتَحُ لهم، فيشيّعهُ مِنْ كلِّ سماءٍ مقرَّبوها إلى السماءِ التي تليها، حتّى يُنتهى به إلى السماءِ السابعةِ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكتبوا كتابَ عَبْدِي في عليّين، وأعيدوه إلى الأرضِ، فإنِّي منّها خلقتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخرجُهم تارةً أُخرى .
قال: فتعادُ روحُه في جسدِه، فيأتيه ملكانِ فيُجْلِسَانه فيقولانِ له: مَنْ ربُّكَ ؟ فيقولُ: ربِّيَ اللهُ . فيقولانِ له: ما دينُكَ ؟ فيقول: دينيَ الإسلامُ . فيقولان له: ما هـذا الرجلُ الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقولُ: هو رسولُ اللهِ (ﷺ) . فيقولان له: وما عملُكَ؟ فيقول: قرأتُ كتابَ اللهِ، فامنتُ به وصدّقتُ، فينادى منادٍ في السماءِ: أنْ صدقَ عبدي، فأفرشوه مِنَ الجنّةِ، وألبسوه من الجنّةِ، وافتحوا له باباً إلى الجنّةِ، قال: فيأتيه من رَوْحِها وطيبها، ويفسحُ له في قبرِهِ مدُّ بصره .
قال: ويأتيه رجلٌ حَسَنُ الوجهِ، حَسَنُ الثيابِ، طيّبُ الريح، فيقول: أبشرْ بالذي يسرُّكَ، هـذا يومُكَ الذي كنتَ توعدُ . فيقول له: مَنْ أنتَ؟ فوجُهَك الوجهُ يجيءُ بالخيرِ، فيقول: أنا عملُكَ الصالحُ، فيقول: ربِّ أقمِ الساعةَ، حتَّى أرجعَ إلى أهلي ومالي .
قال: وإنّ العبدَ الكافِرَ إذا كانَ في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزلَ إليه مِنَ السماءِ ملائكةٌ، سودُ الوجوهِ، معهم المسوحُ، فيجلسون منه مدَّ البصرِ، ثم يجيءُ ملكُ الموتِ، حتى يجلسَ عند رأسهِ، فيقول: أيتُها النفسُ الخبيثةُ، اخرجي إلى سخطٍ مِنَ اللهِ وغضبٍ، قال: فتفرَّقُ في جسدِهِ، فينتِزعُها كما يُنْتَزَعُ السفودُ من الصوفِ المبلول، فيأخذها، فإذا أخذَها لم يدعوها في يده طرفةَ عينٍ حتّى يجعلوها في تلكَ المسوحِ، ويخرجُ منها كأنتنِ ريحِ جِيْفَةٍ وُجِدَتْ على وجهِ الأرضِ، فيصعدونَ بها، فلا يمرّون بها على ملأٍ من الملائكةِ إلاّ قالوا: ما هـذا الروحُ الخبيثُ ؟ فيقولونَ: فلانُ بنُ فلانٍ، بأقبحِ أسمائه التي كان يسمَّى بها في الدنيا، حتى يُنْتَهَى به إلى السماءِ الدُّنيا، فيُستفتَحُ له، فلا يُفْتَحُ له، ثم قرأ رسولُ اللهِ (ﷺ): ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ [الأعراف: 40] فيقول الله عزّ وجلّ: اكتبوا كتابه في سجّين، في الأرضِ السُّفلى، فتُطرَحُ روحُه طرحاً، ثم قرأ: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ *﴾ [الحج: 31] فتعادُ روحُه في جسدهِ، ويأتيه ملكانِ فيُجْلِسَانِه، فيقولان لَهُ: مَنْ ربُّكَ؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينُكَ ؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان: ما هـذا الرجلُ الذي بُعِثَ فيكم ؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادِي منادٍ منَ السماءِ أنْ كذبَ، فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه مِنْ حرِّها، وسَمُومها، ويُضيَّقُ عليه قبرُه، حتّى تختلفَ فيه أضلاعُه .
ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجه، قبيحُ الثيابِ، منتنُ الرِّيحِ، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هـذا يومُكَ الذي كنتَ توعَدُ، فيقول: مَنْ أنَت؟ فوجهُك الوجهُ يجيءُ بالشرِّ، فيقول: أنا عملُك الخبيثُ، فيقول: ربِّ لا تُقِمِ الساعَة».
3 ـ ما ينتفِعُ به الميتُ مِنْ عملِ الأحياء:
ينتفعُ الأمواتُ مِنْ سعي الأحياء بأمرين :
أحدُهما: ما تسبّبَ إليه الميتُ في حياته .
والثاني: دعاءُ المسلمين واستغفارهم له، والصدقةُ والحجُّ .
والأدلة على ذلك منها :
أ ـ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10] فأثنى الله عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم، فدلَّ على انتفاعهم باستغفارِ الأحياء .
ب ـ والأدعيةُ التي وردت بها السنّةُ في صلاة الجنازة مستفيضةٌ . وكذا الدعاءُ له بعدَ الدفن، ففي ( سنن أبي داود ) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال: كان النبيُّ (ﷺ) إذا فرغَ مِنْ دفنِ الميّتِ وقفَ عليه فقال: « استغفروا لأخيكم، وأسألوا له التثبيتَ، فإنَّه الانَ يُسْأَلُ » .
وكذلك الدعاءُ لهم عندَ زيارة قبورهم، كما في ( صحيح مسلم ) من حديث بُريدةَ بن الحَصِيْب، قال: كان رسولُ اللهِ (ﷺ) يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: « السلامُ عليكم أهلَ الديارِ مِنَ المؤمنينَ والمسلمينَ، وإنّا إنْ شاءَ الله بِكُم لاحقون، نَسْأَلُ الله لنا ولكم العافيةَ » .
وأما وصول ثواب الصدقة ففي ( الصحيحين ) عن عائشةَ رضي الله عنها: أنّ رجلاً أتى النبيَّ (ﷺ) فقال: يا رسول الله، إنَّ أُمي افتُلتت نفسُها، ولم توصِ، وأظنُّها لو تكلّمتْ تصدّقتْ، أفلها أجرٌ إنْ تصدّقتُ عنها ؟ قال: « نعم » .
وأما وصولُ ثوابِ الصوم، ففي ( الصحيحين ) عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسولَ الله (ﷺ) قال: « مَنْ ماتَ وعليه صيامٌ صامَ عنه وليُّه » .
وأما وصول ثواب الحج ففي ( صحيح البخاري ) عن ابنِ عباسِ رضي الله عنهما: أنَّ امرأةً من جُهينةَ جاءتْ إلى النبيِّ (ﷺ)، فقالتْ: إنِّ أُمي نذرتْ أن تحجَّ فلم تحجَّ حتّى ماتتْ، أفأحجُّ عنها ؟ قال: « نعم حُجِّي عنها، أرأيتِ لَوْ كانَ على أُمُّكِ دَيْنٌ، أكنتِ قاضيتَهُ ؟ اقضوا اللهَ، فاللهُ أحقُّ بالوفاءِ» .
وقد دل على انتفاعِ الميّتِ بالدعاءِ إجماعُ الأمةِ على الدعاءِ له في صلاةِ الجنازةِ
وأجمعَ المسلمونَ على أنَّ قضاءَ الدَّينِ يُسقطه من ذمّةِ الميت، ولو كان من أجنبي، ومن غير تركته، وقد دلَّ على ذلك حديثُ أبي قتادة حيثُ ضَمِن الدينارينِ عن الميت، فلمّا قضاهما قال النبيُّ (ﷺ): « الان برّدتْ عليه جِلْدُتُه» . وهـذا جارٍ على قواعد الشرع، وهو محضُ القياس، فإنَّ الثوابَ حقُّ العامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك، كما لم يمنعْ من هبةِ ماله له في حياته، وإبرائه له منه بعد وفاته، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ (ﷺ) قال: « إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنه عملُه إلاّ مِنْ ثلاثةٍ، إلاّ مِنْ صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنْتَفَعُ بهِ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» .
وقد تحدّث العلماءُ في الصدقاتِ الجارية، وأنّ بابها واسعٌ وكبيرٌ، من بناء المساجد، والابار، والمدارس، والمعاهد، وطباعة العلوم النافعة، وكفالة الأيتام والأرامل، وطلاب العلم ... إلخ .
4 ـ بكاء السماء على الميت:
قال رسول الله (ﷺ): « ما مِنْ مؤمنٍ إلا وله بابانِ، بابٌ يَصْعَدُ منه عملُه، وبابٌ يَنْزِلُ منه رزقُه، فإذا ماتَ بكيا عليه، فذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ*﴾ [الدخان: 29].
5 ـ ما يتبع الميت إلى قبره:
قال رسول الله (ﷺ): « يتبعُ الميّتَ ثلاثةٌ، فيرجِعُ اثنانِ، ويبقى واحدٌ، يتبعه أهلُه ومالُه وعملُه، فيرجِعُ أهلُه وماله، ويبقى عملُه» .
6 ـ القبر أولُ منازل الآخرة:
قال رسول الله (ﷺ): « إن القبرَ أولُ منزلٍ من منازلِ الآخرة، فإن نجا منه، فما بعدَه أيسرُ منه، وإنْ لم ينجُ منه فما بعدَه أشدُّ منه »، وقال رسول الله: « ما رأيتُ منظراً قطُّ إلا القبرُ أفظعُ منه» .
7 ـ نعيمُ القبر أوعذابُه ينالُ مَنْ دُفَنَ ومَنْ لم يُدْفَنْ:
عذابُ القبرِ ونعيمُه ينالُ مَنْ دُفِنَ ومن لم يدفن، وأنَّ من أكلته السباعُ أو مُزّقَ جسدُه، أو أُحْرِقَ وذُرَّ رمادُ جسمهِ في البرِّ أو البحر، أو منْ كانَ في ثلاّجاتِ الموتى فترات طويلة، أو مَنْ أُغرق أو صُلِبَ، أو كلُّ من لم يُدْفَنْ بحالٍ من الأحوالِ، فإنّه يناله عذابُ القبرِ أو نعيمُه، وأنه يحيا حياةً برزخيةً حتّى يوم القيامة .
8 ـ الحكمةُ من عذابِ القبرِ ونعيمُه:
هناك مجموعةٌ من الحِكَمِ في عذاب القبر ونعيمِه منها :
_ إظهارُ فضلِ الله تعالى على عباده المؤمنين الصالحين في تنعيمهم في الحياة البرزخية، وإذلال وتعذيب المكذبين العاصين والعياذ بالله .
_ إظهارُ قدرة الله تعالى في تعذيب العصاة والكافرين، وتنعيم المؤمنين الصّادقين في القبر دون أن يشعرَ بذلك سائرُ البشر .
_ إنَّ المكلّفين عندما يعلمون أنّ هناك عذاباً في القبرِ أو في الحياة البرزخية، فإنَّ ذلك يكونُ رادعاً ومانعاً لهم عمّا يسوءُ ويشينُ فعلُه في الآخرة.
_ التحذيرُ من بعضِ الذنوب والمعاصي، والتي يكونُ لها عقوبات خاصة تناسِبُها، كعدم التنزّه من البولِ، والنميمةِ وغير ذلك .
_ إنّه قد يكونُ العذاب في القبر أو في الحياة البرزخية مكفِّراً لبعضِ الذنوب والمعاصي التي ألمَّ بها العبدُ في الحياة الدنيا، فيأتي يومَ القيامةِ ولا ذنبَ له .
