تعيين الولاة في عهد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)5
الحلقة السابعة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م
ثالثاً: الصلاحيات الممنوحة للولاة في عهد علي رضي الله عنه:
امتنع أمير المؤمنين علي عن تسليم جميع السلطات بيد شخص واحد ، فكان مبدؤه توزيع السلطات وتحديد الصلاحيات ، فقد نصب ابن عباس والياً على البصرة ، ونصب زياد على الخراج وبيت المال ، ولم يكتفِ بهذا بل أمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع، وهذا قمة الضبط الإداري؛ فزياد يطيع ابن عباس في إطار ولايته على البصرة ، وابن عباس يطيع زياد في إطار عمله في بيت المال والخراج ، أما لشؤون القضاء فقد نصب أبا الأسود الدؤلي.
ومن خلال عهد أمير المؤمنين علي الذي كتبه لمالك بن الأشتر يمكن أن نلاحظ الصلاحيات الممنوحة للولاة ونحاول أن نجعل الصورة أكثر وضوحاً مع التفصيل:
1- تعيين الوزراء:
يقول أمير المؤمنين في عهده لمالك بن الأشتر: إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ، ومن شركهم في الآثام؛ فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأئمة ، وإخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ، ويبين عليه مثل اصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ، ولا اثماً على إثمه ، أولئك أخف عليك مؤونة ، وأحسن لك معونة ، وأحنى عليك عطفاً ، وأقل لغيرك إلفاً.
ففي هذا النص الذي أورده أمير المؤمنين علي بصورة نصائح أورد فيه النقاط والحقائق الاتية:
أ- تعيين الوزراء من صلاحيات الوالي.
ب- الشروط التي يجب أن يختار الوالي وزراءه بموجبها.
ج- طريقة التعامل والعلاقة المتبادلة بين الوالي والوزير.
د- وظيفة الوزير.
أما عدد الوزراء فلم يذكره أمير المؤمنين علي ، بل اكتفى بلفظ الجمع ، ويظهر أن عددهم يرتبط بمقدار حاجة الوالي إلى المعاونين؛ لأن عمل الوزير هو مساعدة الوالي في وظائفه ، وهناك شروط حددها أمير المؤمنين علي: أن لا يكون وزيراً سابقاً للولاة الأشرار. وينتخب الوالي من مجموع وزرائه وزيراً واحداً يكون نائبه ومساعده في تمشية الأمور ، ويجب أن يختاره من بين وزرائه على أساس قول أمير المؤمنين: ثم ليكن أثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعاً ذلك من هواك حيث وقع، وأما وظائفهم فهي تدخل في دائرة (المساعدة) ، وأما تحديد تفاصيل هذه الدائرة فيوكل إلى الوالي الذي يقرر وظائف وزرائه حسب الحاجة إليهم ، ويكون ارتباط الوزراء بالوالي بصورة مباشرة.
2- تشكيل مجالس الشورى:
وذلك بالاستعانة بالعلماء والحكماء؛ وهم أهل الحل والعقد ، وأهل الخبرة ، فقد ورد في حقهم هذا النص: وأكثر مدارسة العلماء ، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.
وفي هذا النص التأكيد على جمع العلماء والحكماء في مجالس استشارية منتظمة ويمكن أن يجري تعيينهم من قبل الوالي أو يتم انتخابهم من قبل الناس ، فليس هناك تحديد من أمير المؤمنين عن طبيعة تشكيل هذه المجالس ، بل اكتفى أمير المؤمنين بالمطالبة من واليه ، وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء ، أما كيف تم جمعهم؟ هل اجتمعوا بأمر من الوالي أو يتم انتخابهم من قبل الناس؟ فهذا أمر لم يبتّ فيه أمير المؤمنين علي ، بل تركه متعلقاً حسب الظروف التي تتحكم في طريقة تعيينهم؛ إما باختيار الوالي أو انتخاب الناس.
