السؤال:
شيخنا الفاضل وقع على اعتداء بالضرب المبرح من أشخاص عند مطالبتي بحقي منهم، فهل يجوز شرعا أن أرفع عليهم شكوى في المحاكم التي تسيطر على الشمال الشرق السوري وهي تحكمنا الآن علما أن قوانينهم وضعية، أفتونا في هذه المسألة بارك الله فيكم.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله
إن من قطعيات الدين ومقتضيات الإيمان الحق أن يرجع المسلمون أثناء نزاعهم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " وقوله تعالى: "... فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ"
فإن لم يكن هناك نص صريح صحيح في محل النزاع، فإنهم يعودون لأهل الاستنباط من العلماء والقضاة لتقريب الحكم إلى كليات الشريعة، أو تخريجه على أصل سابق، حتى يكون أقرب للعدل ومحققا للمصلحة ورافعا للغل والبغضاء.
ومن المستقر شرعا أن حق التقاضي والشكوى مكفول لكل إنسان، وصاحب الحق والمظلمة مخير بين المطالبة بحقه أو إسقاطه والتنازل عنه بكامل رضاه.
ولكن النازلة التي طرحها السائل تتعلق بمسلم يريد استرداد حقه من ظالم وليس أمامه طريق إلا الترافع أمام محاكم وأحكام وضعية، وفي مثل هذا الحال فإنه يجوز له دون حرج أن يفعل ذلك إن غَلَبَ على ظنه تحقّق المصلحة، وذلك للأسباب التالية:
أولا: ما يقوم به المسلم هنا هو استرجاع حق واسترداد كرامة يفعله عاجزا مضطرا وليس تحاكما لغير شريعة الله مختارا مُفضلا.
ثانيا : أن الآيات التي وردت في تحريم التحاكم إنما وردت في سياقات ينبغي اعتبارها وأسباب للنزول ينبغي إعمالها ؛ إذ أخرج ابن جرير عن الشعبي قال: " كان بين رجل من اليهود، ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال: إلى النبي ; لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم فاختلفا، واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فنزلت ( أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ) فهذه الآيات نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وسلطان الإسلام هو الأعلى .
ثالثا: ينبغي أن نفرق بين تحاكم المسلم في وضع سياسي ومجتمعي فيه تمكين واستخلاف ووضع سياسي ومجتمعي فيه هوان واستضعاف، فينبغي التفرقة بين الحالين ومعرفة ما يترتب على هذا الفرق من أحكام ورخص، كما أن الله عز وجل طلب منا أن نتقيه قدر استطاعتنا لقوله تعالى:" فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ" فلأن تحصل المظلوم على جزء من حقه خيرٌ له من ضياعه بالكلية.
رابعا: إن بعض القوانين الوضعية التي لا تصادم نصا أو تعطل أحكامه هي قوانين تعيد للمظلوم حقه وتسعى لتحقيق الاستقرار في المعاملات والعدل النزاعات والرجوع لمثل هذه القوانين التي وضعها الناس في منطقة الفراغ التشريعي ( الإباحة ) ليست مما ينافي الاعتقاد أو يصادم الشريعة ، ولعل ما نراه من استقرار وازدهار ومدنية في دول الغرب يعود للقوانين العادلة التي أنصفت الناس وجعلتهم سواسية أمام ميزان العدل وأطلقت الحريات وحققت الأمن، وغير مستنكر الرجوع لها عند غياب النص في النازلة ، يقول ابن القيم : " عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها.فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل."
خامسا ً: في حال اضطرار المسلم للجوء لمثل هذه المحاكم لاستراد حقه أن يقتصر في أخذ حقه على قدر الضرورة فقط، ولا يقتطع أكثر من حقه حتى لو أباح له القانون ذلك
والله أعلم
أجاب على السؤال فضيلة الشيخ الدكتور ونيس المبروك جزاه الله خيراً