من فصول التَّربية القرانيَّة والنَّبويَّة لعمر بن الخطَّاب رضي الله عنه... موافقات عمر للقرآن الكريم، وإِلمامه بأسباب النُّزول، وتفسيره لبعض الآيات
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الخامسة
1ـ موافقات عمر للقران الكريم:
كان عمر من أكثر الصَّحابة شجاعةً، وجرأةً، فكثيراً ما كان يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن التَّصرُّفات الَّتي لم يدرك حكمها، كما كان رضي الله عنه يبدي رأيه، واجتهاده بكلِّ صدقٍ، ووضوحٍ، ومن شدَّة فهمه، واستيعابه لمقاصد القران الكريم نزل القران الكريم موافقاً لرأيه ـ رضي الله عنه ـ في بعض المواقف، قال عمر رضي الله عنه: وافقت الله تعالى في ثلاثٍ، أو وافقني ربي في ثلاثٍ؛ قلت: يا رسول الله ! لو اتَّخذت مقامَ إِبراهيم مُصلَّى، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البرُّ، والفاجر، فلو أمرت أمَّهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله تعالى اية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهنَّ، قلت: إِن انتهيتنَّ، أو ليبدِّلنَّ الله رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً منكنَّ، حتَّى أتيتُ إِحدى نسائه قالت: يا عمر! أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه، حتَّى تعظهنَّ أنت؟! فأنزل الله:
2ـ موافقته في ترك الصَّلاة على المنافقين:
قال عمر: لمَّا توفي عبد الله بن أُبيٍّ؛ دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصَّلاة عليه، فقام إِليه، فلمَّا وقف عليه يريد الصَّلاة؛ تحوَّلتُ حتَّى قمت في صدرهِ، فقلت: يا رسول الله ! أعلى عدوِّ الله عبد الله بن أُبيٍّ القائل يوم كذا وكذا: كذا وكذا ـ يعدُّ أيَّامه ـ قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسَّم، حتَّى إِذا أكثرتُ عليه، قال: « أخِّر عني يا عمر ! إِني خيِّرت، فاخترت، قد قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] لو أعلم أنِّي إِن زدت على السَّبعين؛ غفر له؛ لزدتُ ». قال: ثمَّ صلَّى عليه، ومشى معه، فقام على قبره حتَّى فُرغ منه. قال: فعجب لي، وجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إِلا يسيراً حتَّى نزلت هاتان الآيتان: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] لو أعلم أنِّي إِن زدت على السَّبعين؛ غفر له؛ لزدتُ ». قال: ثمَّ صلَّى عليه، ومشى معه، فقام على قبره حتَّى فُرغ منه. قال: فعجب لي، وجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إِلا يسيراً حتَّى نزلت هاتان الآيتان: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] إِلى اخر الآية، فما صلىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافقٍ، ولا قام على قبره حتَّى قبضه الله عزَّ وجل.
3 ـ موافقته في أسرى بدر:
قال عمر رضي الله عنه:... فلمَّا كان يومئذٍ فهزم الله المشركين، فقُتل منهم سبعون رجلاً، وأسر منهم سبعون رجلاً، فاستشار رسول الله أبا بكرٍ، وعليّاً، وعمر، فقال أبو بكر: يا نبيَّ الله ! هؤلاء بنو العمِّ، والعشيرة، والإِخوان، فإِنِّي أرى أن تأخذ منهم الفداء، فيكون ما أخذنا منهم قوَّةً لنا على الكفَّار، وعسى الله أن يهديهم، فيكونوا لنا عضداً ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب ؟! فقال: قلت: والله ما أرى رأي أبي بكر ! ولكنِّي أرى أن تمكِّنني من فلانٍ ـ قريبٍ لعمر ـ فأضرب عنقه، وتمكِّن عليّاً من عقيلٍ، فيضرب عنقه، وتمكِّن حمزة من فلانٍ أخيه فيضرب عنقه، حتَّى يعلم الله: أنَّه ليس في قلوبنا هوادةٌ للمشركين، هؤلاء صناديدهم، وأئمتهم، وقادتهم. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلت، فأخذ منهم الفداء.
فلمَّا كان من الغد؛ قال عمر: غدوت إِلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فإِذا هو قاعدٌ، وأبو بكرٍ، وإِذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله ! أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبُك ؟ فإِن وجدت بكاءً؛ بكيت، وإِن لم أجد بكاءً؛ تباكيت لبكائكما! قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الذي عَرَضَ عليَّ أصحابك من الفداء، ولقد عُرض عليَّ عذابُهم أدنى من هذه الشَّجرة» ـ لشجرةٍ قريبة ـ وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] إِلى قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] من الفداء.
