السبت

1446-12-25

|

2025-6-21

مقدمة كتاب "إشراقات قرآنية"
مع فضيلة الشيخ الدكتور سلمان العودة
الحلقة: الأولى
ربيع الأول 1442ه/ نوفمبر 2020م
 
إن المتأمِّل في القرآن الكريم يجد سياق آياته في غالبها مما يسهل فهمه على الناس: الشاب والشيخ، والمتعلِّم والأُمِّي، والذَّكي وغير الذَّكي.
وفي الوقت ذاته يجد من دقيق المعاني ولطيفها ما لا يدركه إِلَّا الخواص؛ فالعامِّي يفهم ما يحتاجه، والمتخصِّص يجد ما يغنيه ويشبع تطلُّعَه.
وكلما مر القارئ على آية أو سورة تجدَّد له بالتأمُّل والتدبُّر من الأسرار واللَّطائف ما لم يكن لديه من قبل.
وكلما مر جيل وحدثت للناس معارف جديدة لم يكونوا يعلمونها من قبل، وجدت أن القرآن يستوعبها؛ لجهة عدم وجود ما يخالفها، أو كون بعض الإشارات تدل عليها.
ومنهج القرآن في ذلك إرشادي، يقوم على دعوة الناس إلى المعرفة والاكتشاف والضرب في الكون وإعمال العقول والانتفاع بخيرات الأمم، ولا يصلح أن يتحوَّل ذلك إلى الإغراق في ربط منجزات العلم التفصيلية بنصوص الكتاب.
وإنني لأشعر بانشراحٍ وأُنْسٍ عند الوقوف مع الآيات وتدبُّر معانيها، وتكرار النظر فيها؛ ولذلك أحببتُ أن أضع بين يدي القارئ الكريم تنبيهات ينبغي مراعاتها عند تدبُّر القرآن والتأمُّل في معانيه:
الأول: إذا وقفت أمام آية من آيات الكتاب الكريم، وخفي عليك إعجازها وبلاغتها وأسرارها، فإياك أن يذهب بك الظن إلى أن هذه الآية ليس فيها أسرار، ولكن ربما يكون عجزُ العقل حالَ دون إدراك هذه الآية وأسرارها، وربما يكون تكرار القراءة أو سماعها من قارئ حسن الصوت سببًا في قدح زِناد التدبُّر.
الثاني: أن الله تعالى جعل في القرآن ألوانًا من الأسرار، منها ما يتعلَّق باللغة، ومنها ما يتعلَّق بالتشريع، ومنها ما يكون إعجازًا علميًّا، ومنها ما يكون إعجازًا تاريخيًّا، أو أخلاقيًّا..
والله تعالى قد وزَّع المواهب بين الخلق، فمِن الناس مَن يطرب لجوانب البلاغة والإعجاز اللَّفظي، ويستنبطها وتروق له؛ ولذلك يشعر بتجاوب مع هذا النوع من الإعجاز، ومنهم مَن تكون اهتماماته علمية بحتة، فهو يبحث عنها، ومنهم مَن تكون ميوله روحانية، فيأنس حين يجد الله سبحانه في القرآن يخاطب عباده ويعرِّفهم بنفسه مباشرة، ويخاطب رسله وأنبياءه، ويكشف للخلق حياتهم وسرَّهم ومصيرهم.
والله قد جعل القرآن منهلًا يَرِدُه الخلقُ كلُّهم فيَسَعُهم، وكل إنسان يجد فيه بُغْيته وطلبته إذا كانت طِلْبَةَ حق؛ ولذلك فالواردات والخواطر الصحيحة على الذهن، لا بد أن تكون أصولها متضمّنة في القرآن الكريم.
والقرآن ليس كتاب جيل فحسب، بل هو كتاب الأمة كلها والتاريخ كله، فلم يحتو على معلومات موغلة في الغرابة، ولو كانت صحيحة؛ لئلا تكون فتنة لمَن لم يكتشفها، ولا تزال كشوف العلم ومستجداته تزيد القارئ فيه فهمًا وبصيرة وغوصًا على أسراره بما لم يقع لأجيال سبقت.
والإنسان يُؤتى من قِبَل ضعف قواه ومَلَكاته وقدراته؛ ولذا كان كمال العلم البشري دعوة إلى الإيمان بالله، وكان الأئمة يعتنون بالتدبر والفهم والغوص على أسرار القرآن.
وقلما تجد عالمًا مشهورًا إِلَّا وصنَّف في التفسير، وبعض ذلك نقل وتكرار، أو جمع مرشَّح أو غير مرشَّح.
وبعضهم يعتني بجانب لا يعتني به غيره، كما تجد البلاغة والإعجاز اللُّغوي في «الكشَّاف» للزَّمخشري، وكُتب عبد القاهر الجُرْجاني، و«التحرير والتنوير» للطاهر ابن عاشور.
ومنهم مَن يهتم بالأحكام الفقهية، ويطيل النفس في آياتها، كالقرطبي، وابن العربي، والشنقيطي.
ومنهم مَن يهتم بالإشارات الدقيقة الروحانية والصوفية، وهذه منها قدر طيب انتفع به علماء كثيرون، كابن تيمية وابن القيم، وقدر هو محل تردد، ومنها ما هو تحريف للكَلِم عن مواضعه.
