استراتيجية أبي بكر في حرب المرتدين وحكمته في الحفاظ على نواة الدولة الوليدة
لقد ظهر معدِن أبي بكر الصِّدِّيق النَّفيس في محنة الردَّة على أجلى صورةٍ للقائد المؤمن الَّذي يفتدي قومه بنفسه، فالقائد في فهم المسلمين قدوةٌ في أعماله، فكان من آثار هذه السِّياسة الصِّدِّيقيَّة أن تقوَّى المسلمون، وتشجَّعوا لحرب عدوهم، واستجابوا لتطبيق الأوامر الصَّادرة إِليهم من القيادة.
ففي ليلةٍ واحدة أثرت المدينة بأموال زكاة ستَّة أحياءٍ من العرب، وكان كلَّما طلع على المدينة أحد جباة الزَّكاة قال الناس:(نذير)، فيقول أبو بكر:(بل بشير) وإِذا بالقادم يحمل معه صدقات قومه، فيقول النَّاس لأبي بكرٍ: طالما بشَّرتنا بالخير.
وخلال هذه البشائر الَّتي تحمل معها بعض العزاء، وشيئاً من الثَّراء عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافراً، وصنع كلَّ ما كان الرسول قد أمر به، وما أوصاه به أبو بكر الصِّدِّيق، فاستخلف أبو بكر على المدينة، وقال له ولجنده: أريحوا، وأريحوا ظهركم.
ثمَّ خرج في الذين خرجوا إِلى ذي القصَّة، والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرِّض نفسك! فإِنَّك إن تُصَبْ؛ لم يكن للنَّاس نظامٌ، ومقامك أشدُّ على العدو، فابعث رجلاً، فإِن أصيب أمّرت اخر فقال: لا والله لا أفعل! ولأواسيكم بنفسي.
لقد خرج الصِّدِّيق في تعبيته إِلى ذي حُسَى، وذي القصَّة، والنُّعمان، وعبد الله، وسُويد على ما كانوا عليه، حتَّى نزل على أهل الربدة بالأبرق، فهزم الله الحارث، وعوفاً، وأخذ الحطيئة أسيراً، فطارت عبس، وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياماً، وقد غلب بنو ذبيان على البلاد. وقال: حرامٌ على ذبيان أن يتملَّكوا هذه البلاد؛ إِذ غنمناها الله وأجلاها، فلمَّا غلبَ أهلَ الرِّدَّة، ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه، وسامح النَّاسَ، جاءت بنو ثعلبة، وهي كانت منازلهم لينزلوها، فمنعوا منها، فأتوه في المدينة فقالوا: علام نمنع من نزول بلادنا! فقال: كذبتم، ليست لكم ببلاد، ولكنَّها مَوْهبي، ونَقَذي، ولم يُعتبهم، وحمى الأبرق لخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربدة النَّاس على بني ثعلبة، ثَّم حماها كلَّها
لصدقات المسلمين لقتالٍ كان وقع بين النَّاس وأصحاب الصَّدقات، وقال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة:
ويومَاً بالأبارقِ قد شَهِدْنَا على ذبيانَ يلتهبُ التهابا
أتيناهم بداهيةٍ نَسُوف
مع الصِّديق إِذ ترك العِتابَا
وهكذا يتعلَّم المسلمون من سيرة الصِّديق بأنَّه لم يكن يرغب بنفسه عن نفوس أتباعه بأيِّ أمر من أمور الدُّنيا، وما اضطربت أمور المسلمين منذ زمنٍ إِلا لأنَّهم كانوا يعدُّون الرئاسة وسيلةً للجاه، وباباً لجلب المغانم، ودرء المغارم، وإِيثاراً للعافية، والاكتفاء بالكلمات تزجى من وراء أجهزة الإِعلام، أو من غرف العمليَّات، بعيداً عن المشاركة مشاركةً حقيقيَّةً في قضايا الأمَّة المختلفة.
إِنَّ خروج الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ للجهاد ثلاث مرَّاتٍ متتاليةٍ يعتبر تضحيةً كبيرةً، وفدائيةً عاليةً، فقد ناشده المسلمون أن يبقى في المدينة، ويبعث قائداً على الجيش، فلم يقبل، بل قال: لا والله لا أفعل! ولأواسيكم بنفسي. وهذا يدلُّ على تواضعه الجمِّ، واهتمامه الكبير بمصلحة الأمَّة، وتجرُّده من حظِّ النَّفس، وقد أصبح بذلك قدوةً صالحةً لغيره، فلا شكَّ: أنَّ خروجه للجهاد ثلاث مرَّاتٍ متتالياتٍ، وهو الشَّيخ الَّذي بلغ السِّتِّين من عمره، قد أعطى بقيَّة الصَّحابة دفعاتٍ قويةً من النَّشاط، والحيويَّة.