وأما وظيفة هذا المجلس فهو الدراسة والبحث لتحديد السياسات العامة بخصوص الأمرين:
أ- تثبيت ما صلح عليه البلاد.
ب- إقامة ما استقام عليه الناس من قبل الوالي.
وهذا يعني وضع الخطوط العريضة لكل ما يتعلق بإصلاح أوضاع البلاد والعباد ، سواء كان ذلك في مصرف بيت المال ، أو تعيين الإداريين ، أو تقديم الخدمات للأصناف من تجّار وصنّاع ومزارعين ، وهذا المجلس أشبه ما يكون بالمجالس المحلية التي تقام في الدول التي يقوم نظامها على اللامركزية.
وفي نص اخر يذكر أمير المؤمنين صفات هؤلاء المستشارين والمعاونين: ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة ، فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف.
وذكر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أهمية الاهتمام بهم وتفقد أحوالهم وأمورهم؛ فقال: ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما ، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم، وإن قل فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك ، ولا تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمه ، فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به ، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه.
3- إنشاء الجيش وتجهيزه:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لمالك بن الأشتر النخعي: وليكن اثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته ، وأفضل عليهم من جِدَتِه بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم ، حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو ، فإن عطفك عليهم، يعطف قلوبهم عليك.
والذي يظهر من هذا النص:
أ- لابد من وجود قوة عسكرية تدافع عن الولاية.
ب- تشكيل هذه القوة وإعدادها من مسؤولية الوالي ، ويجري الإنفاق عليها من بيت مال الولاية.
ج- تعيين رؤساء الجند من مسؤولية الوالي، وهناك شروط على الوالي العمل بموجبها عند اختيار رؤساء الجند ، فلا بد من رعايتهم والاهتمام بهم حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.
4- ترسيم السياسة الخارجية في مجال الحرب والسلم:
يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لواليه مالك بن الأشتر: ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا؛ فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك ، وأمناً لبلادك ، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه؛ فإن العدو ربما قارب ليتغفَّل، فخذ بالحزم ، واتهم في ذلك حسن الظن ، وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة ، أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء ، وارعَ ذمتك بالأمانة ، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمتك، ولا تخيسنّ بعهدك ، ولا تختلنّ عدوك ، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي ، وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة، ولا خداع فيه ، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل ، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة ، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق ، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته؛ خير من غدر تخاف تبعته ، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة، فلا تستقبل فيها دنياك ولا اخرتك.
واستناداً لهذا النص يقوم الوالي بـــ:
1- عقد معاهدة الصلح مع الدول والأمم المجاورة.
2- أخذ الاستعداد للحرب ، وأخذ الحيطة عند الضرورة ، وبين هذين الأمرين تجري مفردات كثيرة من تبادل الرسائل، وتبادل الوفود ، وتبادل الزيارات وعقد الحوارات.
3- الوفاء بالعهد عند المسلمين قاعدة أصولية من قواعد الدين الإسلامي التي يجب على كل مسلم أن يلتزم بها، كما أن الوفاء بالعهود والمواثيق لم يكن عند أمير المؤمنين علي مجرد نظرية مكتوبة على الورق ، ولكنه كان سلوكاً عملياً في حياته بالوفاء بالعهود ، وحذر من نقض الإيمان بعد توكيدها في كثير من الآيات القرآنية؛ قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91] ، وقال جل وعلا: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 34].
5- الحفاظ على الأمن الداخلي:
وذلك بانتهاج السياسات السلمية ، كتب أمير المؤمنين إلى بعض عماله: أما بعد، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقاراً وجفوة ، فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة ، وداول لهم بين القسوة والرأفة ، وامزج لهم بين التقريب والإدناء ، والإبعاد والإقصاء.
وتأتي هذه السياسية للحفاظ على الأمن الداخلي ، فإذا حدث ما يعكر هذه المهمة فإن مهمة الوالي هي محاولة حل المشكل بطرق سلمية ، بعيدة عن استخدام القوة، رافضاً سياسة الاستقواء على الشعب. وفي رسالته إلى مالك بن الأشتر: فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام ، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه ، بل يزيله وينقله.
