الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

تقرير حقوق الإنسان من أهم مقاصد القرآن الكريم

الحلقة: الثامنة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رمضان 1441 ه/ مايو 2020

من مقاصد القرآن الكريم تقرير حقوق الإنسان، فحقوق الإنسان في الإسلام ليستْ منحةً من ملك أو حاكم، أو قرار صادر عن سلطة محلية أو منظمة دولية، وإنّما هي حقوقٌ ملزمة بحكم مصدرها الإلهي لا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل، ولا يسمحُ بالاعتداء عليها، ولا يجوزُ التنازل عنها، ومن هذه الحقوق:
1 ـ حق الحياة:
حياة الإنسان مقدّسةٌ، لا يجوز لأحدٍ أن يعتدي عليها، قال تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
ولا تُسْلَبُ هذه القدسية إلا بسلطانِ الشريعةِ، وبالإجراءات التي تقرّها، وكيان الإنسان المادي والمعنوي حِمًى تحميه الشريعة في حياته وبعد مماته، ومن حقه الترفق والتكريم في التعامل مع جثمانه.
2 ـ حق الحرية:
حرية الإنسان مقدسةٌ ـ كحياته سواء ـ وهي الصفةُ الطبيعيةُ الأولى التي بها يولد الإنسان، وقد بينا أنّ من مقاصد الشريعة الحرية، وتحدثنا عن أنواعها، كحرية المعتقدات، وحرية التعبير، وحرية الفكر، وحرية التنقل.
ويجب توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد، ولا يجوزُ تقييدها أو الحد منها إلا بسلطان الشريعة، وبالإجراءات التي تقرّها، ولا يجوزُ لشعب أن يعتدي على حرية شعب اخر، وللشعب المعتدى عليه أن يرد العدوان، ويسترد حريته بكل السبل الممكنة، قال تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 41].
وعلى المجتمع الدولي مساندة كلِّ شعب يجاهد من أجل حريته، ويتحمل المسلمون في هذا واجباً، ولا ترخّص فيه، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الحج: 41].
3 ـ حق المساواة:
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. فالناسُ جميعاً سواسية أمام الشريعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا فضلَ لعربيٍّ على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى»، ولا تمايز بين الأفراد في تطبيقها عليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمّدٍ سرقت لقطعتُ يدها».
والناس كلهم في القيمة الإنسانية سواءٌ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم لادم، وادم من تراب»، وإنما يتفاضلون بحسب عملهم، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأحقاف: 19].
وكل فكر، وكل تشريع، وكل وضع يسوّغُ التفرقةَ بين الأفراد على أساس الجنس، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الدين، هو مصادرةٌ مباشرةٌ لهذا المبدأ الإسلامي العام.
ولكل فرد حق في الانتفاع بالموارد المادية للمجتمع من خلال فرصة عمل متكافئة لفرص غيره، قال تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15]، ولا يجوز التفرقة بين الأفراد كماً وكيفاً، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7 ـ 8].
4 ـ حق العدالة:
من حق كلِّ فردٍ أن يتحاكم إلى الشريعة، وأن يتحاكم إليها دون سواها، قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59].
وقال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: 49].
ومن حق الفرد أن يدفع عن نفسه ما يلحقه من ظلم، قال تعالى: ﴿لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ﴾ [النساء: 148]، ومن واجبه أن يدفع الظلم عن غيره بما يملك.
ومن حق الفرد أن يلجأَ إلى سلطةٍ شرعيةٍ تحميه وتنصفه وتدفع عنه، ما لحقه من ضرر أو ظلم، وعلى الحاكم المسلم أن يقيمَ هذه السلطة، ويوفّر لها الضمانات الكفيلة بحيدتها واستقلالها.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]. وقال تعالى: ﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾[ص: 26].
5 ـ حق الفرد في محاكمة عادلة:
البراءةُ هي الأصل، وهو مستصحَبٌ ومستمرٌّ حتى مع اتّهام الشخص ما لم تثبتْ إدانتُه أمامَ محكمةٍ عادلةٍ إدانةً نهائيةً، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [الإسراء: 15].
ولا يحكم بتجريم شخص، ولا يعاقب على جرم إلاّ بعد ثبوت ارتكابه له بأدلة لا تقبل المراجعة أمام محكمة ذات طبيعة قضائية كاملة، قال تعالى: ﴿إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [النجم: 28].
ولا يجوز بحال تجاوزُ العقوبةِ التي قدرتها الشريعةُ للجريمةِ، قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: 229].
ولا يؤخذُ إنسانٌ بجريرةِ غيره، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء: 15]، وكل إنسان مستقل بمسؤوليته عن أفعاله، قال تعالى: ﴿كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور: 21]. ولا يجوزُ بحال أن تمتدَّ المسألةُ إلى ذويه من أهل وأقارب أو أتباع وأصدقاء، قال تعالى: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ﴾ [يوسف: 79].
6 ـ حق الحماية من تعسف السلطة:
لكل فردٍ الحق في حمايته من تعسف السلطات معه، ولا يجوزُ مطالبته بتقديم تفسيرٍ لعمل من أعماله، أو وضعٍ من أوضاعه، ولا توجيه إتهام له إلا بناء على قرائن قوية تدل على تورطه فيما يوجه إليه، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً ﴾ [الأحزاب: 58].
7 ـ حق الفرد في حماية عرضه وسمعته:
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾ [الحجرات: 11].
عِرضُ الفرد وسمعته حرمةٌ لا يجوزُ انتهاكها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرامٌ كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».
ويحرم تتبع عوراته، ومحاولة النيل من شخصيته، وكيانه الأدبي. قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].
8 ـ حق اللجوء:
من حقِّ كلِّ مسلم مضطهَدٍ أو مظلومٍ أن يلجأ إلى حيثُ يأمن، في نطاق دار الإسلام، وهو حقٌّ يكفُلُه الإسلامُ لكلِّ مضطهَدٍ، أيَّاً كانت جنسيته، أو عقيدته، أو لونه، ويتحمل المسلمون واجب توفير الأمن له متى لجأ إليهم.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة: 6].
وبيت الله الحرام ـ بمكة المشرفة ـ هو مثابةٌ وأمنٌ للناس جميعاً، لا يُصَدُّ عنه مسلم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ [آل عمران: 97]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً﴾ [البقرة: 125].
9 ـ حقوق الأقليات:
الأوضاع الدينية للأقليات يحكمُها المبدأُ القرآني العام، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]. والأوضاع المدنيةُ والأحوال الشخصية للأقليات، تحكمُها شريعةُ الإسلام إن هم تحاكموا إلينا، قال تعالى: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: 42]، فإن لم يتحاكموا إلينا كان عليهم أن يتحاكموا إلى شرائعهم ما دامت تنتمي ـ عندهم ـ لأصل إلهي: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾[المائدة: 43]. وقال تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾[المائدة: 47].
10 ـ حق المشاركة في الحياة العامة:
من حق كل فرد في الأمة أن يعلمَ بما يجري في حياتها، من شؤون تتصل بالمصلحة العامة للجماعة، وعليه أن يُسْهِمَ فيها بقدر ما تتبع له قدرته ومواهبه إعمالاً لمبدأ الشورى، قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 28]، وكل فرد في الأمة أهلٌ لتولي المناصب، والوظائف العامة، متى توافرت فيه شرائطهـا الشرعية، ولا تسقط هذه الأهليةُ أو تنقصُ تحت أيِّ اعتبار عنصري أو طبقي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمونَ تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم».
والشورى أساسُ العلاقة بين الحاكم والأمة، ومن حق الأمة أن تختار حكّامها بإرادتها الحرة، تطبيقاً لهذا المبدأ، ولها الحقُّ في محاسبتهم وفي عزلهم إذا حادوا عن الشريعة، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «إنِّي وليتُ عليكم، ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقوّموني، الصدقُ أمانةٌ، والكذبُ خيانةٌ... أطيعوني ما أطعتُ اللهَ ورسولَه، فإذا عصيتُ اللهَ ورسولَه، فلا طاعة لي عليكم».
