الخميس

1446-06-25

|

2024-12-26

الإيمان باليوم الآخر:
(نعيمُ أهلِ الجنّةِ)
الحلقة: السابعة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020


1 ـ طعام أهل الجنة:
الجنةُ لا جوعُ فيها ولا عطش، قال تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى *وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى *﴾ [طـه: 118 ـ 119] .
وقال رسول الله (ﷺ): «إنّ أهلَ الجنّة يأكلونَ فيها ويشربونَ، ولا يَتْفُلُون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتمخّطون»، قالوا: فما بالُ الطعام؟ قال: «جشاءٌ ورشحٌ كرشحِ المِسْكِ، يُلْهَمُوْنَ التسبيحَ والتحميدَ، كما يُلْهَمُونَ النَّفَسَ».
وقد ذكر الله تعالى أنواعاً كثيرةً من طعامهم منها :
الفاكهة بجميع أنواعها: قال تعالى: ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ *﴾[الواقعة: 20] ومن هـذه الفاكهة العنبُ ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا *حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا*﴾ [النبأ: 31 32] وهـذه الفاكهةُ ليست بقليلةٍ، بل هي كثيرةٌ ﴿لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ *﴾ [الزخرف: 73] .
ولا يتعب المؤمن نفسه في إحضارها وجنيها، بل يطلبُ ذلك، ويحضِرُها الخدمُ له ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ *﴾ [ص: 51] .
وهـذه الفاكهة من النوع الذي يختاره ويشتهيه حتى تكملَ اللذّةُ، فلا يأتونه بشيءٍ لم يختره ولا يشتهيه ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ *وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ *﴾ [الواقعة: 20 ـ 21] وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ *وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ *كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *﴾ [المرسلات: 41 ـ 43] .
وهـذه الفاكهة لا تنقطعُ في وقتٍ من الأوقاتِ كما يحصلُ في فواكه الدنيا، بل هي متوفّرةٌ دائماً، ولا تُمنع عن أصحاب الجنة أبداً ﴿وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ *وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ *لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ *﴾ [الواقعة: 31 ـ 33] وإذا اشتهى أن يقطفَ الفاكهةَ بنفسِه فإنَّها لا تعسرُ عليه، بل تذلل له الأغصانُ، وتنزلُ حتّى يأخذُ منها ما شاء، بلا تعبٍ ولا عناءٍ ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها وذللت قطوفها تذليلا﴾ [الإنسان: 14] وقال: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ *﴾ [الرحمـن: 54] .
لحم الطير: قال تعالى: ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ *وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ *﴾ [الواقعة: 20 ـ 21] وعن أنس بن مالك قال: سُئلَ رسولُ اللهِ (ﷺ): ما الكوثر؟ قال: «ذاكَ نهرٌ أعطانيه اللهُ ـ يعني في الجنة ـ أشدُّ بياضاً من اللبنِ، وأحلى من العَسلِ، فيها طيرٌ أعناقُها كأعناقِ الجُزُرِ» قال عمر: إن هـذه لناعمةٌ، قال رسول اللهِ (ﷺ): «أكلتُها أَحْسَنُ منها» . وليس هـذا فقط طعامُهم، بل لهم كلُّ ما اشتهتْ أنفسُهم ولذّتهُ أعينُهم ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *﴾ [الزخرف: 71] .
2 ـ شراب أهل الجنة:
وأمّا شرابُهم فإنّه شرابٌ طهورٌ طيبٌ، لا كما يفعلُ بعضُ الضالّين الذين يشربون النجاسة، فتجدُهم يشربون الخمرَ، وبعضهم يشربُ الدمَ المسفوحَ، وبعضُهم يشربُ العرق وغير ذلك من النجاسات والقاذورات .
وأمّا أهلُ الجنّة فشرابهم طاهرٌ طهورٌ طيب قال تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا *﴾ [الإنسان: 21] .
ومن هـذه الأشربة: العسل واللبن والماء: قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصْفّىً﴾ [محمد: 51].
الكافور: قال تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا *﴾ [الإنسان: 5 ـ 6] .
