الأسباب والمسببات
الحلقة: السابعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020م
إن الله تعالى قدر الأشياء بأسبابها، فالقدر يتعلق تعلقاً واحداً بالسبب وبالمسبب معاً، أي أن هذا المسبب سيقع بهذا السبب، ومن الأدلة على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق للجنة أهلاً خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلق للنار أهلاً خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وهم بعمل أهل النار يعملون .
وفي المضمار نفسه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته بأن الله كتب المقادير، فقالوا: أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيسير إلى عمل أهل الشقاوة، اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: "فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى" (الليل : 5 ـ 10) .
وفي هذا الحديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في هذا الحديث في شأن القدر إلى أمرين هما سبب السعادة: الإيمان بالأقدار، إذ هو نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى غيره وتحجز عن شره، وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر .
فلا منافاة بين الأخذ بالأسباب والإيمان بالقضاء والقدر، فمن القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، وإستجلاب الرحمة، كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يحمل السلاح، وقد قال تعالى: "خُذُواْ حِذْرَكُمْ" (النساء : 71) ، وأن لا يسقي الأرض بعد بث البذور، فيقال : إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر ، وإن لم يسبق لم ينبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب، وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر، والذي قدر الخير قدره بسببه، والذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته .
ولبيان ارتباط الأخذ بالأسباب وتناسقه مع الإيمان والقدر وفق الحكمة الإلهية يقول الرازي عن تفسير قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ" (النساء : 71) أنه لما كان الكل لقدر كان الأمر بالحذر أيضاً داخلاً في القدر، فكان قول القائل: أي فائدة من الحذر كلاماً متناقضاً، لأنه لما كان هذا الحذر مقدراً، فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر؟ .
وحاصل تحقيق كلام الرازي: أن القدر عبارة عن جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب، فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده .
ويؤيد ذلك من السنة النبوية ما ورد أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هي من قدر الله، وذلك لأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فإذا كان قد علم أنها تكون بأسباب من عمل وغيره، وقضى أنها تكون كذلك وقدر ذلك لم يجز أن يظن أن تلك الأمور تكون بدون الأسباب التي جعلها الله أسباباً، وهذا عام في جميع الحوادث .
إن قدر الله تعالى وقضاؤه غير معلومين لنا، إلا بعد الوقوع فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفاً عن موافقة قدر الله لمأمولنا، فإن استفرغنا جهودنا وحُرمنا المأمول علمنا أن قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا ، فأما ترك الأسباب فليس من شأننا ، وهو مخالف لما أراد الله منا ، وإعراض عما أقامنا الله فيه في هذا العالم، وهو تحريف لمعنى القدر .
إن القضاء والقدر اللذان ورد في القرآن ذكرهما ـ وجعلهما الناس مرتبطين بفعل الإنسان ومسلكه في الحياة ـ سوى النظام العام الذي خلق الله عليه الكون وربط فيه بين الأسباب والمسببات، وبين النتائج والمقدمات سنة كونية دائمة، لا تتخلف والحاصل أن الإسلام لا يسمح أن يضل الإنسان أو ينحرف عن أوامر الله في عقائده ودينه، ثم يعتذر بالقضاء والقدر، ولو صح ذلك لبطلت التكاليف وكان بعث الرسل وإنزال الكتب، ودعوة الإنسان إلى دين الله وما يجب، ووعده بالثواب لأهل الخير وبالعقاب لأهل الشر ـ باطلاً ـ لا يتفق وحكمة الخالق الحكيم في تصرفه وتكليفه الرحيم بعباده .
1 ـ تأثير السبب في المسبب:
إن الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها ـ مع ذلك ـ أضداد تمانعها، والمسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشئته وقدرته، كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة الجازمة مع القدرة .
ولا قال أحد من أئمة المسلمين ـ لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا مالك، ولا أبو حنيفة ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا الليث، ولا أمثال هؤلاء ـ إن، الله يكلف العباد ما لا يطيقونه. ولا قال أحد منهم: إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله، أو لا تأثير لها في كسبه، ولا قال أحد منهم : إن العبد لا يكون قادراً إلا حين الفعل، وإن الاستطاعة على الفعل لا تكون إلا معه ، وإن العبد لا استطاعة له على الفعل قبل أن يفعله، بل نصوصهم مستفيضة بما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات استطاعة لغير الفاعل، كقوله تعالى: "وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" (آل عمران : 97) . وقوله تعالى: "فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا" (المجادلة : 4) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب .
والمقصود بتأثير السبب في المسبب، أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا حق، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات. وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركاً، وإلا يكون إثبات جميع الأسباب شركاً، وقد قال الحكيم الخبير :"فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ" (الأعراف: 57) . وقال تعالى:"فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" (النمل: 60) . وقال تعالى:"قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ" (التوبة: 14) .
كما أن تأثير العبد في فعله يتوقف على تحقيق الشرط وانتفاء المانع، فإذا فُسّر التأثير بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع ـ وكل ذلك بخلق الله تعالى ـ فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فُسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع فليس شيء من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولا ندله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. يقول تعالى:"مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ" (فاطر: 2) . وقال تعالى:"قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" (سبأ: 22 ـ 23) . وقال تعالى:"قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ" (الزمر: 38) ، ونظائر هذا في القرآن كثيرة .
إن من الأسباب ما يعرفه كل إنسان بفطرته مثل الوطء سبب الولد، والقاء البذور سبب للزرع، والأكل سبب للشبع، وشرب الماء سبب للري .
ومن الأسباب ما يجادل فيه بعض الناس مثل اتباع شرع الله سبب للسعادة في الدنيا والآخرة والخروج على هذا الشرع سبب للشقاوة في الدنيا والآخرة، والدعاء سبب لدفع المكروه ونوال المطلوب ومن الأسباب ما يخفى على كثير من الناس مثل أسباب الأحداث الإجتماعية وما يصيب الأمم من عز وذل وتقدم وتأخر ورخاء وشدة وهزيمة وانتصار ونحو ذلك فهذه الأحداث لها أسبابها التي تستدعي هذه النتائج ولا يمكن تخلف هذه النتائج إذا انعقدت أسبابها، فهي كالأحداث الطبيعية من تجمد الماء وغليانه ونزول المطر فهذه أحداث لها أسبابها التي قدّرها الله فمتى تحققت هذه الاسباب تحققت هذه الأحداث وكل الفرق بينها وبين الأحداث الإجتماعية أن الأولى أسبابها منضبطة ويمكن معرفة حصول أكثرها إذا عرفت أسبابها، أما الثانية أي الأحداث الإجتماعية فإن أسبابها كثيرة جداً، ومتشابكة ويصعب الجزم بوقت حصول نتائجها وإن أمكن الجزم بحصول هذه النتائج .
والشرع دلنا على هذا القانون العام قانون السبب والمسبب في نصوص كثيرة والمقصود أن ما قدّره الله وقضاه إنما قدّره بأسباب، فمن أراد الحصول على نتيجة معينة فلابد من مباشرة السبب المفضي إليها .
وما ذهب إليه العلماء المحققون في فاعلية السبب في مسببه بإذن الله تعالى هو ما يتفق مع ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة وهو المنهج الوسط والطريق الاسدّ في إعمال النصوص كلها على وجه الجمع دون الاقتصار على بعضها وهذا ما ذكرناه، هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أهل العلم بالقبول.
ولا يخفى أن اعتناق هذا الرأي يفسح الطريق أمام القيام بأعباء خلافة الإنسان في الأرض والتفكر في سنن الله في الخلق وتوطئة للوقوف على أسبابها ونتائجها، ومن ثمّ التفاعل مع معطياتها بما يحقق إناطة تحمل المسئولية بالمكلفين في الدنيا والآخرة، وهو الأمر الذي يوسع ويثري من دائرة الدراسات الإجتماعية والنفسية والأخلاقية وفق المنهج الإسلامي، مما يعيد لهذه الأمة شهودها الحضاري ووسطيتها الشاملة التي ضمنها لها الشرع الشريف في قوله تعالى:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة: 143) ، وبذلك تعود الأمة إلى اصولها وخيريتها :"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" (آل عمران: 110) ، وبالأحرى تتخلص من تبعيتها للثقافات الوافدة التي ترزخ تحت وطأتها إلى يومنا هذا رغم عدم انسجامها مع معطيات الشرع وحقائق الفطرة .
2ـ قال صلى الله عليه وسلم: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر :
وشرح هذا الحديث: أن "العدوى":انتقال المرض من المريض إلى الصحيح وكما يكون في الأمراض الحسية يكون في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة، فقوله صلى الله عليه وسلم "عدوى" يشمل العدوى الحسية والمعنوية. و"الطيرة": هي التشاؤم بمرئى أو مسموع أو معلوم.
و"الهامة": فسرت بتفسيرين:
الأول: داء يصيب المرضى وينتقل إلى غيره، وعلى هذا التفسير يكون عطفها على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثاني: طير معروف تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل فإن هذه الهامة تأتي إلى أهله وتنعق على رؤوسهم حتى يأخذوا بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه تكون في صورة الهامة وهي نوع من الطيور تشبه البومة أو هي البومة، تؤذي أهل القتيل بالصراخ حتى يأخذوا بثأره، وهم يتشاءمون بها فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت قالوا إنها تنعق به ليموت ويعتقدون قرب أجله وهذا باطل.
و"صفر": فسر بتفاسير:
الأول: أنه شهر صفر المعروف والعرب يتشاءمون به.
الثاني: أنه داء في البطن يصيب البعير وينتقل من بعير إلى آخر، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثالث: صفر شهر صفر، والمراد به النسيء الذي يضل به الذين كفروا، فيؤخرون تحريم شهر المحرم إلى صفر يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً.
وأرجحها أن المراد صفر حيث كانوا يتشاءمون به في الجاهلية، والأزمنة لا دخل لها في التأثير، وفي تقدير الله عز وجل فهو كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب التوكل على الله، وصدق العزيمة ولا يضعف المسلم أمام هذه الأمور.
والنفي في هذه الأربعة ليس نفياً للوجود، لأنها موجودة ولكنه نفي للتأثير، فالمؤثر هو الله فما كان منها سبباً معلوماً فهو سبب صحيح، وما كان منها سبباً موهوماً فهو سبب باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه ولسببيته، فالعدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله صلى الله عليه وسلم: لا يورد ممرض على مصح . أي لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة، لئلا تنتقل العدوى وقوله صلى الله عليه وسلم: فر من المجذوم فرارك من الأسد ، الجذام: مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه، فالأمر بالفرار حتى لا تقع العدوى، وفيه اثبات العدوى لتأثيرها، لكن تأثيرها ليس أمر حتمي بحيث تكون علة فاعلة، ولكن أمر النبي صلى الله عليه وسلم الفرار من المجذوم وأن لا يورد ممرض على مصح، من باب تجنب الأسباب، لا من باب تأثير الأسباب بنفسها، قال تعالى:"وَلاَتُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" (البقرة: 195) ، ويقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير العدوى، لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
فإن قيل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: لا عدوى، قال رجل: يا رسول الله أرأيت الإبل تكون في الرمال مثل الضبا فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار بقوله:" فمن أعدى الأول: إلى أن المرض انتقل من المريضة إلى هذه الصحيحات بتدبير الله عز وجل، فالمرض نزل على الأول بدون عدوى بل نزل من عند الله عز وجل، والشيء قد يكون له سبب معلوم، وقد لا يكون له سبب معلوم، وجرب الأول ليس معلوماً إلا أنه بتقدير الله تعالى وجرب الذي بعده له سبب معلوم ولو شاء الله تعالى ما جرب، ولهذا أحياناً تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية قد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون، فالإنسان يعتمد على الله ويتوكل عليه وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه رجل مجذوم فأخذ بيده وقال له "كل" أي من الطعام الذي كان يأكل منه الرسول صلى الله عليه وسلم لقوة توكله صلى الله عليه وسلم، فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي، وهذا الجمع الذي ذكرنا أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث وإذا أمكن الجمع وجب لأن فيه إعمال الدليلين .
3ـ الجزاء الأخروي والأسباب:
لم يقتصر قانون السببية على إقامة الكون وتسييره فحسب ولا على الثواب والعقاب الدنيوي وحده، وإنما تجاوز ذلك ليكون الاصل أيضاً في الثواب والعقاب الأخروي، وذلك من كمال العدل الرباني والحكمة البالغة، والاصل في ذلك قوله تعالى:"مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا" (النساء: 147) ، فهذه الآية دالة على اعتبار سنة الاسباب حتى في الجزاء الأخروي، إذ لا عذاب إلا بكفران، فإذا انتفى السبب ـ وهو الكفر سواء الاعتقادي أو العملي ـ فلا عذاب بل هو نعيم ودخول في معية المؤمنين كما دلت على ذلك الآيات السابقة لهذه الآية، وهي التي بيّنت طريق الخلاص للمنافقين من نفاقهم وسبيل قبول الله أعمالهم، فقالت بعد توعد المنافقين بالدرك الاسفل من النار:"إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء: 146) .
والآيات في اعتبار الأسباب في الجزاء الأخروي كثيرة، ومنها على سبيل المثال: قوله تعالى:"كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ" (الحاقة: 24) . وقوله تعالى:"كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الطور: 19) . وقوله تعالى:"ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ" (آل عمران: 181 ـ 182) . وقوله تعالى:"لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا *جَزَاء وِفَاقًا" (النبأ: 24 ـ 26) . وقوله تعالى:"فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (التوبة: 95) .
4 ـ الحث على طلب الاسباب في الأمور المكفولة:
ترشدنا الآيات القرآنية إلى الأمر الشرعي قائم على حث الخلق على الأخذ بالأسباب حتى في الأمور التي كفلها الله له بموجب فضله وكرمه، ومن شواهد ذلك قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الملك : 15) . فقد تكفل الله برزق مخلوقاته بدليل قوله تعالى: "وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا" (هود : 6) . وقال تعالى: "وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَاتُوعَدُونَ" (الذاريات : 22) . وقال تعالى: "وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ" (العنكبوت : 60) .
ولكنه سبحانه جعل طريق وصول هذا الرزق وتحصيله في الأخذ بالأسباب والسعي والكسب في الحياة ، ومع تقدير الله للعبد في الرزق، فيجب عليه طرق الأسباب في طلب الرزق، وهذا لا ينافي التوكل ، وزيادة الرزق جعل الله لها أسباباً منها:
أ ـ صلة الرحم: قال صلى الله عليه وسلم : "من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه .
ب ـ تقوى الله: قال تعالى: "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" (الطلاق: 2 ـ 3) . وكذلك اجتناب البغي، وظلم العباد، والرياء، وأكل مال اليتيم.
وكذلك الأسباب الطبيعية والمادية، كالسعي للرزق وبذل الجهد، واختيار الأزمان المناسبة وحسن اختار المكاسب النافعة ونحو ذلك، وهذه الأسباب والمسببات كلها بقدر الله تعالى ومشيئته .
وما أجمل ما قاله عمر بن الخطاب لبعض الناس في زمنه عندما قال: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم أرزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة وإنما يرزق الله تعالى بعضهم من بعض، أما قرأتم قول الله تعالى: "فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ" (الجمعة : 10) .
5 ـ مراعاة صورة الأسباب في الخوارق:
إذا كان الأصل في السنن الجارية هو تعلق المسببات بأسبابها، وارتباط النتائج بمقدامتها، فإن الأصل لا يتغير في السنن الخارقة المبنية على خرق العادة والأسباب، وعدم التغيير فيها يتمثل في مراعاة صورة الأسباب في تلك الخوارق ليظل قانون السببية عالقاً بذهن المكلف، ومرتبطاً بإقامة الكون وحركة الحياة، والقرآن الكريم زاخراً بالآيات التي يمكن الاستدلال بها في هذا الصدر ، ومنها: قوله تعالى: "فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً" (البقرة : 60) . وفي الكلام حذف تقديره: فضرب فانفجرت .
قال القرطبي: وقد كان الله تعالى قادراً على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب، ولكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد، وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في الميعاد .
6 ـ تهيئة الأسباب لوقوع مراد الله:
إذا أراد وقوع شئ في هذا الوجود هيأ له أسبابه التي يقع بها، وذلك لأنه جعل نظام هذا الكون مبنياً على سنن لا تنخرم وقوانين لا تنخرم إلا بمشيئة الله عز وجل، كما هو الشأن في المعجزات وخوارق العادات، وهو استثناء من القاعدة التي قام عليها الكون من اعتبار الأسباب ـ حقيقة ـ في الوصول إلى مسبباتها، وقد قيل إذا أراد الله أمراً يسّر أسبابه.
ومن التطبيقات الواضحة لهذا العنوان في القرآن الكريم ما جاء في حيثيات غزوة بدر وملابساتها، حيث هيأ الله تعالى أسباب النصر للمسلمين في هذا اليوم،، ولم يجعل نصرهم ـ في ظاهر الأمر ـ من قبيل الخوارق المحضة التي ليس للسبب فيها نصيب، خاصة في مثل هذا الموقف الشديد الذي عانى فيه المسلمون من قلة العدد والعتاد، كل ذلك ليتبين للمسلمين قبل غيرهم أن السنن الإلهية والقوانين الربانية التي قام عليها نظام الكون لا تتخلف عادة، وقد تجلت هذه الأسباب، وظهرت فيما جاء في قوله تعالى عن غزوة بدر: "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ" (الأنفال : 11) .
فإن اغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، لأنهم لما ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة، ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب .
7ـ الأسباب تعمل مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع:
فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع ، ولابد من تمام الشروط وزوال الموانع ـ أي في انتاج الأسباب ـ وكل ذلك بقضاء الله وقدره وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوبه، بل لابد من انضمام أسباب أخرى إليه، ولابد أيضاً من صرف المواقع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل الله في البدن من الأعضاء والقوى . قال تعالى:"أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ" (الواقعة: 63 ـ 64) أي: إذا كانت منكم الحراثة والبذر ـ مع اعانتنا لكم على ذلك ـ فإن إتمام الزرع والإثمار وتوفير الشروط وإزالة الموانع من شأننا نحن، ويؤكد ذلك قوله تعالى:"أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ" (النمل: 60) . فقد ذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلق الله، ولقطع شبهة أن يقولوا: إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء، اغتراراً بالسبب فبودر بالتأكيد بأن الله خلق الاسباب وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب، وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر، أو يقتلهما، ولذلك جمع بين "وَأَنزَلَ" وقوله:"فَأَنبَتْنَا" تنبيهاً على إزالة الشبهة .
8 ـ إنكار قانون السببية يؤدي إلى ابطال حقائق العلوم:
لقد ثبت بنص القرآن أن الأسباب الشرعية هي محل حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهي في اقتضائها لمسسبّباتها قدراً، فهذا شرع الرب وذلك قدره، وهما خلقه وأمره، والله له الخلق والأمر، ولا تبديل لخلق الله، ولا تغيير لحكمه، فكما لا يخالف سبحانه بالأسباب القدرية أحكامها، بل يجريها على أسبابها وما خُلقتُ له، فهكذا الأسباب الشرعية لا يخرجها عن سببها وما شُرعت له، بل هذه سنته شرعاً وأمراً، وتلك سنته قضاء وقدراً، وسنته القدرية قال تعالى: "فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر : 43) .
فالمسببات مرتبطة بأسبابها شرعاً وقدراً، ولذلك فطلبها من غير أسبابها مذموم، كما أن إنكار الأسباب لأن تكون موصلة لها بأنها أمر مردود، بل أن النتائج المترتبة على إنكار قانون النسبية كافية لهدم حقائق العلوم كلها، فإن العلوم جميعها تستند إلى هذا، القانون
ونفي الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، وهو طعن في الشرع أيضاً فالله تعالى يقول: "وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا" (البقرة : 164) . وقال تعالى: "يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ" (المائدة : 16) .
والحاصل أنه قد ثبت بالقطع أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر : 49) . وقال تعالى: "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" (الفرقان : 2). وقال تعالى: "فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" (انساء : 19) . وقال تعالى: "وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة : 216) .
والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها، ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشيء الآثار والنتائج، وإنما هي الإرادة التي تنشيء الآثار والنتائج وتهيء الظروف لتحققها، كما تنشيء الأسباب والمقدمات "لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا" (الطلاق: 1) ، "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ" (الإنسان: 30) .
والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها والله هو الذي يُقدّر آثارها ونتائجها، والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين، والنجاة من الوسواس والهواجس :"الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة: 268).
9ـ منازعة الأقدار بالأقدار:
من الأصول القطعية مباشرة الأسباب وعلى هذا فإن تركها قدح في الشرع مما يدحض ادعاءات الجهال والمغرضين، ونزيد هنا فنقول أن صاحب الإيمان بالقدر ينازع القدر بالقدر، بمعنى أن لا يستسلم للقدر مادام له دافع أو رافع أو مانع، فيأخذ من الأسباب ما يحقق ذلك، قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: كثير من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، وما قاله هذا الشيخ الجليل العارف بالله حق، ويريد بقوله رحمه الله تعالى أنه يدافع المقدور مادام في مدافعته مجال مستعيناً بالله تعالى مبتغياً وجهه.
وتفصيل ذلك أن المسلم مطالب بأخذ الوقاية من المحذور لئلا يقع ويرفعه ودفعه إذا وقع.
فمن الأول أخذ الحمية لئلا يقع المرض والابتعاد عن محل الوباء لئلا يصاب به الإنسان، والتحصن وراء الجدر والحصون في الحروب وقاية من العدو ، وليس في هذه الوقاية ومباشرة أسبابها مناقضة للإيمان بالقدر، وإنما أخذ بقدر لمنع قدر، والقدر مادام مجهولاً عندنا وهو محتمل الوقوع فنحن نباشر أسباب عدم وقوعه فإن كان مكتوباً عند الله وقوعه لم يتيسر لنا مباشرة أسباب دفعه، أو تتيسر لنا هذه الأسباب ولكن لا تؤدي إلى نتيجتها لوجود مانع يمنع من افضائها إلى مسببها، والمقصود هنا أن مباشرة الاسباب لمنع وقوع ما يحتمل وقوعه من الأقدار ليس فيه مناقضة للمعنى الصحيح للقدر وإنما هو أخذ بقدر لمنع قدر لأن السبب والمسبب بقدر الله تعالى جاء في الحديث الشريف : قيل يا رسول الله أرأيت أدوية نتدوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال هي من قدر الله . فإذا كان من قدر الله أن لا يصاب الإنسان بالمرض قدّر الله له مباشرة ما يدفع به وقوع المرض.
وعندما وصل الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مشارف الشام وعلم بنزول الطاعون فيهم وهمّ بالرجوع قال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرار من قدر الله يا أمير المؤمنين؟.
فقال رضي الله عنه: لو كان غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ونقع في قدر الله، ثم قال عمر رضي الله عنه ما معناه: لو كان عندك غنم أو إبل وأمامك أرض مجدبة وأخرى مخصبة فإذا نزلت بالمجدبة أو المخصبة أو تحولت من المجدبة إلى المخصبة، فكل ذلك بقدر الله .
ومن النوع الثاني من منازعة الأقدار بالأقدار مباشرة الاسباب الرافعة للقدر بعد وقوعه كتناول الدواء لرفع المرض، وطرد الأعداء والكفرة من ديار المسلمين بعد تسلطهم باعداد العدة لذلك ثم قتالهم، ومثاله أيضاً انحباس المطر يرفع بالالتجاء إلى الله والإنابة إليه واستغفاره، كما هو معروف في الفقه في باب صلاة الاستسقاء، وكما دل عليه قوله تعالى حكاية عن نبيه نوح عليه السلام وما قاله لقومه، قال تعالى: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا" (نوح : 10 ـ 11) . فالالتجاء إلى الله والإنابة إليه واستغفارة من أهم الأسباب لدفع المكروه ورفعه بعد وقوعه، ومنعه من الوقوع قبل أن يقع، وهذه معاني يفقهها أهل الإيمان، لا أهل الكفر والجهالة والعصيان .
تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب :
الإيمان بالقدر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book96.pdf