الأربعاء

1446-04-27

|

2024-10-30

"التمكين والشهود الحضاري الإسلامي" (4)

البناء التعبُّدي والأخلاقي في الدعوة النبوية

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

حرص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على تزكية أرواح الرعيل الأول من الصحابة بالعبادات والطاعات المختلفة، وذلك إلى جانب اهتمامه بالجانب العقائدي لديهم، فالعبادة هي غاية الإيمان، فما يلبث الإنسان أن يؤمن بربه حتى يسعى لعبادته كما يحب ربه ويرضى، وإن المسلم بعد أن يرسخ عقيدة التوحيد في قلبه، ويؤمن بأركان الإيمان التي حددها الإسلام، لا بدّ أن يؤدي العبادات المفروضة ويزكي نفسه بالإكثار من النوفل والعبادات المستحبة، لأن القرآن الكريم حدد بوضوح أن عبادة الله تعالى هي المقصد من خلق الإنس والجن، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [ سورة الذاريات: 56].

وللعبادة دور أساسي في تزكية الأرواح، فالعبادة تسمو بروح العبد المؤمن وتجعلها ربانية الجوهر والتوجه، والروح من عجائب خلق الله تعالى وأسرار حكمته، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: 85]، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 72]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة: 9]، وقد رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على تزكية أرواحهم، وأرشدهم إلى الطَّريق الَّتي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب من خلال القرآن الكريم؛ ومن أهمِّها:

1ـ التَّدبُّر في كون الله ومخلوقاته وفي كتاب الله تعالى؛ حتَّى يشعروا بعظمة الخالق وحكمته سبحانه، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بَأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].

2 - التأمُّل في علم الله الشَّامل وإحاطته الكاملة بكلِّ ما في الكون؛ بل بما في عالم الغيب والشَّهادة؛ لأنَّ ذلك يملأ الرُّوح والقلب بعظمة الله، ويطهِّر النَّفس من الشكوك، والأمراض. قال الله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ** وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 59 - 60] .

3 - عبادة الله - عزَّ وجلَّ - وهي من أعظم الوسائل لتربية الرُّوح وأجلِّها قدراً؛ إذ العبادةُ غاية التذلُّلِ لله سبحانه، ولا يستحقُّها إلا الله وحده؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، والعبادات الَّتي تسمو بالرُّوح وتطهِّر النفس نوعان:

أ - النَّوع الأوَّل: العبادات المفروضة كالطَّهارة والصَّلاة والصِّيام والزَّكاة والحجِّ وغيرها.

ب - النوع الثَّاني: العبادات بمعناها الواسع، الَّذي يشمل كلَّ عملٍ يعمله الإنسان أو يتركه، بل كلّ شعورٍ يُقبِل عليه الإنسان تقرُّباً به إلى الله تعالى، بل يدخل فيها كلُّ شعورٍ يطرده الإنسان من نفسه تقرُّباً به إلى الله تعالى، ما دامت نيَّة المتعبِّد بهذا العمل هي إرضاء الله سبحانه وتعالى، فكلُّ الأمور مع نيَّة التَّقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى عبادةٌ يُثاب صاحبها، وتربِّي روحه تربيةً حسنةً (العلياني، 1985، ص 69).

إنَّ تزكية الرُّوح بالصَّلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى والتَّسبيح له سبحانه أمرٌ مهمٌّ في الإسلام؛ فإنَّ النَّفس البشريَّة إذا لم تتطهَّر من أدرانها وتتَّصل بخالقها، فلن تقوم بالتَّكاليف الشَّرعية الملقاة عليها. والعبادة والمداومة عليها، تعطي الرُّوح وقوداً وزاداً، ودافعاً قويّاً إلى القيام بما تؤمر به، ويدلُّ على هذا أمر الله للرَّسول صلى الله عليه وسلم في ثالث سورةٍ نزلت عليه بالصَّلاة والذِّكر وترتيل القرآن.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقرآن تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزمل: 1 - 8].

