تعريف البعث ومنهج القرآن في الاستدلال عليه
الحلقة: الثامنة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليوز 2020
تعريف البعث: هو إعادة المخلوقات بعد فنائها للحساب والجزاء، من خير أو شر قال تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى *﴾ [النجم: 31] .
ولقد نهج القرآن الكريم في الاستدلال على البعث، وتحقُّقِ وقوعه منهجاً قوياً، يجمعُ بين ما فُطِرَتْ عليه النفوس من الإيمان، بما تشاهد وتحس ويقع منه تحت تأثير السمع والبصر، وبين ما تقرره العقول السليمة، ولا يتنافى مع الفطر المستقيمة، وتلك الطريقةُ التي تميّزَ بها القرآن الكريم .
أولاً ـ الاستدلال بمن أماتهم الله ثم أحياهم:
كما أخبر الله تعالى عن ذلك ومنهم :
1 ـ قوم موسى: قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ *ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *﴾ [البقرة: 55 ـ 56] .
2 ـ المضروب بعضوٍ، من أعضاء البقرة: كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ *فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ *﴾ [البقرة: 72 ـ 73] .
3 ـ الذين أخبر الله عنهم بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ﴾ [البقرة: 243] .
4 ـ ما حصل لعُزَير، كما قال تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ *﴾ [البقرة: 259] .
5 ـ سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية إحياء الموتى: قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *﴾ [البقرة: 260] .
6 ـ ما أخبر الله به عن عيسى عليه السلام من أنّه كان يحيي الموتى بإذن الله: قال تعالى: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائيِلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 49] .
7 ـ ما أخبر الله من قصة أصحاب الكهف: كما قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا *إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا *﴾[الكهف: 9 ـ 10].
إنّ هـذه الأدلّة المتقدّمة أدلةٌ حسيةٌ ماديةٌ، وقعت كلّها لتدلَّ على إحياء الموتى بعد مماتهم، وهـذا برهانٌ قطعيٌّ على القدرة الإلـهية، وقد أخبر الله ورسوله(ﷺ) عن وقوع البعث والحشر فوجب القطع بذلك.
ثانياً ـ الاستدلال على البعث بالنشأة الأولى :
ومن الآيات الدالّة على ذلك ما يلي :
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ﴾ [الحج: 5 ـ 7] .
وهـذه الآيات تعطي تفصيلاً للمراحل التي يمرُّ بها خلقُ الإنسان، فقد قابل الله هـذه المراحل بعدّةِ دلالات على قدرته سبحانه على البعث، فالله سبحانه يبيّنُ للناسِ إنْ كنتم في ريب من البعث، فلستم ترتابون في أنّكم مخلوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت والبعث الذي وُعْدِتُم به، نظير النشأة الأولى، فهما نظيران في الإمكان والوقوعُ، فإعادتكم بعدَ الموتِ خلقاً جديداً كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها ؟! .
إنّ هـذه الآيات لها دلالةٌ عقليةٌ على البعث، إنّها نقلةٌ ضخمةٌ بعيدةُ الأغوارِ والاماد، تشهدُ بالقدرة التي لا يعجزها البعثُ، وإنّ إنشاءَ الإنسان من التراب، وتطوَّرَ الجنينِ في مراحل حياته، وانبعاثَ الحياة من الأرض بعد الهمود، كلُّ ذلكَ متعلِّقٌ بأنَّ الله هو الحق، فهو من السنن المضطردة التي تنشأ من أنَّ خالقها هو الحق، الذي لا تختل سننه، ولا تتخلف .
وأنَّ اتجاهَ الحياةِ في هـذه الأطوارِ ليدلَّ على الإرادةِ التي تدفعُها، وتنسّقُ خطاها، وترتّب مراحلها، فهناك ارتباطٌ وثيقٌ بينَ أنّ الله هو الحق، وبين هـذا الاضطرادِ والثباتِ، والاتجاه الذي لا يحيدُ .
وأنَّ إحياءَ الموتى هو إعادةُ للحياة، والذي أنشأ الحياةَ الأولى هو الذي ينشِئها للمرّة الآخرة، وأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ليلاقوا ما يستحقّونه من جزاء، فهـذا البعثُ تقتضيه حكمةُ الخلق والتدبير .
