السبت

1446-11-05

|

2025-5-3

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: 

سورة الماعون
الحلقة 163
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ذو الحجة 1442 هــ / أغسطس 2021

* {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم }:
{ يَدُعُّ } فعل مضارع يدل على الاستمرار، حتى صار طبعًا يُعرف به.
والمعنى: يدفعه دفعًا عنيفًا، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [الطور: 13]، أي: يُدفعون إليها بقوة وشدة، والمعنى: يدفع اليتيم بالضرب، ولا يرفق به، ولا يراعي إحساسه ويتمه، أو يدفعه عن حقه إذا جاء يطالب به؛ لأنه يراه ضعيفًا لا أحد يحامي عنه، وهذه غاية الخساسة والأَثَرة.
واليتيم هو: صغير السن الذي فقد أباه، وقد يستمر اليتم إلى حال استغنائه عن الناس، ومن هنا جاء الوعيد على زجره وتعنيفه وقهره، وهو لأجل يتمه يتجرَّأ عليه كثير من الناس ويؤذونه ولا يبالون به؛ لأنه ليس له والد يدافع عنه.
 * {وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين }:
{ يَحُضُّ } فعل مضارع يدل على التكرار، وهذه الصفة ترك وليست فعلًا.
والحضُّ هو: الحث؛ لكنه بالضاد أقوى، فحرف الضاد أشد من الثاء، واختيار الحرف في القرآن الكريم له دلالة وله معنى.
ويشبه سياق الآيتين هنا ما جاء في «سورة الفجر» في قوله تعالى: ﴿كَلَّا  بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۝ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الفجر: 17-18] .
والكلام ليس عن شخص بعينه، وإنما عن فئة من الناس، فهذا لا يحض هذا، وهذا لا يحض هذا، فمن ذلك يتولَّد أنهم لا يتحاضون على طعام المسكين، فهو لا يحض نفسه ولا يحض غيره.
وقد يكون السياق يتعلق بإنسان غير واجد، ليس عنده ما يقدِّمه من مال أو طعام، ولكن قادر على أن يحض غيره على ما عجز هو عنه، كما قال المُتَنَـبِّي:
لا خيلَ عندَك تُهديها ولا مالُ * فليُسعِدُ النطقُ إن لم تُسْعِد الحالُ
ويسوِّغ أن يلام الإنسان إذا لم يكن بالذي يُطعم، ولا هو بالذي يَحُضُّ على الإطعام، وهذا تقبيح لحال الذي لا يحض، فما بالك إن كان عنده مال، ولا يحض نفسه على إطعام المحتاج؟
والشريعة والحكمة تستحثُّ المكلَّف القادر أن يبذل ما يستطيع، إن كان ذا مال أخرج من ماله، وإلا كان في جهده وعطائه المعنوي وحثه للناس ومشاركتهم في الأعمال الطوعية الخيرية، ما يجعله باب خير وبر، فربما شارك بعقله وتخطيطه وابتكاره للبرامج والطرائق التي تضبط هذا العمل وتطوِّره.
فوصفهم تعالى أولًا بـ«التكذيب»، وهو أمر اعتقادي، ثم وصفهم بـ«دَعِّ اليتيم»، وهو أمر وجودي فعلي، وهو أنهم يضربون اليتيم ويدفعونه، ثم وصفهم بأمر تركي أو منعي، وهو أنهم «لا يحضُّون على طعام المسكين»، فهذه الصفة ليست موجودة فيهم، وكان يجب أن تكون فيهم.
والإنسان قد يندفع إلى الإحسان للخلق بسبب فطري جِبلِّي يعود إلى طبيعته وسجيته الكريمة، والمؤمن يُثاب على فعل الإحسان حتى لو لم تحضره نية؛ تحفيزًا للناس إلى المبادرة للخير وعدم التردد.
وقد يفعل المعروف احتسابًا يرجو به خير الله تعالى وبره في الدنيا والآخرة، فهو يعرف أن مَن أحسن إلى الناس أحسن اللهُ إليه، فيبادر ببر الوالدين، وصلة الرحم، وطلب ثواب الآخرة ظاهر.
وهل طلب خير الدنيا من سعة الرزق والنَّسَأ في الأثر والصحة، مما يعكِّر على حسن النية، أو يُعَدُّ من إرادة الإنسان بعمله الدنيا؟
كلا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أحبَّ أن يُبسطَ له في رزقه ويُنسأَ له في أَثَرِه، فليَصِلْ رحمه». من باب حث الناس على أن يصلوا أرحامهم؛ لأنهم يرغبون في طول العمر، وفي سعة الرزق، وهذا ليس بمذموم في حد ذاته، وإنما هو من عاجل البشرى.