_ إنه قد يكون العذابُ في القبر تخفيفاً لعقوبة ذلك العبد في النار يومَ القيامةِ.
9 ـ هل عذابُ القبرِ دائمٌ أم منقطعٌ ؟:
يختلفُ عذابُ العصاةِ من المؤمنين، فمنهم من يعفو الله عنهم فلا يعذّبهم في قبورهم، ومنّهم من تكون معاصيه صغيرةً، فيعذّبون بقدرها، ثم يُرفع عنهم العذاب، وقد ينقطع أو يرتفع بدعاءٍ أو صدقةٍ، أو استغفارٍ، أو ثوابِ حجٍّ، أو غيرِها من أعمال الخير، ومنهم من تكونُ معاصيه كبيرةً، فيستمرُّ به العذابُ لقول النبي (ﷺ): «بينما رجلٌ يجرُّ إزاره من الخيلاء، خُسِفَ به، فهو يَتَجَلْجَلُ في الأرضِ إلى يومِ القيامةِ ».
وأمّا الكافرُ والمنافِقُ فيستمرُّ عذابه إلى يوم القيامة، ولا يتوقّفُ، والدليل على ذلك قوله الله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ *﴾ [غافر: 46] وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: « ثم يُفْتَحُ له بابٌ إلى النارِ، فينظرُ إلى مقعدِهِ فيها حتّى تقومَ الساعةُ ».
وأما قول الله تعالى: ﴿يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ [يس: 52] قال العلماء: إنّ الكفارَ إذا عاينوا جهنم وأنواعَ عذابها صارَ عذابُ القبرِ في جنبها كالنّوم.
وقال الإمام الطبري في قوله تعالى: : هـؤلاء المشركون لما نُفخ في الصور نفخة البعث لموقف القيامة فردّت أرواحهم إلى ﴿قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾، وذلك بعد نومة ناموها: وقد ﴿قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾: إنّ ذلك نومةٌ بين النفختين .وقال العلامة الشنقيطي عن هـذه الآية: والتحقيقُ أنّ هـذا قولُ الكفّار عند البعث، والآية تدلُّ دِلالةً لا لُبْسَ فيها على أنّهم ينامون نومةً قبلَ البعث، كما قال غيرُ واحد، وعند بعثهم أحياء من تلك النومة التي هي نومةُ موتٍ، يقول لهم الذين أُوتوا العلمَ والإيمان: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ *﴾، أي هـذا البعثُ بعدَ الموتِ.
وقال رسول الله (ﷺ): « ما بين النفختين أربعون » قالوا: يا أبا هريرة، أربعونَ يوماً ؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربعون سنةً ؟ قال: أبيتُ، قال: أربعون شهراً ؟ قال: أبيتُ . « ويبلى كلُّ شيءٍ من الإنسانِ إلا عُجْبَ ذَنَبِهِ، فيه يركَّبُ الخلقُ » وفي هـذا الحديثِ دلالةٌ على أنّهم يموتون بين النفختين مقدارَ أربعون، ولم تُحدَّد تلك الأربعون، وإن ذهب بعض أهل التفسير إلى أنها أربعون سنة .وقال النبيُّ (ﷺ): « لا تخيّروني على موسى، فإنَّ الناسَ يُصْعقون يومَ القيامةِ، فأُصعقُ معهم، فأكونُ أولَ من يُفيقُ، فإذا موسى باطِشٌ جانبَ العرشِ، فلا أدري كانَ فيمن صُعِقَ فأفاقَ قبلي، أو كان ممّن استْثَنَى اللهُ» .
إنَّ الآيات والأحاديثَ الدّالة على استمرار العذاب، من باب العموم، وقد خُصّصت بآيةِ ( يس ) وبالأحاديث السابقةِ الذكر في هـذا القول.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book173.pdf