الأحد

1446-11-06

|

2025-5-4

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: 

سورة النصر
الحلقة 173
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ذو القعدة 1442 هــ / أغسطس 2021

* {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح}:
بدئت السورة بظرف الزمان {إِذَا}، وغالبًا ما تستخدم للمستقبل، وقد تستخدم للحاضر، كقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير} [الشورى: 29]، أي: حين يشاء.
ومجيء النصر والفتح مشعر بالتوقيف، وأنه لا يأتي اعتباطًا أو دون ترتيب، بل بتوقيت وتوفيق وتوثيق من الله تعالى، وفي ذلك رعاية للأسباب؛ لأن هذا النصر جاء بعد عشرين سنة كان فيها من المجاهدة والمصابرة ما لا يحتمله إلا الأصفياء الأتقياء، فمن الصحابة رضي الله عنهم مَن قُتل، ومنهم مَن ضُرب، ومنهم مَن طُرد، ومنهم مَن أُوذي، ومنهم من لاقى آلامًا لا يحتملها إلا الصابرون المجاهدون.
والأمر كما قال تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُوم} [الحجر: 21]، فجاء النصر هنا على قَدَرٍ، كما قال الشاعر:
جاءَ الخلافةَ أو كانتْ له قَدَرًا * كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
والتعبير بـ{نَصْرُ اللَّهِ} مشعر بأن النصر مِنَّةٌ من عنده سبحانه، وهذا يدعو للتواضع والانكسار، واستحضار فضل الله بما تحقق؛ ولذا لما دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا منتصرًا دخلها متواضعًا مطأطئًا رأسه، وقد خرج بالأمس طريدًا من مكة خائفًا يترقب، واليوم يدخل فاتحًا مظفرًا منصورًا.
وقد جرت عادة السلاطين والملوك أنهم إذا فتحوا وتمكَّنوا من عدوهم يظهرون القوة والعزة والتشفِّي والبطش، ولسان حال أحدهم يقول: خصومك وقد أظفرك الله بهم، فأعملْ فيهم السيف، ولا تبق منهم ولا تذر، واجعلهم عبرة لـمَن خلفهم.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لِمَا جبله الله عليه من صدق العبودية، وعدم التعلق بالدنيا، دخل مكة مطأطئًا، متواضعًا لله.
وفي «الصحيح» أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة صلَّى صلاة الضُّحى.
ولو شاء الله لنصر هذا الدين بالملائكة، أو لخرق لهم النواميس، ولكنه شاء أن يبتلي بعض العباد ببعض، كما قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4]. فالمسألة مسألة مجاهدة ومصابرة، ويوم علينا ويوم لنا، ويوم نُساء ويوم نُسَر، حتى تكون العاقبة للتقوى.
إن نشوة الانتصار والظفر بالمطلوب وتحقق المقصود الذي كابدوا وبذلوا واجتهدوا وصابروا من أجله تنسيهم الآلام التي لقوها.
ولهذا كان عمر رضي الله عنه يتمثَّل بهذا البيت:
كأنك لم تنصبْ من الدهرِ ليلةً * إذا أنت أدركتَ الذي كنتَ تَطْلُبُ
ونسبة النصر والفتح إليه تعالى نسبة تشريف.
ومن معاني ذلك: الدلالة على عظمة النصر، وديمومته، فهو لم يكن نصرًا محدودًا في معركة، أو تغلبًا على عدو، وإنما استقرار لأمر الدين، ولذلك سطع تاريخ الإسلام منذ ذلك الوقت؛ وقامت دولته في المدينة أولًا ثم في جزيرة العرب، ولم تكن البشارة به باعتباره نصرًا مرحليًّا، أو محدودًا ببيئة جغرافية أو بزمن معلوم، بل بنصر خالد يُخلِّد ذكر الإسلام وبقاءه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
وفيه ثناء مبطن على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنهم استحقوا نصر الله، وأي ثناء أعظم من أن يقال: أصبحتم جديرين بنصر الله؛ ولذلك تُربط هذه الآية بقوله سبحانه في «سورة الحج»: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40].
ثم بيَّن الجديرين بالنصر بقوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور} [الحج: 41]، فربط الصفة بأمر مستقبل، ولم يقل: «لينصرن الله الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة».
والسر هنا لطيف، وربما وجد مَن يستحقون النصر في ظاهر الحال، لكن الله يعلم أنهم لو انتصروا ما التزموا بتبعات النصر ولا قاموا بتكاليفه، فيحجب الله عنهم النصر رحمة بهم وبالخلق، وحفاظًا على الرسالة وقدسيتها.
وبين {نَصْرُ اللَّهِ}، {وَالْفَتْح} فرق، والنصر قد يحصل ولا يكون معه فتح، فلو أن عدوك هجم عليك ثم قاتلته وطردته عن بلادك، فإن هذا «نصر»، وليس معه «فتح»، وإنما سلمتَ من شرٍّ، فـ«النصر» تغلب في معركة، أما «الفتح» فيدل على أنهم خاضوا المعركة، وانتصروا واستطاعوا أن يفتحوا، ويحققوا مقصودهم الأعظم.
و«النصر» له صور كثيرة:
منها: أن يثبت الإنسان على دينه، ولو تغلَّب عليه عدوه.
ومنها: إهلاك الله للأعداء، حتى لو لم يُفتح للمؤمنين.
ووعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالفتح، كما في قوله تعالى: {فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِين} [المائدة: 52]، وكذلك قوله سبحانه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1].


سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022