وإنَّ هـذه الأطوارَ التي يمرُّ بها الجنينُ، ثم يمرُّ بها الطفلُ بعد أن يرى النور، لتشيرُ إلى أنَّ الإرادةَ المدبِّرةَ لهـذه الأطوار، ستدفعُ بالإنسان إلى حيث يبلغ كماله الممكن في دار الكمال، إذ إنَّ الإنسانَ لا يبلغُ كماله في حياة الأرض، فهو يقفُ ثم يتراجعُ فلابدَّ مِنْ دارٍ أُخرى يتمُّ فيها تمامُ ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ .
فدلالة هـذه الأطوار على البعثِ دلالةٌ مزدوَجةٌ، فهي تدلُّ على البعثِ من ناحيةِ أنَّ القادرَ على الإنشاءِ قادرٌ على الإعادةِ، وهي تدلُّ على البعثِ، لأنَّ الإرادةَ المدبّرَة تكمِّلُ تطويرَ الإنسان في الدار الآخرة، وهـكذا تلتقي نواميسُ الخلقِ والإعادةِ ونواميسُ الحياةِ والبعثِ، ونواميسُ الحسابِ والجزاءِ، تشهدُ كلُّها بوجودِ الخالق المدبرِ القادرِ، الذي ليس في وجوده جدال .
ثالثاً ـ الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأكوان، مثل السماوات والأرض، فإنّ خلقها أعظمُ مِنْ خلق الإنسان.
ومن الآيات الدالة على ما يلي :
1 ـ قال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [الإسراء: 98 ـ 99] .
2 ـ قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *﴾ [الأحقاف: 33] .
3 ـ وقال تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يـس: 81] .
رابعاً ـ الاستدلال على إمكان البعث بخلق النباتات المختلفة:
ومن الآيات ما يلي :
1 ـ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *﴾ [الأعراف: 57] .
2 ـ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ *﴾ [فاطر: 9] .
3 ـ قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *﴾ [فصلت: 39] .
4 ـ قال تعالى: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *﴾ [الرعد: 4] .
5 ـ وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [الرعد: 5] .
6 ـ قال تعالى: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ *﴾ [الحج: 5 ـ 7] .
7 ـ وقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ *وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ *رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ *﴾ [ق: 9 ـ 11] ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾: يراد به الأرض التي كانت هامدةً، فلمّا نزلَ عليها الماءُ اهتزّت وربت، وأنبتت من كل زوجٍ بهيجٍ من أزاهير وغير ذلك، مما يحارُ الطـرفُ في حُسنهـا، وذلك بعدما كانت لا نبـاتَ بهـا، فأصبحتْ تهتـزُّ خضراً، فهـذا مثـالٌ للبعث بعد المـوت والهـلاك، كذلك يحيي الله المـوتى، وهـذا المشاهد من عظيم قدرته بالحسِّ أعظمُ مما أنكره الجاحدون للبعث.
فجعل الله سبحانه، إحياءَ الأرض بعدَ موتها نظيرَ إحياءِ الأموات، وإخراجَ النبات منها نظيرَ إخراجهم من القبور، ودلّ بالنظير على نظيره، وجعلَ ذلك آية ودليلاً على خمسة مطالب :
المطلب الأول: وجودِ الصانع، وأنّه الحقُّ المبين، وذلك يستلزِمُ إثبات صفات كماله وقدرته، وحياته وعلمه، وحكمته ورحمته، وأفعاله .
المطلب الثاني: أنه يحيي الموتى .
المطلب الثالث: عموم قدرته على كل شيء .
المطلب الرابع: إتيان الساعة، وأنها لا ريبَ فيها .
المطلب الخامس: أنه يخرِجُ الموتى من القبور، كما أخرجَ النباتَ من الأرض .
خامساً ـ الاستدلال على البعثِ والإعادةِ بإخرجِ النارِ من الشجرِ الأخضرِ:
الشجرُ إذا قُطِعَ وأصبحَ حطباً يكونُ ميتاً، وليس فيه أثرٌ للحياة، فإذا أُوقدتْ به النارُ دبّت فيه حركة واضطراب، وهـذه اثارُ الحياةِ، فَمَن قَدَرَ على هـذا قدَرَ على إحياء الموتى .