6- تشكيل الجهاز القضائي في الولاية:
يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تفيق به الأمور ، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة ، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، واخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشف الأمور ، وأصرمهم عند انفتاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء.. وافسح له في البذل ما يزيل علته ، وتقلّ معه حاجته إلى الناس ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك ، فانظر في ذلك نظراً بليغاً.
من هذا النص يظهر لنا:
أ- من مسؤولية الوالي تعيين القضاة.
ب- على الوالي الالتزام بشروط صارمة في اختيار القاضي.
ج- على الوالي رعاية القضاة رعاية كاملة حتى لا يشعروا بالحاجة إلى الاخرين.
7- النفقات المالية:
المصدر لتمويل النفقات في الولاية: أموال الزكاة ، والصدقات ، والغنائم ، والفيء ، والخراج ، والعشور ، وتوضع في بيت المال؛ وهو المحل الذي يجتمع فيه مال المسلمين ، وهناك عامل في بيت المال يسجل كل ما يصله من أموال وكل ما يخرج من بيت المال ، ولبيت المال وظيفة مهمة في الإدارة اللامركزية، فما يجتمع من الأموال يتم أولاً إنفاقه على شؤون الولاية من موظفين وعمال وقضاة ، ومحتاجين ، وإعمار... إلخ ، وما تبقى يتم إرساله إلى عاصمة الخلافة.
ويعتبر بيت المال قلب الولاية الذي يوزع الدم في شرايين الأجهزة العاملة، قال أمير المؤمنين علي: وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله؛ فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة.
وجزء من هذه الأموال مصدره الخراج - كما ذكرنا - وهو ما وضع لأخذه على الأرض المزروعة ، وهو المصدر الأول لتغطية رواتب موظفي الولاية ، وما زاد على ذلك يوزع على الفقراء والمساكين ، يقول أمير المؤمنين علي: الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. والمقصود بالناس: عامة الموظفين والمجاهدين الذين قال عنهم أمير المؤمنين رضي الله عنه: لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله من الخراج.
وقد أرشد أمير المؤمنين علي إلى استثمار الأرض؛ أي عمارة الأرض ، فقد قال: وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ، ومن طلب الخراج لغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد.
فعمارة الأرض سيضيف موارد مالية جديدة يمكن الاستفادة منها في مجال الرواتب والنفقات المتنوعة ، وتتم هذه النفقات باستقلالية عن الأجهزة المركزية التي لها حصة من هذه الموارد بعد أن يتم استخراج المقادير الضرورية للولاية، وبعث البقية إلى العاصمة ، يقول أمير المؤمنين: وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا.
كما أن من الإنفاقات المهمة في الولاية: إعمار الأنهار ، فقد كتب أمير المؤمنين علي لقرظة بن كعب الأنصاري: أما بعد ، فإن رجالاً من أهل الذمة من عملك ذكروا نهراً في أرضهم قد عفا وأدفن ، وفيه لهم عمارة على المسلمين ، فانظر أنت وهم ثم أعمر وأصلح النهر ، فلعمري لأن يعمروا أحب إلينا من أن يخرجوا، وأن يعجزوا ويقصروا في واجب من صلاح البلاد. والسلام.
8- العمال التابعين للولاية ومتابعتهم:
قال أمير المؤمنين علي: ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولِّهم محاباة وأثرة ، فإنها جماع شعب الجور والخيانة ، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء ، أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً، وأقلَّ في المطامع إشرافاً ، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً ، ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون، من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعيّة ، وتحفَّظ من الأعوان ، فإن أحداً منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهداً ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه ، وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة.