ثم أحلَّ لهم الغنائم فلمَّا كان يوم أحد من العام المقبل؛ عوقبوا بما صنعوا يوم بدرٍ من أخذهم الفداء، فقُتل منهم سبعون، وفرَّ أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكُسِرَت رباعيَته، وهشمت البيضةعلى رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله تعالى: إِلى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ}: {اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [آل عمران: 165] بأخذكم الفداء.
4ـ موافقته في الاستئذان:
أرسل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار إِلى عمر بن الخطَّاب، وقت الظَّهيرة؛ ليدعوه، فدخل عليه، وكان نائماً، وقد انكشف بعض جسده، فقال: اللَّهمَّ حرِّم الدُّخول علينا في وقت نومنا ! وفي (روايةٍ) قال: يا رسول الله ! وددت لو أنَّ الله أمرنا، ونهانا في حال الاستئذان... فنزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58].
5ـ عمر ودعاؤه في تحريم الخمر:
قال عمر: لمَّا نزل تحريم الخمر؛ قال: اللَّهُمَّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاءً ! فنزلت هذه الآية الَّتي في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] قال: فدعي عمر، فقرئت عليه فقال: اللَّهمَّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاءً ! فنزلت الآية الَّتي في النِّساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أقام الصَّلاة نادى أن لا يقربن الصَّلاة سكران، فدُعي عمر، فقرئت عليه، فقال: اللَّهمَّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاءً ! فنزلت الآية الَّتي في المائدة، فدُعي عمر، فقرئت عليه، فلمَّا بلغ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ *} [المائدة: 91] قال عمر: انتهينا، انتهينا!
وهكذا خضع تحريم الخمر لسُنَّةِ التدريج، وفي قوله: فهم عمر من الاستفهام الاستنكاري بأن المراد به {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ *}، لأن هذا الاستفهام أقوى وأقطع في التحريم من النهي العادي، فقط ألفاظ الآية وتركيبها وصياغتها تهديد رهيب واضح كالشمس في التحريم.
6ـ إِلمامه بأسباب النُّزول:
حفظ عمر القران كلَّه في الفترة الَّتي بدأت بإِسلامه، وانتهت بوفاة الرَّسول صلى الله عليه وسلم وقد حفظه مع أسباب التَّنزيل إِلا ما سبق نزوله قبل إِسلامه، فذلك ممَّا جمعه جملةً، ولا مبالغة إِذا قلنا: إِنَّ عمر كان على علمٍ بكثير من أسباب التَّنزيل، لشدَّة اتِّصاله بالتَّلقِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ هو قد حفظ منه ما فاته، فإِنْ يلمَّ بأسباب النُّزول والقران بِكْرُ التنزيل، والحوادث لا تزال تترى؛ فذلك أمرٌ يسيرٌ.
وقد كان عمر سبباً في التنزيل لأكثر من ايةٍ، بعضها متَّفقٌ على مكِّيته، وبعضها مدنيٌّ، بل كان بعض الآيات يحظى من عمر بمعرفة زمانه، ومكانه على وجهٍ دقيق، قال عن الآية الكريمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]: والله إِنِّي لأعلم اليوم الَّذي نزلت على رسول الله، والسَّاعة الَّتي نزلت فيها على رسول الله عشيَّة عرفة في يوم الجمعة.
وقد كان عمر ـ وحده، أو مع غيره ـ سبباً مباشراً في تنزيل بعض الآيات، منها قول الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ... عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ *} [التوبة: 19 ـ 22].
وفي الصَّحيح: أنَّ رجلاً قال: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإِسلام إِلا أن أعمر المسجد الحرام، فقال عليُّ بن أبي طالبٍ: الجهاد في سبيل الله أفضل من هذا كلِّه. فقال عمر بن الخطاب: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله. ولكن إِذا قُضِيَت الصَّلاة؛ سألته عن ذلك، فسأله، فأنزل الله هذه الآية، فبيَّن لهم: أنَّ الإِيمان، والجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام، والحجِّ، والعمرة، والطَّواف، ومن الإِحسان إِلى الحجَّاج، بالسِّقاية. ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه: لأن أرابط ليلةً في سبيل الله أحبُّ إِليَّ من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود.
7ـ سؤاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض الآيات:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض الآيات، وأحياناً أخرى يسمع صحابيّاً يستفسر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض الآيات، فيحفظها، ويعلِّمها لمن أراد من طلاب العلم، فعن يَعْلى بن أميَّة، قال: سألت عمر بن الخطاب، قلت: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، وقد امن الله النَّاس؟ فقال لي عمر: عجبتُ ممَّا عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: « صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته».