الزنجبيل: قال تعالى: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً *عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً *﴾ [الإنسان: 17 ـ 18] أخبر سبحانه عن مزج شرابهم بشيئين: بالكافور في أول السورة، والزنجبيل في اخرها، فإنّ في الكافورِ من البردِ وطيبِ الرائحة، وفي الزنجبيلِ من الحرارةِ وطيبِ الرائحةِ ما يحدثُ لهم باجتماع الشرابين، ومجيء أحدهما على أثر الآخر حالة أخرى أكمل وأطيب وألذ من كل منهما بانفراده، ويعدّل كيفية كل منهما بكيفية الآخر، وما ألطفَ موضعَ ذكر الكافور في أول السورة والزنجبيلِ في اخرها، فإنّ شرابَهم مُزِجَ أولاً بالكافور، وفيه من البرد ما يجيء الزنجبيلُ بعدَه فيعدّله، والظاهرُ أنَّ الكأسَ الثانيةَ غير الأولى، وأنّهما نوعان لذيذان من الشراب، أحدهما مُزِجَ بكافورٍ، والثاني مُزِجَ بزنجبيلٍ.
التسنيم: قال تعالى: ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ *خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ *وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ *عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ *﴾ [المطففين: 25 ـ 28] قال ابن عباس: تسنيمٌ أشرفُ شرابِ أهلِ الجنة، وهو صرفٌ للمقربين، ويمزَجُ لأصحاب اليمين.
الخمر: تكلّمَ الله تعالى عن خمرِ الجنّةِ في غيرِ ما اية، ونفى عنه جميع افاتِ خمر الدنيا، قال تعالى: ﴿بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ *﴾ [الواقعة: 18 ـ 19] وقال: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ *يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ *﴾ [الطور: 22 ـ 23] وقال: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ [محمد: 15] فخمر الدنيا، طعمُها غيرُ لذيذٍ، ويَحْدُثُ لمن شربها صُداعٌ، وتَذْهَبُ بعقِلِه، ويكثر عندها اللغوُ واللَّغطُ، بل لا تحلو إلاَّ بكثرةِ اللغو، وتوقع الإنسانَ في الآثامِ العظامِ من دخولٍ تحت اللعنةِ، وارتكابٍ للمحظورات، فلا يمتنع عن شيءٍ منها، وكيف يمتنع وهو لا عقل له ؟ فهـذه خمسةُ منغّصاتٍ لخمر الدنيا نفاها الله عن خمر الآخرة، فالطعمُ لذّة للشاربين، وهم ﴿لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ *﴾ أي: تُذْهِبُ عقولَهم، ولا لغو عندها، ولا إثم فيها . وقال تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ *لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ *﴾ [الصافات: 45 ـ 47] .
وهـذه الكأسُ من خمر الجنة، ( والمعين ) الجاري الكثير، ولونُ هـذه الخمر بيضاء أي حسنةُ المنظرِ، وهي ( لذةٌ )، والغَوْلُ صداعٌ في الرأسِ، وقيل وجعٌ في البطنِ، وهي ليس فيها هـذا ولا هـذا ﴿يُنْزِفُونَ *﴾أي: يسكرون منها، فلا تُذْهِبُ عقولَهم، وتبقى لذّتُها، والخمرُ هي المقصودة بقوله تعالى: ﴿يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عيناً يشرب بها المقربون﴾ [المطففين:25 27] والرحيق هي الخمر الصافية، ومن لذة الخمر أنها تُخْتَمُ بالمسك، ولعلّ أعظمَ منغّصاتِ خمرِ الدنيا أنَّ مَنْ شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة، قال رسول الله (ﷺ): « مَنْ شَرِبَها في الدُّنيا لم يَشْرَبْها في الآخرة »، وقال رسول الله (ﷺ): « مَنْ شَرِبَ الخمرَ في الدُّنيا لَمْ يَشْرَبْها في الآخرة إِلاّ أنْ يَتُوْبَ».