إنَّ الاستعداد للأمر الثَّقيل، والتَّكاليف الشَّاقَّة يكون بقيام اللَّيل والمداومة على الذِّكر والتِّلاوة، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوجيهٍ من ربِّه - عزَّ وجلَّ - على تربية الصَّحابة من أوَّل إسلامهم على تطهير أرواحهم وتزكيتها بالعبادة (نوح، 1990، ص 19 - 34).

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلُّوا؛ ذهبوا في الشِّعاب واستخْفَوا بصلاتهم. ولـمَّا خاف صلى الله عليه وسلم في بداية الإسلام على أصحابه، وعرف أنَّ الكفار لا يتركونهم يمارسون الصَّلاة، وقراءة القرآن علناً، دخل بهم دار الأرقم، وصار يصلِّي بهم، ويعلِّمهم كتاب الله - عزَّ وجلَّ -، ولولا أهمِّية تزكية الرُّوح بالعبادة والصَّلاة والتِّلاوة؛ لأمرهم بتركها عند الخوف، وحتَّى بعد أن اكتشفت قريش المكان الَّذي يصلِّي فيه الرَّسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه لم يترك الرَّسول صلى الله عليه وسلم الصَّلاة والتِّلاوة لأجل الخوف (محمود، 1990، ص 1/471 - 472).

وقد حضَّ الله تعالى في القرآن المكِّيِّ على إقامة الصَّلاة، وأثنى على الَّذين يخشعون في صلاتهم، والَّذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجل إحياء ليلهم بذكر الله، وعلى الذين يدعون الله ويسبِّحونه ويذكرونه، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ [المؤمنون: 1 - 4].

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 15 - 17].

وقال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114] .

وقال تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقرآن الْفَجْرِ إِنَّ قرآن الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 78 - 79] .

وقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 130 - 132] .

وقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ [ق: 39 - 40] .

وهذه الآيات الأخيرةُ تدلُّ على أنَّ العُدَّةَ في حال الضيق والشدَّة هي الإكثار من الصَّلاة والذِّكر وتلاوة القرآن، والالتجاء إلى الله سبحانه وحده، والإكثار من الدُّعاء (الصالحي، 1974، ص 2/404).

إنه لا بد من تزكية الروح حتى تثبت نفس المسلم على الصراط المستقيم، ولا سبيل للتزكية إلا بالإكثار من العبادات، فمن قلَّ تعبده ضعفت نفسه أمام شهوات الدنيا ومغرياتها، واسودّ قلبه من كثرة المعاصي، فصار أكثر عرضة للفسوق والضلال إن لم يراجع نفسه فيستغفر الله ويتوب إليه، ثم يداوم على العبادات المفروضة ويكثر من نوافلها، وحتى إن تكررت هفواته ووقع في المعاصي والمحرمات، فينبغي أن يواصل أداء العبادات حتى لا يقطع الخيط بينه وبين ربه، فلا معين للإنسان على نفسه وشيطانه سوى الله عز وجل.

المراجع:

1. محمود، عبدالحليم، (1990)، فقه الدَّعوة إلى الله لعبد الحليم محمود، دار الوفاء، الطَّبعة الأولى 1410 هـ 1990 م.

2. نوح، محمد، (1990)، منهج الرَّسول في غرس الرُّوح الجهاديَّة في نفوس أصحابه، الطَّبعة الأولى، 1411 هـ 1990 م، نشرته جامعة الإمارات العربيَّة المتَّحدة.

3. العلياني، علي، (1985)، أهمِّية الجهاد في نشر الدَّعوة، دار طيبة، الطَّبعة الأولى، 1405 هـ 1985م.

4. الصلابي، علي محمد، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 159-165.

5. الصالحي، محمد بن يوسف، (1974)، سبل الهدى والرَّشاد في سيرة خير العباد، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، لجنة إحياء التُّراث الإسلاميِّ، 1394هـ 1974م.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022