وقد جاء في إِحدى هذه الرِّوايات: أنَّ ضرار بن الأزور حينما أخبر أبا بكر الصِّدِّيق بخبر تجمُّع طليحة الأسدي؛ قال: فما رأيت أحداً ـ ليس رسول الله ـ أملأ بحربٍ شعواءَ من أبي بكرٍ، فجعلنا نخبره، ولكأنهما نخبر بما له، ولا عليه.
وهذا وصفٌ بليغٌ لما كان يتَّصف به أبو بكر من اليقين الرَّاسخ، والثِّقة التامَّة بوعد الله تعالى لأوليائه بالنَّصر على الأعداء، والتَّمكين في الأرض، فأبو بكر لم يَفُق الصَّحابة بكبير عملٍ، وإِنَّما فاقهم بحيازة الدَّرجات العُلى من اليقين رضي الله عنهم أجمعين.
وقد روي أنَّه لما قيل له: لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال؛ لهادها، وبالبحار لغادها، وما نراك ضعُفت. فقال: ما دخل قلبي رعبٌ بعد ليلة الغار، فإِنَّ النَّبيَّ (ص) لما رأى حزني؛ قال: لا عليك يا أبا بكر! فإِنَّ الله قد تكفَّل لهذا الأمر بالتَّمام، فكان له ـ رضي الله عنه ـ مع الشَّجاعة الطَّبيعية شجاعةٌ دينيةٌ،
وقوَّةٌ يقينيَّة في الله عزَّ وجل، وثقةٌ بأنَّ الله ينصره، والمؤمنين، وهذه الشَّجاعة لا تحصل إِلا لمن كان قوي القلب، وتزيد بزيادة الإيمان، وتنقص بنقص ذلك، فقد كان الصِّدِّيق أقوى قلباً من جميع الصَّحابة لا يقاربه في ذلك أحدٌ منهم.
وقد نجحت خطَّة الصِّدِّيق في تحقيق حملات التَّوعية، والدِّعاية، والتعضيد للمسلمين، والتخيل لقوى المرتدِّين؛ تمهيداً لاتخاذ الوسيلة الأخرى حينما تتوافر لها الإِمكانات: وهي أداة الجيوش المنظَّمة، وكذلك حقَّقت أغراضها من حيث التَّربية، وإِعداد الثَّابتين على الإِسلام؛ ليكونوا قوَّاداً في حركة الفتوح الإِسلاميَّة فيما بعد: كعديِّ بن حاتم الطَّائيِّ أحد قواد فتوح العراق، وتكوين قوى مسلمةٍ مرابطةٍ في بعض المراكز الَّتي حدَّدها لهم الصِّدِّيق؛ لتنضمَّ بعد ذلك إِلى الجيوش القادمة، والقضاء على بعض مناطق الردَّة ولو بمحدودية ضيِّقة، مثلما حصل في جنوب الجزيرة العربيَّة.
لقد اعتمدت سياسة الصِّديق في القضاء على الردَّة على الله تعالى، ثمَّ على ركائز قويَّةٍ من القبائل، والزُّعماء، والأفراد الَّذين انبثُّوا في جميع أنحاء الجزيرة العربيَّة، وثبتوا على إِسلامهم، وقاموا بأدوارٍ هامَّةٍ ورئيسيَّةٍ في القضاء على فتنة الردَّة، ولقد أخطأ بعض الكتَّاب عندما تناول فتنة الردَّة بشيءٍ من التَّعميم، أو عدم الدِّقة، أو عدم الموضوعيَّة، أو سوء الفرض، أو النَّظرة الجزئيَّة.
مراجع البحث:
1. د. علي محمّد محمَّد الصَّلاَّبي، الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، دمشق، ص (186 : 188).
2. الطَّبري تاريخ الأمم والملوك، دار الفكر بيروت، الطَّبعة الأولى 1407هـ 1987م، 4/37 – 67.
3. د. علي العتوم، حركة الردَّة، مكتبة الرسالة الحديثة، عمَّان، الطَّبعة الثَّانية، 1997م ، ص 319 -321.
4. عبد الرحمن الشَّرقاوي، الصِّدِّيق أول الخلفاء، دار الكتاب العربي، الطَّبعة الأولى 1410ه، 1990م ، ص57.
5. د. عبد العزيز عبد الله الحميدي، التَّاريخ الإِسلاميُّ مواقف وعبر، دار الدَّعوة، الإِسكندريَّة، دار الأندلس الخضراء، جدَّة، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1998م ، 9/48.
6. محمَّد بن عبد الرحمن بن محمَّد بن قاسم، أبو بكرٍ الصِّدِّيق أفضل الصَّحابة وأحقُّهم بالخلافة، دار القاسم الطَّبعة الأولى 1417هـ 1996م ، ص69 – 70.
7. د. مهد رزق الله أحمد، الثَّابتون على الإِسلام أيَّام فتنة الردَّة في عهد الخليفة أبي بكرٍ الصِّدِّيق، دار طيبة، الطَّبعة الأولى 1417هـ 1996م. ص4.
المصدر : صوت العراق