11 ـ حق الدعوة والبلاغ:
لكلِّ فردٍ الحقُّ في أن يشاركَ مع غيره أو منفرداً في حياة المجتمع دينياً، واجتماعياً، وثقافياً، وسياسياً... إلخ وأن ينشِأئَ من المؤسسات، ويصنعَ من الوسائل ما هو ضروري لممارسة هذا الحق، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108].
ومن حق كلِّ فرد بل ومن واجبه أن يأمرَ بالمعروف، وينهى عن المنكر، وأن يطالِبَ المجتمعَ بإقامة المؤسسات التي تهيئ للأفراد الوفاء بهذه المسؤولية، تعاوناً على البر والتقوى، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[ال عمران: 104] ، وحق الإنسان في إنكار المنكر، ورفض الفساد، ومقاومة الظلم البين، والكفر البواح، قرره القرآن بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: 13]. وقال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78 ـ 79]، كيف لا وقد قيّدَ الله الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بالمعروف، فقال في بيعة النساء: ﴿وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ [الممتحنة: 12]. وقال على لسان نبيِّ الله صالح: ﴿وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ۝ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ ﴾ [الشعراء: 151 ـ 152].
بل إنّ الإسلام قد ارتقى بهذه الأمور من مرتبة الحقوق إلى مرتبة الفرائض والواجبات، لأنّ ما كان من الحقوق يمكِنُ لصاحبه أن يتنازل عنه، أمّا الواجبات المفروضة فلا يجوز التنازلُ عنها.
12 ـ الحقوق الاقتصادية:
الطبيعة ـ بثرواتها جميعاً ـ ملكٌ لله تعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 120]، وهي عطاء منه للبشر، منحهم حق الانتفاع بها، قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13].
وحرم عليهم إفسادها وتدميرها، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [الشعراء: 183].
ولا يجوزُ لأحدٍ أن يحرمَ اخر أو يعتدي على حقه في الانتفاع بما في الطبيعة من مصادر الرزق: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].
فلكل إنسان الحق في العمل، والمشي في مناكب الأرض سعياً لكسب رزقه، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
حتى في يوم الجمعة قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10].
وفي الحج قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: 198].
ولكل إنسان الحق في أن يتمتّع بثمرة ما كسب من حلال عن طريق التملك، رجلاً كان أو امرأة: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ [النساء: 32].
13 ـ حق حماية الملكية:
لا يجوزُ انتزاعُ ملكيةٍ نشأت عن كسب حلال إلا للمصلحة العامة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188]. ومع تعويض عادل لصاحبها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أخذَ من الأرضِ شيئاً بغيرِ حقِّه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين». وحرمة الملكية العامة أعظم، وعقوبة الاعتداء عليها أشد، لأنّه عدوان على المجتمع كله، وخيانة للأمة بأسرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ استعملناه على عملٍ فرزقناه رِزقاً، فما أخذَ بعدَ ذلكَ فهو غلولٌ».
14 ـ حق العامل:
العملُ شعارٌ رفعه الإسلام لمجتمعه، قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾ [التوبة: 105]. وإذا كان حَقُّ العمل الاتقانُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللهَ يحبُّ إذا عملَ أحدُكم عملاً أن يتقنه».
حق العامل:
أ ـ أن يوفّى أجره المكافئ لجهده دون حيف عليه، أو مماطلة له، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه».
ب ـ أن توفر له حياة كريمة تتناسب مع ما يبذله من جهد وعرق.
ج ـ أن يُمْنَحَ ما هو جديرٌ به من تكريم المجتمع له، قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].
د ـ أن يجد الحماية؛ التي تحول دون غبنه، واستغلال ظروفه.
15 ـ حق الفرد في كفايته من مقومات الحياة:
من حق الفرد أن ينال كفايته من ضرورات الحياة، من طعام، وشراب، وملبس، ومسكن.. ومما يلزم لصحة بدنه من رعاية، وما يلزم لصحة روحه، وعقله من علمٍ، ومعرفةٍ، وثقافةٍ، في نطاق ما تسمح به موارد الأمة، ويمتد واجبُ الأمة ليشمل ما لا يستطيع الفرد أن يستقلَّ هو بتوفيره لنفسه من ذلك. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله».
