الجمعة

1446-10-27

|

2025-4-25

التحسين والتقبيح

الحلقة: الرابعة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رمضان 1441 ه/ مايو 2020م

هذا الموضوع له علاقة بالموضوع السابق، فالبحث فيه ناتج عن البحث في تعليل أفعال الله هل يحكم عليها بحكم العقل أولاً ؟ إن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها غير صحيح، والمذهب الصحيح في هذه المسألة أنه: ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:
1ـ أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم والظلم يشتمل على فساده، فهذا النوع هو حسن قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد الشرع بذلك، وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح ، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث الله إليهم رسولا وهذا خلاف النص، قال تعالى:"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء: 15) .
2ـ أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
3ـ أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن به العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ" (الصافات: 103) حصل المقصود ففداه بالذبح .
وكذلك حديث الابرص والأقرع والأعمى لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم، فرضي الله عنك وسخط على صاحبيك ، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، فهذه الاقسام الثلاثة هي الصواب .
وهناك نقطة مهمة وهي: إن ادراك العقل لحسن الفعل أو قبحه أكثره مجمل، فالعقل لا يحيط بالوجوه والاعتبارات للأفعال كلها ولذلك كان الشرع وإرسال الرسل لابد منه خاصة مع غلبة الهوى، ولكن هذا لا يمنع وجود قدر مشترك بين العقلاء في إدراك حسن بعض الأفعال أو قبحها ، وإذا تتبعنا نصوص الشرع لوجدنا الدلالة على أن هذا مركوز في الفطرة ومن الأدلة على ذلك:
1 ـ ما قال تعالى:"وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ" (الأعراف: 28 ـ 29) . فالفاحشة هنا هي طواف المشركين عراة بالبيت رجالاً ونساء، فبين الله أنه لا يأمر به لقبحه، ثم بين الله أنه لا يأمر إلا بما هو حسن .
2 ـ وقال الله تعالى:"قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (الأعراف: 33) ، ففي الآية علق الله التحريم ببعض الأفعال لفحشها.
3 ـ وقال الله تعالى:"وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً" (الإسراء: 32) ، فالله عز وجل علل النهي عن قرب الزنا بكونه فاحشة .
4 ـ وقال الله تعالى:"قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (الأعراف: 32)، فوصف الله بعض رزقه بأنه طيب، وأن هذا الوصف يقتضي عدم تحريمه، فدل على ثبوت وصف للفعل هو منشأ للمصلحة مانع من التحريم، وهذا هو التحسين العقلي عينه .
5 ـ لقد ضرب الله أمثلة عقلية كثيرة دالة على حسن التوحيد ومدح فاعله، وعلى قبح الشرك وذمه وذم فاعله، والأدلة فيه كثيرة، فمن ذلك قول الله تعالى:"ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (الروم: 28) .
ففي هذا المثل بيان من الله للمشركين أنهم إذا كانوا لا يرضون أن يكون مماليكهم شركاء لهم، فكيف ساغ لهم أن يجعلوا المخلوقين شركاء للخالق فالخالق أولى بالتنزيه ونفي الشريك في العبادة ، فلو كان الشرك قبيحاً لمجرد النهي عنه، لاكتفى بالنهي عنه فقط، ولم يذكر مثلاً يدل على قبحه في العقول والفطر .
ومنه قول الله تعالى:"أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ" (يس: 23 ـ 24) . فلم يحتج الله عليهم بمجرد الأمر، بل احتج عليهم بالعقل ومقتضى الفطرة، لأن من لا يملك دفع ضر عن نفسه فأولى أن لا يقدر على دفعه عن غيره، فكانت عبادته من كان نافعاً ضلالاً مبيناً .
إن مجرد معرفة حسن الأفعال وقبحها بالعقل قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يترتب عليه الثواب والعقاب، كما أننا نثبت حسن الأفعال وقبحها لذاتها ومعرفة العقل لذلك، كما أنه له مدخل في معرفة حسن بعض الأفعال وقبحها، وأما الثواب على فعل الأفعال الحسنة فإنما هو من قبل الشارع والعقاب على فعل الأفعال القبيحة، إنما هو من قبل الشارع، فلا يجب شئ على المكلف قبل ورد الشرع، والثواب والعقاب متوقف على بعثة الرسل، كما قال تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء : 15) .
وتحقيق الحق في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت في نفسه، وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة .
والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل إن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة، ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، إلا بالأمر والنهي، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون العمل القبيح موجباً للعقاب مع قبحه في نفسه، والأوثان، والكذب، والزنا، والظلم، والفواحش كلها في ذاتها، والعقاب عليها مشروط بالشرع .
فالله سبحانه وتعالى لا يعذب عباده إلا بعد إقامة الحجة عليهم ببعثة الرسل عليهم فضلاً منه تعالى ورحمة، قال تعالى: "وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ" (القصص : 59) .
وهذا من فضل الله ورحمته أن لا يعذب الناس إلا بعد إقامة الحجة عليهم ببعثة الرسل، قال الله تعالى: "رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" (النساء : 165) ، فهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الحجة إنما قامت بالرسل وأنه بعد مجيئهم لا يكون للناس على الله حجة، وهذا يدل على أنه تعالى لا يعذب الناس قبل مجئ الرسل إليهم، لأن الحجة حينئذ لم تقم عليهم، فالصواب إثبات الحسن والقبح عقلاً ونفي التعذيب على ذلك إلا بعد بعثة الرسل، فالحسن والقبح العقلي لا يستلزم التعذيب، وإنما يستلزمه مخالفة المرسلين .
ومن الآيات الدالة دلالة صريحة على معرفة العقل حسن الأفعال وقبحها وأنها في ذاتها حسنة وقبيحة قول الله تعالى: "يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ" (الأعراف : 127) وذلك لأن المعروف الذي يأمرهم به تعالى هو ما تعرفه وتقر بحسنه العقول والفطر السليمة وأن المنكر الذي ينهاهم عنه تعالى هو ما تنكره العقول والفطر السليمة وتقر بقبحه ، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى في نفس الآية: "وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ"، فهذه الآية تدل دلالة صريحة في أن الحلال كان طيباً قبل حله، وأن الخبيث كان خبيثاً قبل تحريمه .
إن الطيب إذا أحل من الشارع فقد اكتسب طيباً آخر إلى طيبه، فصار طيباً من الوجهين معاً، وكذلك القبيح إذا نهى الشارع عنه اكتسب قبحاً إلى قبحه، فصار قبيحاً من الوجهين معاً ، وذلك لأن حسن الأفعال وقبحها ثابتان لذاتها، ويكتشف ذلك بالعقل والشرع معاً .
تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب :
الإيمان بالقدر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book96.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022