الأدلة على الحكم الحاصلة من الشرائع ...
مختارات من كتاب " الإيمان بالقدر "
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة السادسة والأربعون
الأدلة الدالة على الحكمة من الشرائع كثيرة جداً ذكرها العلماء والفقهاء في كتبهم، وقد حاول ابن القيم حصرها بأنواعها ـ بعد أن ذكر أن آحاد الأدلة كثيرة يصعب سردها كلهاـ وقد أوصلها إلى إلى اثنين وعشرين نوعاً ومن هذه الأدلة:
النوع الأول: وهو أعلاها، ما ورد فيه التصريح بلفظ الحكمة ، قال تعالى: "حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ" (القمر : 5) ، أي أن الله أرى الكافرين في آياته ـ وهي هنا إنشقاق القمر ـ وأتاهم بأنباء زاجرة لهم عن غيهم وضلالهم، كل ذلك حكمة منه سبحانه لتقوم حجته على العاملين، ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل.
النوع الثاني: ذكر ما هو من صرائح التعليل، وهو من أجل أو لأجل، قال الله تعالى: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (المائدة : 32) ، فقول "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ" متعلق بـ"كَتَبْنَا" بمعنى: السبب في الحكم بشرعية القصاص على ابن آدم لأجل قتل ابن آدم أخاه، وكان ذلك حراسة الدنيا.
النوع الثالث: الإتيان بكي الصريحة في التعليل، كما قال تعالى: "مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ" (الحشر : 7) . فعلل سبحانه قسمته الفئ بين الأصناف التي ذكرها كي لا يتناوله الأغنياء دون الفقراء.
وقال تعالى: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" (الحديد : 22 ـ 23) .
أنا قدر المصائب والبلاء قبل أن يبرأ الأنفس والمصائب والأرض، ومصدر ذلك قدرته وحكمته البالغة التي منها أن لا يحزن عباده ولا يفرحهم بما آتاهم إذا علموا أن المصيبة مقدرة كائنة ولا بد، وقد كتبت قبل خلقهم وذلك يهون عليهم ما أصابهم (1).
النوع الرابع: ذكر المفعول له، وهو علة للفعل المعلل به، قال الله تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل : 89) ، فقوله: "تِبْيَانًا" ـ وما بعدها ـ الأحسن أن ينصب على أنه مفعول لأجله لدلالة قول الله تعالى: "وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (النحل : 64) ، وقال تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" (النحل : 44) ، وفي الآيتين بيان لتلك، وقال تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا" (الإسراء : 59) أي لأجل التخويف (2).
النوع الخامس: التعليل بـ"لعل" فهي في كلام الله تأتي للتعليل المجرد لا للترجي لاستحالته عليه، فإنه إنما يكون فيما تجهل عاقبته "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة : 21) ، وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة : 183) ، وقوله "لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" (طه : 44) .
فلعلّ في المواضع المتقدمة قد أخلصت للتعليل للسبب الذي تقدم أولاً، والرجاء الذي فيها متعلق المخاطبين.
النوع السادس: تعليله سبحانه وتعالى عدم الحكم القدري والشرعي بوجود المانع منه.
فمن الأول قول الله تعالى: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" (الشورى : 27) . بيَّن سبحانه أنه لا يوسع الدنيا ـ لبعض ـ الناس سعة تضرهم في دينهم، وهو سبحانه ينزل من رزقه بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته، فالمانع من بسط الرزق حصول البغي من الناس .
ومن الثاني قول الله تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (الأعراف : 32) ، فوصف بعض الرزق بكونه طيباً مانع من الحكم بتحريمه.
النوع السابع: إنكار الله سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة بقوله تعالى: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون : 115) ، وقوله: "أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" (القيامة : 36) .
والأنواع كثيرة والأصل أن يأتي التعليل بالحروف، وقد تدل عليه الأسماء والأفعال، والحق يقال أن السياق له أثر في الدلالة على العلية إن لم تكن الأدلة نصاً في العلية، فينظر فيما يحتمل التعليل وعدمه يحسب السياق (3).
---------------------------------------------
مراجع الحلقة السادسة والأربعون:
(1) مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه (1 / 457) .
(2) مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه (1 / 457) شفاء العليل ص 326.
(3) مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه .
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: