نماذج علمائية ملهمة (45): الإمام القرطبي.. شيخ أئمّة التفسير
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
هو المحدِّث الحافظ الثَّبَتُ، والإمام البارع المجتهد، محمد بن أحمد القرطبي، صاحب التصانيف الباهرة، الفقيه المقرئ، والنحوي اللغوي، أحدُ أئمة العلماء، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره؛ فكان حافظًا للكتاب، عارفًاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمـًا بالسُّنة وطرقها، صحيحِها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم.
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:
هو محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي ثم القرطبي.
ويكنى: أبو عبد الله. وقد لقبه بعضهم بــ "شمس الدين" (الوافي بالوفيات، للصفدي، ج2 ص112 - 122).
وأبو عبد الله من بين القلة الذين عُرفوا أنهم من الخزرج، فهو عريق النسب، كريم الحسب، وقد ذكر ذلك مترجموه، (... ابن فرح الأنصاري الخزرجي). وترجع نسبته (القرطبي) إلى (قرطبة) وهي مدينة كبيرة في بلاد الأندلس، وكانت بلد السلطان، ودار مملكة البلاد، خرج منها كثير من العلماء في كل فنٍ قديماً وحديثاً. (معجم البلدان، لياقوت الحموي، ج4 ص324)
ثانياً: ولادته ونشأته:
ولد أبو عبد الله بقرطبة، وكان يعيش آنذاك في كنف أبيه ورعايته، وبقي كذلك حتى وفاته، سنة ٦٢٧ هـ.
وحياة القرطبي كانت متواضعة، فقد كان من أسرةٍ متوسطة، فكان أبوه يشتغل بالزراعة، وكان يباشر حصاد أحد المحاصيل، كما عمل القرطبي في فترة شبابه وهو في قرطبة بنقل الأجر لصنع الخزف، وقد كانت صناعة الخزف والفخار من الصناعات العادية التقليدية التي انتشرت في قرطبة، وكانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بصناعة الزيوت والألبان.
وبفضل وجوده في حاضرة العلم (قرطبة)، فقد تلقى القرطبي ثقافة واسعة في الفقه والنحو والقراءات وغيرها، على جماعة من العلماء المشهورين، وأصبح أشهر علم من أعلامها، فعندما يُذكر القرطبي بإطلاق، لا تنصرف أذهان العلماء وطلبة العلم إلا إليه. (الإمام القرطبي، مشهور سلمان، ص14 - 19)
ثالثاً: نشأته العلمية ورحلته في طلب العلم:
أقبل القرطبي منذ صغره على العلوم الدينية والعربية إقبال المحب لها، المشغوف بها، فأعطته من نفسها ما استحق به ذكر الخالدين، ولذلك نجده في سائر كتبه وفي كل مسألة يعرضها، نسيجاً وحده، ونلحظ درايته الفائقة في مختلف العلوم التي يتناولها بالبيان حتى كأنه قد تخصص فيه، وصرف وقته كله في دراسة قضاياه، نجده كذلك في الفقه وأصوله، وفي اللغة وغرائبها، وفي النحو وأبوابه، وفي علوم القرآن والقراءات، وهو كذلك في الحديث النبوي وعلم الرجال، ولا بد أن يكون من وصل إلى هذا التميز في العطاء والتأليف، متميزاً أيضاً منذ البداية في الأخذ والتلقي، وكان ذلك بقرطبة، وهو في مرحلة الطلب. (الإمام القرطبي، مشهور سلمان، مرجع سابق، ص32)
ولم يقتصر علم القرطبي على الأخذ من شيوخه، بل تعداه إلى مجالسة الكتب والنظر فيها، وقد أجازه غير واحد من مشايخه ببعضها، ولذا قال في معرض حديثه عن موارد كتاب من كتبه: "حسب ما رويته أو رأيته". وقد قال: وقد تصفحت كتاب الترمذي أبي عيسى، وسمعتُ جميعه، فلم أقف على هذا الحديث فيه، فإن كان في بعض النسخ، فالله أعلم". (التذكرة في أحوال الموتى، للقرطبي، ص 9 – 50)
أما رحلاته: فقد استقر الإمام القرطبي بمنية بني خصيب في مصر، ويمر الآتي من قرطبة قبل الوصول إليها بعدة مدن مصرية، فلعل المدن الآتية مر بها القرطبي أولاً، واستقر فيها برهة من الزمن، ثم انتقل إلى مستقره الأخير، أو أنه كان يرحل في طلب العلم من مستقره، ثم يرجع إليه، وهذا ما نرجحه، لورود الخبر بشأن سفره وتنقله إلى الفيوم، ونخلص من خلال تتبعنا لمشايخه إلى أنه رحل إلى المدن المصرية التالية: الإسكندرية، الفيوم، المنصورة، منية بني خصيب، وهي تلك المدينة التي استقر بها الإمام القرطبي، ومات بها، قال الصفدي: "توفى بمنية بني خصيب من الصعيد الأدنى بمصر". (الوافي بالوفيات، مرجع سابق، ج2 ص122)
ولعل مؤلفات الإمام القرطبي قد كتبت في ربوع هذه المدينة، ولعل السر في اختيارها مقراً له حبه الشديد وملازمته لشيخه (ابن الجميزي) فإنه روى عنه الكثير، وسمع منه بهذه المدينة. (معجم البلدان، مرجع سابق، ج5 ص218).
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن أهل الصعيد - آنذاك - كان يغلب عليهم الزهد والتعبد، فلعل هذا سبب اتخاذ القرطبي لها مستقراً، أو أنه طمع في الإفادة من وقته، بحيث يفرغ للعلم والعبادة، وعلى كل حال فإن هذه الرحلات، استفاد منها القرطبي علماً وتجربة، ولقي في أثنائها أفاضل وعلماء، أثروا به، واستفاد منهم، ولا سيما في علم رواية الحديث النبوي الشريف. (الحركة الفكرية في مصر، ص167 - 168)
رابعاً: شخصية القرطبي العلمية:
- الأمانة العلمية:
كان الإمام القرطبي (رحمه الله) يلتزم الأصول العلمية، ويتبع أساليب العلماء الفضلاء الذين لا يعنيهم إلا أن يثبتوا الفضل لأهله، ولا يهمهم أن ينسبوا إلى أنفسهم ما ليس لهم، وهذه هي الأمانة العلمية التي يعمل علماء العالم الآن على تأصيلها وتثبيت قيمها، واتخاذ الأساليب لتنفيذها، قال الإمام القرطبي في تفسيره: "وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف إلى قائله". (الجامع لأحكام القرآن، ج1 ص3)
وقال في مقدمة كتابه «التذكرة»: "نقلته من كتب الأئمة، وثقات أعلام هذه الأمة، حسب ما رأيته رويته". (التذكرة في أحوال الموتى، مرجع سابق، ص9)
- اجتهاده وكثرة قراءته ومطالعته:
ذكر غير واحد من مؤرخي حياة إمامنا القرطبي أن أوقاته كانت معمورة بين توجه للعبادة أو التصنيف، وهذا شأن العلماء وسمة العارفين الفضلاء، ومنشأ هذه الميزة في شخصيته العلمية هي جديته في الحياة ومضاء عزيمته.
كان (رحمه الله) كثير المطالعة، مجدًّا في التحصيل، كثير الحديث عما يشكل. وكان يحب الكتب حبًّا جمًّا، ويحرص على جمعها واقتنائها، حتى لقد تجمَّع لديه منها مجموعات كثيرة منوَّعة؛ ومثال عن حبِّه للكتب وشغفه بالمطالعة، من كتابه (التذكرة) فقط؛ حيث قال رحمه الله: "وكنتُ بالأندلس قد قرأتُ أكثر كتب المقرئ الفاضل أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان، تُوُفِّي سنةَ أربعٍ وأربعين وأربعمائة" (التذكرة في أحوال الموتى، مرجع سابق، ص717)
فهذا النص يدلنا على ولعه بالقراءة والكتب منذ نعومة أظفاره، إذ صرَّح بأنه قرأ أكثر كتب ذلك العالِم المذكور وهو في الأندلس بعدُ. كما كان ولوعًا بكتب حافظ المغرب (ابن عبد البر)، والفقيه العلامة المالكي (ابن العربي)، فأكثر النقل من كتبهما، ولا سيما (التمهيد) للأول، و(أحكام القرآن) للثاني، وهذا يدلنا على مدى تأثره بهما، إذ اجتمع معهما في صفات علمية كثيرة من أهمها: الجمع بين علمي الحديث والفقه، واللجوء إلى سرد المذاهب والآراء في المسألة، والترجيح بينهما. (الإمام القرطبي، مشهور سلمان، مرجع سابق، ص159، 160)
- منهج القرطبي في التفسير:
التزم القرطبي في هذا التفسير الأمانة العلمية، والموضوعية في الإفادة من أسلافه؛ فقال: "وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله". (الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج1 ص3)
وكان لا يقف في تفسير القرآن عند حدِّ ما رُوي من ذلك عن الرسول ﷺ والسلف الصالح، بل يتخذ ما أُوتيه من أدوات العلم وسيلةً يستعين بها على فهمه.
وكان يقصد إلى تفسير القرآن الكريم ببيان التعبير القرآني وأسراره ومنزلته من الكلام العربي، ومن هنا عُنِي باللغة والإعراب والقراءات؛ وكان يورد الآية أو الآيات ويفسرها بمسائل يجمعها في أبواب، فيقول مثلاً تفسير سورة الفاتحة، وفيه أربعة أبواب؛ الباب الأول: في فضلها وأسمائها، وفيه سبع مسائل ويذكرها. الباب الثاني: في نزولها وأحكامها، وفيه عشرون مسألة. الباب الثالث: في التأمين، وفيه ثماني مسائل. الباب الرابع: فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات والإعراب، وفضل الحامدين، وفيه ست وثلاثون مسألة، وهكذا. وتارةً يكون التفسير بمسائل يعدُّها على نحو ما تقدم من دون فتح باب، ولا ذكر عنوان.