وقد ذكر الله تعالى هـذا الدليلَ في موضعين من كتابه سبحانه: قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ *أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُونَ *﴾ [الواقعة: 71 ـ 72] وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ*﴾ [يـس: 77 ـ 82 ]
فردّ بهـذه الآيات على مَنْ أنكرَ البعث بثلاثةِ أدلةٍ عقلية :
الدليل الأول: الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرى، قال تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *﴾ [يـس: 79] .
الدليل الثاني: الاستدلال بإخراج النار من الشجر الأخضر، مع أنّه أكثر بالضدية، لأنّ الشجرَ إنّما يكونُ أخضرَ إذا كان مليئاً بالماء، فمن قدرَ على إخراجِ النارِ من هـذا الشجر الميّت المليء بالماء قادِرُ على إحياء الأموات من قبورهم، قال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ *﴾ [يـس: 80] .
الدليل الثالث: الاستدلال يخلق السماوات والأرض على خلق الإنسان، قال تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ *إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *﴾ [يـس: 81 - 82] .
سادساً ـ الاستدلال على البعث بأن حكمة الله وعدله يقتضيان البعث والجزاء:
فإن الله تعالى لم يخلقِ الناسَ عبثاً، ولن يتركهم سدًى :
1 ـ قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ *فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ *﴾ [المؤمنون: 115 ـ 116] .
2 ـ وقال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً *﴾ [القيامة: 36] فهل يظنُّ عاقِلٌ أنْ يتركَ الإنسانُ في هـذه الدنيا لا يؤمر ولا يُنهى ويترك في قبره سدًى دونَ أن يبعث ؟ إنّ ذلك لا يليقُ بحكمة الله، فكلُّ شيء يصدر عنه سبحانه له حكمة تقتضيه.
إننا نشاهد في حياتنا ظالمين ظلوا ظالمين حتّى لحظة الموت، ولم يأخذْ على أيديهم أحدٌ، ومظلومين ظلّوا مظلومين إلى اخرِ حياتهم، لم ينصفْهم أحدٌ، أفإنْ كانت الحياةُ هي نهايةَ المطاف، أيكونُ هـذا عدلاً وحكمةً ؟ وأينَ هي الحكمةُ في خلق حياةٍ تجري أحداثُها على غير مقتضى العدل، ثم تنتهي دونَ حسابٍ؟
لذا يأتي التأكيدُ في القرآن على أنَّ البعثَ ضرورةٌ يقتضيها عدلُ اللهِ وحكمته في مواضعَ عديدةٍ من القرآن منها:
3 ـ قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *﴾ [الجاثية: 21] .
4 ـ وقوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ *﴾ [ص: 28] .
5 ـ قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ *﴾ [القلم: 35 ـ 36] .
6 ـ قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ *﴾ [ص: 27] .
سابعاً ـ إخبار العليم الخبير بوقوع القيامة :
أعظمُ الأدلّةِ على وقوع المعاد إخبارُ الحقِّ تبارك وتعالى بذلك، فَمَنْ امنَ باللهِ، وصدّقَ برسولِه (ﷺ) الذي أرسلَ، وكتابِه الذي أنزل، فلا مناصَ له من الإيمانِ بما أخبرنا به من البعث والنشور، والجزاء والحساب، والجنة والنار، وقد نوَّعَ تبارك وتعالى أساليبَ الإخبارِ، ليكونَ أوقعَ في النفوس، واكد في القلوب.
1 ـ ففي بعض المواضع يخبرنا بوقوع ذلك اليوم إخباراً مؤكداً (بأنّ) أو (بإنّ واللام) كقوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ [طـه: 15] وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ *﴾ [الحجر: 85] .
2 ـ وفي مواضع أخرى يقسمُ الله تعالى على وقوعه ومجيئه، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [النساء: 87] ويقسمُ على تحقق ذلك بما شاء من مخلوقاته، كقوله تعالى: ﴿وَالطُّورِ *وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ *فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ *وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ *وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ *وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ *إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ *مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ *﴾ [الطور: 1 ـ 8] .
3 ـ وفي بعض المواضع يأمرُ رسولَه (ﷺ) بالإقسام على وقوع البعث وتحققه: وذلك في معرض الردّ على المكذّبين به، المنكرين له، كقوله تعالى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ [التغابن: 7] .
4 ـ وفي مواضع أخرى يذمُّ المكذّبين بالمعاد: كقوله تعالى: ﴿خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *﴾ [يونس: 45] .
5 ـ وأحياناً يمدح المؤمنين بالمعاد: قال تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ *﴾ [آل عمران: 7 ـ 9] .