وقال رسول الله (ﷺ): «أيما مؤمنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِناً على جُوْعٍ أَطْعَمَهُ اللهُ يومَ القيامةِ مِنْ ثمارِ الجنّةِ، وأيما مؤمنٍ سَقَى مُؤْمِناً على ظَمَأٍ سَقَاهُ اللهُ يومَ القيامةِ مِنْ الرَّحِيْقِ المختومِ، وأيّما مؤمنٍ كسا مُؤْمِناً على عُرْيٍ كَسَاهُ اللهُ مِنْ خضر الجنّةِ ».
3 ـ انية طعامهم وشرابهم:
انيةُ طعامِ أهلِ الجنّةِ مِنْ ذهبٍ وفضةٍ، قال تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*﴾ [الزخرف: 71]، ( الصِّحَاف ) جمع صحفة وهي القصعةُ وزناً ومعنى، وهي من ذهبٍ كما هو صريحُ الآية، والأكوابُ جمع كوب وهو الكوزُ المستديرُ الرأسِ الذي لا عروةَ له ولا خرطوم.
وقال رسولُ اللهِ (ﷺ): « أوّلُ زمرةٍ تدخلُ الجنَّة على صورةِ القمرِ ليلةَ البدرِ، والذين على أثرِهم كأشدِّ كوكبٍ إضاءةً، قلوبُهم على قلبِ رجلٍ واحدٍ، لااختلافَ بينهم ولا تباغُض، لكلِّ امرىءٍ منهم زوجتان، كلُّ واحدةٍ منهما يُرَى مُخُّ ساقِها مِنْ وراءِ لحمها من الحُسْنِ، يُسَبِّحُوْنَ اللهَ بُكْرةً وعَشِيّاً، لا يَسْقُمُوْنَ، ولا يَتَمَخَّطونَ، ولا يَبْصُقُونَ، انيتُهم الذهبُ والفضةُ، وأمشاطُهم الذهبُ، ووقودُ مجامِرُهم الأُلّوة ـ يعني العود ـ ورشحُهم المِسْكُ ».
وقال تعالى: ﴿بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ *﴾ [الواقعة: 18 ـ 19] أباريق جمع إبريق، والأكواب الكبيرة ذاتُ العري والخراطيم، والكأسُ هو الكوبُ إذا كان فيه شرابٌ، وهـذا الكأسُ مليءٌ بالشرابِ، كما قال تعالى: ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا *﴾ [النبأ: 34] أي مليئةٌ مترعةٌ متتابعةٌ، وهـذا من كمالِ النعيم، فلا ينقصهم شيءٌ حتّى الكؤوسُ مليئةٌ، وقال تعالى: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا *قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا *﴾ [الإنسان: 15 ـ 16] القوارير الزجاج، أي هي في صفاء الزجاج، وهي من فضة، وهـذا ما لا نظيرَ له في الدُّنيا.
وهي معدّةٌ على قَدْرِ كفايةِ وليِّ الله في شربةٍ لا تنقصُ عن كفايته شيء ولا تزيدُ، فقد قدّروها تقديراً، وهـذا أبلغ في لذّة الشارب، فلو نقصَ عن ريِّه لنقص التذاذهُ، ولو زاد حتى يشمئز منه حصل له ملالةٌ وسامةٌ من الباقي، وهـذا يدلُّ على الاعتناء والشرف . وقال رسول الله (ﷺ): « لا تلبَسُوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ، ولا تشربوا في انيةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ولا تأكلوا في صِحَافها، فإنَّها لهم في الدُّنيا، ولنا في الآخرة » . وقال رسول الله(ﷺ): « جنّتانِ من فضةٍ انيتُهما وما فيهما، وجنتان من ذهبٍ انيتُهما وما فيهما، وما بينَ القومِ وبين أن ينظروا إلى ربِّهم إلاَّ رداءُ الكبرياءِ على وجهه في جنّةِ عَدْنٍ » .
4 ـ لباس أهل الجنة وحليهم:
لا عُرْيَ في الجنّة قال تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى *وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى *﴾ [طـه: 118 ـ 119] . وقال رسول الله (ﷺ): «مَنْ يدخلُ الجنّةَ يَنْعُمُ لا يَبْأَسُ، لا تَبْلَى ثيابهُ، ولا يَفْنَى شبابُه ».
ولهم أفضلُ أنواعِ اللباسِ فمن ذلك :
الحرير: بأنواعه الرقيق منه والغليظ قال تعالى ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا*﴾ [الإنسان: 12] وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ *﴾ [الحج: 23] وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا *﴾ [الكهف: 31] وقال سبحانه: ﴿يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ *﴾ [الدخان: 53] .
والسندس ما رقَّ من الديباجِ والحريرِ، والاستبرق ما غلظَ منه، وقال الزّجَّاجُ: هما نوعانِ من الحرير، وأحسن الألوان الأخضر، وألين اللباس الحرير، فجمع لهم بين حُسْنِ منظرِ اللباس، والتلذذ به. وقال تعالى: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا*﴾ [الإنسان: 21] تأمل ما دلّتْ عليه لفظة من كون ذلك اللباس ظاهراً بارزاً يُجَمِّلُ ﴿عَالِيَهُمْ﴾، ليس بمنزلة الشعار الباطن، بل الذي يلبس فوق الثياب للزينة والجمال .
وأمّا حليهم وأساورهم فهي كالتالي:
الذهب: قال تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ﴾ [الحج: 23] .
الفضة: ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ [الإنسان: 21] .
اللؤلؤ: قال تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أْسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ *﴾ [فاطر: 33] فأساوِرُ أهل الجنة بعضُها من الفضة، وبعضُها من ذهبٍ، وبعضُها من لؤلؤ، قال تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ *﴾ [الحج: 23] .
5 ـ فرش أهل الجنة:
قال تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ *﴾ [الرحمـن: 54] فَفُرْشُ أهل الجنّةِ باطنُها من حريرٍ، فإذا كان هـذا باطُنها، فكيف هو ظاهرُها؟ وهـذه الفرشُ عاليةٌ لها سُمك وحشو بين البطانة والظهارة، كما قال تعالى: ﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ *﴾ [الواقعة: 34] .
6 ـ بسط أهل الجنة:
قال تعالى: ﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ *﴾ [الغاشية: 16] والزرابيُّ جمعُ زربية وهي البسط، وهو مبثوثةٌ على شكلٍ متّسقٍ ومتكاملٍ، وقال تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ *﴾ [الرحمـن: 76] العبقري: البسط الجياد، والرفرف: رياض الجنة .
7 ـ الوسائد:
قال تعالى: ﴿وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ *وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ *﴾ [الغاشية: 15 ـ 16] النمارق: جمع نمرقة وهي الوسادة، وهي التي توضَعُ تحتَ الرأسِ، وقيل المساند، وهي التي تُوْضَعُ خلفَ الظهر أو على الجنب . وقد يعمهما اللفظ. وهـذه المخاد والوسائد مصفوفةٌ ومعدّةٌ للاستناد إليها دائماً، وترتيبُ الوسائدِ وصفُّها أجملُ للناظر من المبعثرة، وهـكذا وسائدُ أهل الجنة، فينعمون حتّى بالنظر.
8 ـ سرر وأرائك أهل الجنة:
قال تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ *﴾ [الطور: 20] السرر: جمع سرير وهو الذي يجلس عليه .
وذكر الله تعالى لهـذه السرر ثلاث صفات:
قال تعالى: فالسررُ مصفوفةٌ بعضُها إلى جانبِ ﴿سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ﴾، وليس بعضُها خلف بعض، ولا بعيدٌ عن بعض .
وقال تعالى: ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ *مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ *﴾ [الواقعة: 15 16] موضونةٌ: أي مرصّعة، ومتقاربة، ومنسوجة بقضبانِ الذهب مشبّكةٌ بالدُّر والياقوت والزبرجد .
وقال تعالى: ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ *﴾ [الغاشية: 13] .
وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا *﴾ [الكهف: 31] وقال تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ *﴾ [ص: 51] وقال تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا *﴾ [الإنسان: 13] وقال تعالى: ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ٢٣تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ٢٤﴾ [المطففين: 23-24] وقال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ *عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ *﴾ [المطففين: 34 ـ 35] الأرائكِ جمعُ أريكةٍ، قال ابن عباس: لا تكونُ أريكةً حتى يكونَ السريرُ في الحَجَلَةِ، وقال مجاهد هي الأسرّةُ في الحجال، والحجال: القبةُ من القماشِ تكونُ على السريرِ مثلما يُصْنَعُ للعروسِ على سريرِها من ضربِ الستور والأقمشةِ على شكل القبّة وتعلَّقُ فوق السرير، فالأريكةُ سريرٌ عليه الستور، يخلو به المؤمنُ بحِبِّه.
9 ـ خدم أهل الجنة:
قال تعالى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ *بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ*﴾ [الواقعة: 17 ـ 18] وقال تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا *﴾ [الإنسان: 19] يطوفُ على أهلِ الجنّةِ للخدمةِ وُلْدَانٌ من ولدانِ أهل الجنّة ﴿مُخَلَّدُونَ﴾ أي على حالةٍ واحدةٍ مخلَّدون ، لا يتغيّرون عنها، لا تزيدُ أعمارُهم عن تلك السنُّ، وقوله تعالى: ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا *﴾ [الإنسان: 19] أي إذا ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾ في انتشارهم في قضاء حوائج ، وكثرتهم، وصباحةِ وجوههمِ، وحسنِ ألوانهم وثيابهم وحليهم ﴿حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا *﴾ يكونُ في التشبيه أحسنُ من هـذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن .
10 ـ سوق أهل الجنة:
قال رسول الله (ﷺ): «إنّ في الجنّةِ لسوقاً، يأتونها كلَّ جُمُعَةٍ، فتهبُّ ريحُ الشمالِ، فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادونَ حُسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حُسناً وجمالاً، فيقولُ لهم أهلوهم: واللهِ لقد ازددتُم بعدَنا حُسْناً وجمالاً، فيقولون: أنتم، واللهِ لقد ازْدَدْتُم بعدَنا حُسناً وجمالاً» .
والمراد بالسوقِ مجمّعٌ لهم يجتمعون كما يجتمع الناسُ في الدنيا في السوق، ومعنى يأتونها كلَّ جمعة، أي مقدار كل جمعة، أي أسبوع، وليس هناك حقيقةً أسبوعٌ، لفقد الشمس والليل والنهار.
11 ـ سماع أهل الجنة:
قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ *﴾ [الروم: 15] وقال تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ *﴾ [الزخرف: 70] .
قال يحيى بن أبي كثير: الحَبْرَةُ: اللذّة وسماعُ الغناء، وقال تعالى: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ *﴾ [يـس: 55] قال ابن عباس رضي الله عنه: شُغُلُهم بسماعِ الأوتار . وقوله الفكاهةُ المزاحُ والكلامُ الطيِّبُ والمتفكه المتنعم.
12 ـ لهم ما اشتهت نفوسهم:
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ *﴾ [الأنبياء: 101 102] وقال تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ *﴾ [يـس: 57] وقال جل ذكره: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولاً*﴾ [الفرقان: 16] وقال تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ﴾ [الزمر: 34] وقال تعالى: ﴿بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *﴾ [الزخرف: 71]
13 ـ الجمع بين متاع الدنيا ونعيم الجنة:
الدُّنيا تُذَمُّ إذا كانت شاغلاً عن الآخرة، أمّا إذا جعلها العبدُ مَعْبَراً ومَدْخَلاً لنيل الآخرة، فالأمرُ ليس كما يظن بعضُ الناسِ، وانظر إلى الصالحينَ من قوم قارون عندما أنسته أموالهُ الآخرة قالوا له: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخرة وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ *﴾ [القصص: 77] فلم يأمروه بتركِ الدنيا كلِّها، بل قالوا له: ﴿وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ وأقرّهم ربُّ العزة على هـذه ، وسطّرها في كتابه عنواناً لمنهج رباني. وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*﴾ [الأعراف: 32] .

يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book173.pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022