وكان القرطبي في هذه المباحث أو المسائل ينتقل من تفسير المفردات اللغوية وإيراد الشواهد الشعرية، إلى بحث اشتقاق الكلمات ومآخذها، إلى تصريفها وإعلالها، إلى تصحيحها وإعرابها، إلى ما قاله أئمة السلف فيها، إلى ما يختاره المؤلف أحيانًا من معانيها. وأحسن المؤلف كل الإحسان بعزو الأحاديث إلى مخرِّجيها من أصحاب الكتب الستة وغيرهم، وقد يتكلم عن الحديث متنًا وسندًا، قبولاً وردًّا. (الإمام القرطبي، مشهور سلمان، مرجع سابق، ص104 – 109)
وكان القرطبي يبين أسباب النزول، ويذكر القراءات واللغات ووجوه الإعراب، وتخريج الأحاديث، وبيان غريب الألفاظ، وتحديد أقوال الفقهاء، وجمع أقاويل السلف، ومن تبعهم من الخلف؛ ثم أكثر من الاستشهاد بأشعار العرب، ونقل عمن سبقه في التفسير، مع تعقيبه على ما ينقل عنه، مثل ابن جرير، وابن عطية، وابن العربي، وأبي بكر الجصَّاص.
وأضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين والإسرائيليات، وذكر جانبًا منها أحيانًا؛ كما ردَّ على الفلاسفة والمعتزلة وغلاة المتصوفة وبقية الفرق، وذكر مذاهب الأئمة وناقشها، وكان يمشي مع الدليل، ولا يتعصب لمذهبه المالكي، وقد دفعه الإنصاف إلى الدفاع عن المذاهب والأقوال التي نال منها ابن العربي المالكي في تفسيره، فكان القرطبي حرًّا في بحثه، نزيهًا في نقده، عفيفًا في مناقشة خصومه وفي جدله، مع إلمامه الكافي بالتفسير من جميع نواحيه، وعلوم الشريعة.
خامساً: مدحه وثناء العلماء عليه:
مدح تفسير القرطبي غير واحد من العلماء الثقات الأثبات، وشهدوا له بالموضوعية والشمولية، يقول ابن فرحون: "وهو من أجل التفاسير، وأعظمها نفعاً، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن واستنباط الأدلة، وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ". (الديباج المذهب، ابن فرحون، ص317)
ويرى ابن العماد الحنبلي أن هذا التفسير قد حوى مذاهب السلف كلها، وأن فوائده كثيرة. (شذرات الذهب، ابن عماد، ج5 ص335)
وفي الثناء على الإمام القرطبي، قال الإمام الذهبي: "إمام متقن، متبحِّرٌ في العلم، له تصانيف مفيدة، تدل على إمامته، وكثرة اطلاعه، ووفور فضله". (طبقات المفسرين؛ للسيوطي، ص 79)
وقال عنه ابن فرحون: "كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف". (الديباج المذهب، مرجع سابق، ص407)
سادساً: وفاته:
بعد أن استقر القرطبي بمصر قرابة ثمانية وثلاثين عاماً، توفاه الله تعالى بمنية بني خصيب، وهي مدينة تقع بالصعيد الأدنى بمصر، وكان ذلك ليلة الاثنين التاسع من شوال سنة إحدى وسبعين وست مئة (671هـ)، وقبره معروف اليوم بمكان يسمى (أرض سلطان) بالمنيا، وأقيم عليه حديثاً سنة ۱۹۷۱ م مسجدٌ كبير، يحمل اسمه، ويضم ضريحاً نقلت رفات القرطبي إليه. (القرطبي ومنهجه في التفسير، ص30)
المراجع:
- الإمام القرطبي "شيخ أئمة التفسير"، مشهور حسن محمود سلمان، دار القلم – دمشق، ط1، 1413هـ - 1993م.
- الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل بن عبد الله الصفدي، جمعية المستشرقين الألمان، تحقيق مجموعة.
- معجم البلدان، لياقوت الحموي، دار صادر ودار بيروت، ۱۳۷۱ هـ.
- الحركة الفكرية في مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي الأول. لعبد اللطيف حمزة، دار الفكر العربي. ط1.
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، دار الكتب المصرية، والمصورات البيروتية، ط1 و2.
- الديباج المذهب في معرفة علماء أعيان المذهب: لابن فرحون، مطبعة السعادة بمصر، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي - مكتبة القدس بمصر، ١٣٥١ هـ.
- القرطبي المفسر (سيرة ومنهج) ليوسف عبد الرحمن الفرت، دار القلم - الكويت، ط1، ١٤٠٢هـ.