وكذلك الحياة الطيبة الموعودة لـمَن عمل الصالحات، والسعادة والسكينة، وسائر ما ورد في الكتاب والسنة من عاجل الثواب.
وأفضل الناس حالًا مَن توفَّر عنده الدافع الفطري والشرعي، فهو كالأرض الطيبة التي نزل عليها المطر فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بَهِيج؛ لأن الدافع الفطري يحمله على هذا، فصار من طبعه لا يحتاج فيه إلى تكلُّف، فجاءت الشريعة وزكَّتْ نفسَه وكمَّلتها.
وأسوأ الناس حالًا «المُفْلِس» من الدافعين، فلا فطرة سليمة تدفعه إلى الخير، ولا رغبة في الآخرة!
و{ الْمِسْكِينِ } هو: المحتاج الذي لا يجد ما يكفي نفقته ونفقة مَن يعول، ويدخل فيه الفقير، وقد يكون اليتيم مسكينًا، وقد لا يكون كذلك، وكذلك المسكين قد يكون يتيمًا وقد يكون كبيرًا.
وهذه الآيات الثلاث دعوة إلى مراعاة الجانب الاجتماعي، وهو من أعظم مقاصد الشريعة، ومن العلامات الفارقة بين المؤمنين والمكذبين.
إن من الخطأ الكبير الانهماك في جانب من الشريعة أو الدين، والغفلة عن جوانب أخرى، مثل هذا الجانب الذي تعتني به هذه السورة، وهو الجانب الاجتماعي الخيري، وما يسمى بـ«النفع العام»، يفعله أفراد أو مؤسسات وجمعيات، فهذا الخير بسببه تُحفظ المجتمعات، ويدرأ سبحانه عنها الفتن والشر والبلاء بما تقدِّمه من النفع والخير والإحسان.
ومن العجب أن أكثر المسلمين الذين يردِّدون هذه الآيات في صلواتهم وحلقات درسهم ويلقِّنونها صبيانهم، من أبعد الناس عن تحقيق دلالتها، وليس بالأمر النادر أن نجد مجتمعات نفطية واسعة الثراء، ومدنًا ومباني شاهقات وسيارات فخمة غالية الأثمان، وبالقرب منها أحياء شعبية تدخلها فتجد فيها ألوانًا من الفقر وشَظَف العيش، وتنتشر فيها الجرائم والمخدرات والسرقات، وكل ذلك بسبب الفقر الذي كاد أن يكون كُفْرًا، ويُروى عن علي رضي الله عنه: «لو كان الفقر رجلًا لقتلته».
والعجب أن هذه الآيات نزلت في مكة، وأغلب الناس يومئذ كانوا كفارًا، ولم يكن آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم إلا قليل، ولم يكونوا يجدون المال، وكأنما نزلت السورة لتهيئ نفوسهم للبذل، وترسِّخ الربط بين الإيمان وبين نداوة اليد للفقير والمسكين.
وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «بينما رجلٌ يمشي بطريق، اشتدَّ عليه العطشُ، فوجد بئرًا، فنزلَ فيها، فشربَ ثم خرجَ، فإذا كلبٌ يلهثُ، يأكلُ الثَّرَى من العطش، فقال الرجلُ: لقد بلغَ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلغَ مني. فنزلَ البئرَ فملأ خفَّه ماءً، ثم أمسكه بفِيهِ حتى رَقِيَ، فسقى الكلبَ، فشكرَ اللهُ له، فغَفرَ له». قالوا: يا رسولَ الله، وإن لنا في هذه البهائم لأجرًا؟ فقال: «في كلِّ كبد رَطْبة أجرٌ».
وفي حديثه الآخر: «بينما كلبٌ يُطيفُ برَكيَّة، قد كاد يقتله العطشُ، إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَها، فاستقت له به، فسقته إياه، فغُفر لها به».
بعض الأخيار يقول: أُحسن لهذا الكافر من أجل أن يُسلم. وهذا حسن، وهو من تأليف القلوب، الذي هو أحد مخارج الزكاة.
والمؤلَّفة قلوبهم أربعة أنواع:
1- الكافر الذي يُرجى إسلامه.
2- الكافر الذي يُرجى إسلام قبيله أو نظيره أو قريبه.
3- المسلم الجديد الذي يُرجى بإعطائه الزكاة أن يحسن إسلامه.
4- الكافر الذي يُرجى أن يدفع شره، أو يكون سببًا في دفع شر غيره عن المسلمين.
ولا يدخل في عداد هؤلاء: المحارب؛ لإظهاره العداوة للإسلام.
ولكن الكرم والجود والبذل لا يحسن أن يكون محصورًا في هذا، بل ينبغي أن يكون طبعًا وجِبلَّة، تفيض حتى على مَن لا ترجو من وراء عطائه نفعًا عاجلًا؛ ولذا شُرع الإحسان إلى البهائم والطيور، وجاء النص النبوي عامًّا في حصول الأجر في كل كبد رَطْبة.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022