وقد سُئِل عمر بن الخطاب عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]، فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الله خلق ادم، ثمَّ مسح ظهره بيمينه، واستخرج منه ذرِّيَّةً، فقال: خلقت هؤلاء للجنَّة، وبعمل أهل الجنَّة يعملون، ثمَّ مسح ظهره فاستخرج منه ذرِّيَّةً، فقال: خلقت هؤلاء للنَّار، وبعمل أهل النَّار يعملون ». فقال رجل: يا رسول الله ! ففيم العمل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ إِذا خلق العبد للجنَّة؛ استعمله بعمل أهل الجنَّة حتَّى يموت على عملٍ من أعمال أهل الجنَّة، فيدخله به الجنَّة، وإِذا خلق العبدَ للنَّار؛ استعمله بعمل أهل النَّار؛ حتَّى يموت على عملٍ من أعمال أهل النَّار، فيدخله به النَّار ».
ولمَّا نزل قول الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ *} [القمر: 45] قال عمر: أي جمعٍ يهزم ؟ أيُّ جمعٍ يغلب ؟ قال عمر: فلمَّا كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت في الدِّرع، وهو يقول: فعرفت تأويلها يومئذٍ
8 ـ تفسير عمر لبعض الآيات، وبعض تعليقاته:
كان عمر يتحرَّج في تفسير القران برأيه ولذلك لمَّا سئل عن قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا *} [الذاريات: 1] قال: هي الرياح، ولولا أنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله؛ ما قلته، قيل: {فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا *} [الذاريات: 2]. قال: السَّحاب، ولولا أنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله؛ ما قلته، قيل: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا *} [الذاريات: 3] ؟ قال: السُّفن، ولولا أنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله؛ ما قلته، قيل: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا *} [الذاريات: 4] ؟ قال: هي الملائكة، ولولا أنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله، ما قلته.
وكان رضي الله عنه له منهجٌ في تفسيره للآيات، فإِنَّه رضي الله عنه إِذا وجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيراً؛ أخذ به، وكان هو الأفضل مثل ما مرَّ معنا من تفسيره، وإِذا لم يجد طلبه في مظانِّه عند بعض الصَّحابة مثل: ابن عباسٍ، وأبيِّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ، وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ وهذا مثالٌ على ذلك؛ فقد قال عمر ـ رضي الله عنه ـ يوماً لأصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ *} [البقرة: 266]. قالوا: الله أعلم ! فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم، أولا نعلم. فقال ابن عبَّاسٍ: في نفسي منها شيءٌ يا أمير المؤمنين ! قال عمر: يا بن أخي ! قل، ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعملٍ. قال عمر: أيُّ عملٍ ؟ قال ابن عباس: لعملٍ. قال عمر: لرجلٍ غنيٍّ يعمل بطاعة الله عزَّ وجل، ثمَّ بعث الله له الشَّيطان، فعمل بالمعاصي حتَّى أغرق أعماله. وفي روايةٍ: قال ابن عبَّاس: عنى بها العمل، إِنَّ ابن ادم أفقر ما يكون إِلى جنَّته؛ إِذا كبر سنُّه، وكثر عياله، وابن ادم أفقر ما يكون إِلى عمله يوم يبعث، فقال عمر: صدقت يا بن أخي!
وكانت له بعض التَّعليقات على بعض الآيات مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ *} [البقرة: 156 ـ 157] فقال: نِعْمَ العدلان، ونعم العلاوة! ويقصد بالعدلين: الصَّلاة والرَّحمة، والعلاوة: الاهتداء.
وسمع القارئ يتلو قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ *} [الانفطار: 6] فقال عمر: الجهل. وفسَّر قول الله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ *} [التكوير: 7] بقوله: الفاجر مع الفاجر، والطَّالح مع الطَّالح، وفسَّر قول الله تعالى: {إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، بقوله: أن يتوب، ثمَّ لا يعود، فهذه التَّوبة الواجبة التَّامَّة.
وذات يوم مرَّ بدير راهبٍ، فناداه: يا راهب ! فأشرف الرَّاهب. فجعل عمر ينظر إِليه، ويبكي. فقيل له: يا أمير المؤمنين ! ما يبكيك من هذا ؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل في كتابه: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ *تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً *} [الغاشية: 3، 4] فذاك الَّذي أبكاني. وفسر الجبت بالسِّحر، والطاغوت بالشَّيطان في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] .
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي