صور من حياة الصحابة
عثمان بن مظعون رضي الله عنه
د. علي محمد الصلابي
إنه الصحابي أَبُو السَّائِبِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ بن حبيب بن وهب بن حذافة الجُمَحِيُّ (رضي الله عنه)، بدري من السابقين إلى الإسلام حيث أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً، أسلم قبل دخول رسول الله ﷺ على دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وحرم الخمر في الجاهلية، وقال: "لا أشرب شيئاً يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي من لا أريد". شهد بدراً وكان متعبداً، وتوفي في شعبان على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة، وقبّل النبي خده وسماه «السلف الصالح»، وهو أول المهاجرين وفاةً في المدينة، وأول من دفن في بقيع الغرقد. (صفوة لصفوة، ابن الجوزي، ج1 ص169)
ولإسلام عثمان بن مظعون (رضي الله عنه) قصة رواها عبد الله بن عباس، قال: بينما كان الرسول ﷺ جالساً بفناء بيته في مكة؛ إذ مر به عثمان بن مطعون غير آبه له أو ملتفت إليه؛ فقال له النبي ﷺ: (ألا تجلس إليّ يا أبا السائب نتحدث ساعة)؟
قال: بلى.
ثم جلس أمامه..
وبينما هو يحدث النبي ﷺ؛ رآه وقد شخص ببصره إلى السماء، وثبت نظره فيها قليلاً من الوقت ثم جعل يهبط ببصره إلى الأرض شيئاً فشيئاً حتى استقر فيها.
عند ذلك حدّق عثمان بن مظعون ببصره في وجه الرسول ﷺ طويلاً، وقال:
"يا محمد؛ لقد جالستك قبل ذلك كثيراً؛ فما رأيتك تفعل فعلك اليوم".
فقال النبي ﷺ: (وهل تنبهت إلى ذلك يا عثمان)؟!
قال: نعم لقد تنبهت إليه.
فقال النبي ﷺ:
(أتاني رسول الله جبريل وأنا جالس).
فقال عثمان: تقول رسول الله؟
فقال النبي ﷺ: (نعم).
قال وما الذي قاله لك؟!
قال ﷺ: لقد قال لي: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، قال عثمان: يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي! نعْمَ ما جاءك به، فلقد أمر بلباب الخير، ونهى عن جذور الشر كلها.
قال عثمان: فما إن سمعت ما سمعته منه؛ حتى استقر الإيمان في قلبي وصار محمد ﷺ أحب إليّ من نفسي وولدي ثم أسلمت لرب العالمين، وأسلم معي ابني السائب وأخواي: قدامة، وعبد الله. (صور من حياة الصحابة، عبد الرحمن رأفت باشا، ج2 310)
ولما اشتد أذى المشركين لرسول الله ﷺ وللصحابة. قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله ﷺ ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، لمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم : "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه". فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله ﷺ إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام. (البداية والنهاية، ابن كثير، ج3 ص66)
لم يمض على هجرة المسلمين إلى الحبشة طويلاً؛ حتى جاءتهم الأخبار الكاذبة أن جلّ قريش قد دخلوا في دين الله؛ فعاد كثير منهم إلى مكة، وكان في طليعة العائدين عثمان بن مظعون (رضي الله عنه)، وما إن وطئت أقدامهم أرض مكة حتى استقبلتهم قريش بمثل ما ودعتهم به من تعذيب وتنكيل. (صور من حياة الصحابة، عبد الرحمن رأفت باشا، ج2 ص313)
ودخل عثمان بن مظعون (رضي الله عنه) في جوار الوليد بن المغيرة.
لما رأى عثمان بن مظعون (رضي الله عنه) ما فيه أصحاب رسول الله ﷺ من البلاء، وهم في مكة وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة، قال: "والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من الأذى والبلاء ما لا يصيبني، لنقص كبير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وقت ذمتك، قد رددت إليك جوارك.
قال: لم يا ابن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي؟
قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله -عز وجل- ولا أريد أن أستجير بغيره.
قال: فانطلق إلى المسجد، (أي المسجد الحرام)، فاردد علي جواري علانية كما أجرتك علانية.
قال: فانطلقنا ثم خرجنا حتى أتينا المسجد، فقال لهم الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري. قال: قد صدق، وقد وجدته وفيّاً كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره. ثم انصرف عثمان (رضي الله عنه)، ولبيدُ بن ربيعة في مجلس من مجالس قريش يُنشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد وهو ينشدهم:
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل..
فقال عثمان: صدقت، فقال لبيد:
وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائل..
فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
فقال لبيد: يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكُم فمتى حدث فيكُم هذا؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا فلا تجِدنّ في نفسك من قوله.
فرد عليه عثمان (رضي الله عنه) حتى شري أمرهما. فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضّرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ. فقال: أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابَها لغنيّة، لقد كنت في ذمة منيعة. فقال عثمان: بلى والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله، وإني في جوار مَن هو أعزّ منك وأقدر. (صفوة لصفوة، مرجع سابق، ج1 ص170)
وبعدها هاجر عثمان بن مظعون (رضى الله عنه) إلى المدينة المنورة، وما إن دخل المدينة المنورة حتى تفجرت فيه ينابيع الطاعة والعبادة والزهد، حتى إنه كان يشق على نفسه وعلى أهله من كثرة التفرغ للعبادة. (أصحاب الرسول، مرجع سابق، ج2 ص170)
فعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: دخلت عليّ امرأة عثمان بن مظعون وهي باذّة الهيئة، فسألتها عن ذلك فقالت: "زوجي يصوم النهار ويقوم الليل". فدخل النبي فذكرتُ ذلك له. فلقي رسولَ ﷺ فقال: "يا عثمان إن الرهبانية لم تُكتب علينا، أفما لك فيّ أسوة؟ فوالله إني أخشاكم لله وأحفظكم لحدوده". (أخرجه ابن سعد، 3/287)
ومرض عثمان (رضي الله عنه) مرض الموت وفارق الحياة، فلما وصل الخبر إلى رسول الله ﷺ مضى إليه، ورفع الملاءة عن جبينه وقبّله. فعن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله ﷺ قبّل عثمان بن مظعون وهو ميت، وسالت دموعه على خده. (أخرجه البخاري برقم: 3929)
وعن عبد الله بن عباس (رضى الله عنه) قال: لما ماتت زينب بنت رسول الله ﷺ قال ﷺ: (الْحَقِي بسَلَفِنا الصالحِ الخيرِ عثمان بن مظعون) (رواه أحمد، ج1 ص237).
المراجع:
• البداية والنهاية، الإمام ابن كثير
• صفة الفوة، الإمام جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي ابن الجوزي، تحقيق: أحمد بن علي، دار الحديث - القاهرة، الطبعة الأولى ١٤٢١هـ/٢٠٠٠م.
• أصحاب الرسول، جمع: محمود المصري، مكتبة أبو بكر – القاهرة، الطبعة الثانية 1423ه – 2002ه
• صور من حياة الصحابة، عبد الرحمن رأفت، دار النفائس – بيروت، الطبعة الأولى 1412ه – 1992م.
• أصحاب الرسول، جمع وترتيب: محمود المصري، مكتبة أبو بكر الصديق، 1423هـ - 2002م، ط2.