6 ـ وأحياناً يخبر أنه وَعْدٌ صادق، وخبرٌ لازمٌ . وأجلٌ لا شكَّ فيه: قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ *وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَِجَلٍ مَعْدُودٍ *﴾ [هود: 103 ـ 104] .
7 ـ وفي بعض الأحيان يخبر عن مجيئه واقترابه: قال تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *﴾ [النحل: 1].
8 ـ وفي مواضع أخرى يمدح نفسه تبارك وتعالى بإعادة الخلق بعد موتهم: ويذم الالهة التي يعبدها المشركون بعدم قدرتها على الخلق، كقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ [النمل: 64] .
9 ـ وبين في مواضع أخرى أن هـذا الخلق وذاك البعث الذي يعجزُ العباد ويذلّهم سهل يسير عليه: قال تعالى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: 28] وقال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ*﴾ [القيامة: 3 ـ 4].
ثامناً ـ قياس البعث على النوم:
فالنومُ أخو الموتِ، بل هو موتةٌ صغرى، فالله تعالى يتوفّى الأنفسَ بالموت وبالنوم، فالقادر على إرجاع نفسِ النائم له بعد قبضها، قادِرٌ على إرجاع نفس الميت له بعد قبضها، قال تعالى: ﴿مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ*﴾ [ الزمر: 42 ] .
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبيُّ (ﷺ) إذا أخذَ مضجعَه من الليل وضعَ يدَه تحت خَدِّهِ ثم يقول: « اللهمَّ باسمِكَ أموتُ وأحيا »، وإذا استيقظَ قال: « الحمدُ للهِ الذي أحيانا بعدَما أماتنا وإليه النشورُ » .
وعن جابر بن عبد الله قيل: يا رسول الله أينامُ أهل الجنة ؟ قال: « لا، النومُ أخو الموتِ، والجنّةُ لا موتَ فيها » .
تاسعاً ـ الفطرة تدل على البعث:
فطر الله تعالى الأنبياءَ على الإحساسِ بوجودِ عالمٍ اخر بعد الموت، وهـذا من أقوى الأدلّةِ على وجود اليوم الآخر، لأنَّ الله تعالى إذا أرادَ أن يُقْنِعَ بني الإنسان بأمرٍ ما، فإنّه يغرسُ فكرةَ الاقتناع به في فطرِهم، ولذا فإنَّ الإنسانَ يشتاق إلى حياةِ خالدةٍ، ولو في عالم غير هـذا العالم، وهـذا الإحساسُ شائعٌ في نفوس البشر، بحيث لا يمكِنُ النظرُ إليه باستخفاف، ولذلك جاءت الأديانُ السماويةُ مبشرةً بحياة أخرى بعد الموت، وجعلت مصيرَ كلِّ إنسانٍ مرتهناً بما قدّمت يداه في الدنيا، وهـذا مما يكسب زيادةَ إيمانٍ بربه، وبما جاءت به الرسل، فيقدّمُ الأعمالَ الصالحةَ استعداداً بها ليوم الميعاد .
عاشراً ـ أسماء يوم القيامة:
وقد جاء الحديثُ عن يوم القيامة في القرآن الكريم مفصّلاً، وسمي بأسماء كثيرة، وهـذا يدلُّ على تعظيم الشيء، كما هي العادةُ عند العرب، فقد كانوا إذا عظّموا شيئاً أكثروا له من السماء، ومن الأسماء التي ذُكِرَتْ في القرآن ليوم القيامة: اليوم الآخر، ويوم الازِفَة، ويوم البعث، ويوم التغابُن، ويوم التلاقي، ويوم التنادي، ويوم الجَمْع، والحاقّة، ويوم الحساب . ويوم الحسرة، واليوم الحقّ، ويوم الخروج، ويوم الدين، والساعة، والصاخة، والطامة الكبرى، والغاشية، والفزع الأكبر، ويوم الفصل، والقارعة، والمعاد، واليوم الموعود، والواقعة، والوعد الحق، ويوم الوعيد، والوقت المعلوم .
وأمّا عن صفاتِ يوم القيامة، فقد وُصِفَ بأنّه عظيمٌ، ويوم عقيمٌ، ويومٌ عسيرٌ، ويومٌ ثقيلٌ، ويومٌ كبيرٌ، ويومٌ محيطٌ.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book173.pdf