واهتم المعاصرون بالإعجاز العلمي، وسبق إليه الأستاذ فريد وجدي، ثم طنطاوي جوهري، ثم د. مصطفى محمود، و د. زغلول النجار، والشيخ عبد المجيد الزنداني، و د. عبد الله المصلح، وغيرهم، ومنهم مَن تعاطاه بنَفَس معتدل، وحصل من آخرين تكلُّف في إقحام بعض المعاني وربطها بالقرآن الكريم.
الثالث: أن من المعاني اللَّطيفة ما يدركه مَن يتكلم العربية وهي لغته، بخلاف مَن تعلَّمها وتكلَّمها، فإنه يفوته كثير من صور التدبر؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾ [الزخرف: 44]، ومن شكر نعمة الله هذه أن يُقْبِل صاحب اللغة العربية على القرآن الكريم، ويستدرك هذه المعاني اللَّطيفة التي قد تفوت على غيره.
وكلما فتحتُ المصحف وشاهدتُ الحرف العربي، تجدَّد شعوري بالنعمة والاصطفاء بكون اللغة العربية لغة القرآن هي لغتي الأصلية.
الرابع: من ألطاف القرآن الكريم ما يقع في النفوس وتُشرق به القلوب ويُعْجِز الألسنةَ الإفصاحُ عن معانيه، حتى يكون القارئ حين استقبال هذه الموجات العالية من الإيمان والمشاهدة غير راغب في تدوينها أو الحديث عنها؛ لأن ذلك يقطع حبل تسلسلها واتصالها، ولأن اللغة لا تستوعبها؛ ولذا قال النِّفَّري: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»( ). وباليقين وقع للأنبياء عليهم السلام ثم الصحابة رضي الله عنهم ثم أكابر المحقِّقين والمؤمنين الراسخين ومَن دونهم من ذلك ما لا يخطر على بال.
ولذا فالقرآن هو أعظم أدلة الوجود والوحدانية والإيمان، وعلى الداعية والمحاور والمدافع عن حقائق التوحيد أن يعمِّق صلته به؛ إذ ليس الإيمان معنًى عقليًّا صِرْفًا كالمسائل الرياضية، بل هو حجة عقلية وضرورة قلبية وحياتية ومعرفية قد يضعفها الجدل فيها، إِلَّا ما دعت إليه الحاجة؛ لتثبيت إيمان، أو إقامة حجة، أو رد شبهة عارضة.
ولا يزال المتأمِّل في كتاب الله عز وجل يتلقَّى أنواعًا من المعاني العظيمة التي تُشرق لها النفس وتحيا وتطمئن.
ولذا رأيتُ أن أتلقَّى هذه الإشراقات، مستعينًا في ذلك بجهد السابقين من علماء الأمة في تفاسيرهم المشهورة المعتمدة.
ورأيتُ البداءة بـ«جزء عم»؛ فإن عامة سور هذا الجزء هي أول ما خُوطبت به البشرية من كتاب الله عز وجل، وقضاياه هي قضايا الوجود الإنساني كله، كما أن سور هذا الجزء القصيرة هي ما يحفظه أغلب المسلمين ويقرؤونه في صلواتهم.
كما أني رأيتُ أغلب المفسرين إذا وصلوا إلى هذا الجزء، وهو آخر جزء في القرآن، لا يكون عطاؤهم كما كان عند ما شرعوا في التفسير من أول جزء.
وقد طُبع «جزء عم» في جزءين منذ أربع سنوات، وقد أعدتُ النظر فيه مرة أخرى، بالاختصار والمراجعة والتنقيح.
ثم تابعت الأجزاء من بعده صُعُدًا: «جزء تبارك»، ثم «جزء قد سمع»، وهكذا حتى نهاية «المُفَصَّل»..
وقد كانت البداءة بهذه الإشراقات في دروس ألقيتُها، وكان للإلقاء والتفاعل مزيته، ثم أعدتُ كتابتها واجتمعتُ عليها، وكان للتأمُّل والاستغراق مزيته الأخرى.
ثم ها هو الجهد بين يديك، سائلًا الله أن يسلكني وإياك في سِلْك أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وأن يجعلنا ممن هداهم الله بهذا القرآن للتي هي أقوم وأنالهم به كريم البُشرى بأن لهم أجرًا كبيرًا.
وإنني أَطْمَحُ من قرَّاء هذا الكتاب إلى التواصل معي عبر وسائل الاتصال؛ لتوصيل أي ملحوظة أو اقتراح أو نقد أو تعديل؛ فهذه التغذية الراجعة، هي دومًا من مصادر فرحي وسعادتي، وهي تُسْهِم في تطويري ذاتيًّا، مثلما تُسْهِم في تطوير الكتاب وتحسينه.
والشكر لكل مَن يقتطع جزءًا من وقته لقراءة الكتاب، أو يضيف جزءًا آخر لكتابة تعديل أو تصويب وإرساله إليَّ.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..
 
سلمان بن فهد العودة
1ربيع الثاني 1437هـ


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022