قال ابن حزم تعليقاً على هذا الحديث: مَنْ تركه يجوع ويعري وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه. إنَّ الأخوة ليست مجرّد عاطفة، ولكنّها عقد تكافل وتعاون وتازر، وهو عقد طرفه الأساسي الأمة ممثلة في مستويات متراتبة تبدأ بالأسرةِ، حيث أوجب على أفرادها التكافل في الإرث والوصية والنفقة، قال تعالى: ﴿وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: 75].
ثم الجيرة؛ قال تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ [النساء: 36]، ثم يأتي أهلُ الحي، ثم المجتمع كله عن طريق الزكاةِ، وهي فريضةٌ ملزِمة، ثم النفقة التطوعية.
16 ـ تأكيد حقوق الضعفاء:
قرر القرآن الكريم حقوقَ الإنسان عامةً، ولكنّه عُني عنايةً فائقةً بحقوق الضعفاء من بني الإنسان خاصة خيفةَ أن يجورَ عليهم الأقوياء، أو يهملَ أمرَهم الحكامُ والمسؤولون، نجد مظاهر هذه العناية في سور القرآن الكريم مكيّه ومدنيّه، كقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9]، وفي سورة المدثر يتحدّث عن المجرمين في سقر، وأسباب دخولهم فيها، فيقول على لسان أصحاب اليمين حيث يسألونهم: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾، وهاتان السورتان الضحى والمدثر من أوائل ما نزل، وفي سورة الماعون ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۝ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۝ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾
فلم يكتفِ بإيجاب إطعام المسكين، بل أوجبَ الحضَّ على ذلك، والدعوة إليه.
وفي سورة الحاقة، علل القرآن دخول صاحب الشمال الجحيم بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ۝ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾، فقرن الحضَّ على الإيمان بالله بترك الحض على إطعام المسكين.
وفي سورة الفجر خاطب القرآن المجتمع الجاهلي المتظالم بقوله: ﴿كَلاَّ بَلْ لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۝ ولاَ تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ وأمر بالمحافظة على مال اليتيم إن كان له مال، إذ جعل ذلك من وصاياه العشر في سورة [الأنعام: 152]: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾
وفي سورة النساء وضع القواعدَ للمحافظة على مال اليتيم، وحسن استغلاله، وتنميته بالمعروف في جملة من الآيات انتهت بوعيدٍ شديد، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾
وقد جعل القرآن للمساكين واليتامى إذا كانوا فقراء حظاً في أموال الدولة من الزكاة والفيء وخمس الغنيمة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[التوبة: 60]. وقال تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾[الحشر: 7].
وإنما جعلنا الزكاة من أموال الدولة، لأنّ الله أمرَ وليَّ الأمر بأخذها، فقال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103]. فإذا لم تتول الدولة أخذها، كان على أربابِ الأموال أداؤها إلى الفقراء، يبحثون هم عن الفقراء، ولا يبحث الفقراء عنهم.
كما جعل لهم حقاً في أموال أقاربهم وسائر الأمة بعد ذلك، قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 177]. قال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ [الإسراء: 26]. وقال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: 215].
وأهم من ذلك كله: أنّ القرآن شرع القتال، وسلَّ السيوف للدفاع عن المستضعفين في الأرض، بل حرّض أبلغ التحريض على القتـال ذوداً عن حرماتهم، ودرءاً للظلم عنهم، قال تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخرةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۝ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 74 ـ 75].
هذه بعض الحقوق التي قررها القرآن للإنسان ولا نقول أعلنها، إذ كان الأمر أكبر من إعلان، إنّه بلاغ من رب الناس للناس، أسست عليه عقيدة، ونهضت على أساسه ثقافة وتربية، وبني عليه فقه وتشريع، وقامت عليه دولة وأمة، وامتدت به حضارة وتاريخ.


يمكنكم تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب:
الإيمان بالقرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022