وهنا يتحدث عن الموظفين التابعين للولاية ، والمحافظين على المدن والقرى ، وجباة الصدقات ، وعلى عاتقهم مسؤولية كبيرة؛ لأن عملهم متصل بالناس بصورة مباشرة ، ويتجلى في هذا النص أهمية هؤلاء في الجهاز الإداري؛ لأنهم يمثلون السلطة التنفيذية الحقيقية ، فكان لا بد من إشباع حاجاتهم حتى لا يطمعوا في مال غيرهم ، ولا حقوقهم، ويشير أمير المؤمنين علي إلى أهمية العيون الذين يقومون بأعمال الرقابة على الإدارات والوحدات وبيت المال ، ويتم تعيينهم من قبل الوالي ، ويكون ارتباطهم معه. وهناك شروط يجب أن تتوافر فيهم:
أ- أن يكونوا من أهل الصدق حتى تكون تقاريرهم واقعية صادقة.
ب- أن يكونوا من أهل الوفاء حتى يكون هدفهم هو الإخلاص للدولة.
وبعد تقديم التقارير على الوالي أن يتثبت بدقة في هذه التقارير ، ولا يسرع في الحكم على الأفراد ، ومن أعمال هذا الجهاز: فرض الرقابة على التجار وذوي الصناعات؛ لمنعهم من الاحتكار وإيقاع الضرر بالناس ، وما قاله أمير المؤمنين في رسالته للأشتر في هذه الفقرة يشير إلى أن دولة الخلافة الراشدة تهتم بدوام المباشرة لأحوال الرعية ، وتفقد أمورها ، والتماس الإحاطة بجانب الخلل في أفرادها وجماعاتها.
وهذا مبدأ قراني بينه المولى عز وجل على لسان سليمان عليه السلام: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأَعِذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 20 - 21] ، وتفقد الطير ، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الخلافة ، والاهتمام بكل جزء فيها ، والرعاية لكل واحد فيها وخاصة الضعفاء ، ولاشك أن القيادة تحتاج إلى لجان ومؤسسات وأجهزة حتى تستطيع أن تقوم لهذه المهمة العظيمة ، إن سليمان عليه السلام كان مهتماً بمتابعة الجند وأصحاب الأعمال ، وخاصة إذا راب شيء من أحوالهم ، فسليمان عليه السلام ، لما لم يَرَ الهدهد بادر بالسؤال: ﴿ مَالِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾ يعني: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، ثم قال: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ سؤال آخر ينم عن حزم في السؤال بعد الترفق ، فسليمان عليه السلام أراد أن يفهم منه أن يسأل عن الغائب لا عن شفقة فقط ، ولكن عن جد وشدة ، إذا لم يكن الغياب بعذر، فعهد الخلافة الراشدة تطبيق عملي لمفاهيم القران الكريم.
إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أشار إلى أهمية الأجهزة الأمنية للدولة المسلمة ، التي تحرص أشد الحرص على الاهتمام بالأخبار والمعلومات حتى توظف لخدمة الدين، ونشر المبادئ السامية، والأهداف النبيلة، والمثل العليا ، وتقضي على بذور الفساد في الأجهزة المتعددة التي يقوم عليها نظام الولايات.
9- أصناف طبقات المجتمع:
قال أمير المؤمنين: واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض ، فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامة والخاصة ، ومنها قضاة العدل ، ومنها عمال الإنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلاً قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه ﷺ ، عهداً منه عندنا محفوظاً...
إلى أن قال: ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم ويكفونه من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم.
ثم أوصى بالتجار وأصحاب الصناعة خيراً فقال: ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات، وأوصي بهم خيراً: المقيم منهم، والمضطرب بماله، المترفق ببدنه؛ فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلاَّبها من المباعد والمطارح في برك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك ، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً ، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع ، وتحكماً في البياعات ، وذلك باب مضرة للعامة ، وعيب على الولاية ، فامنع من الاحتكار فإن رسول الله ﷺ منع منه ، وليكن البيع بيعاً سمحاً ، بموازين عدل ، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه، فنكل به ، وعاقب في غير إسراف.
ونلاحظ من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: أن طبقة التجار من أهم شرائح المجتمع ، ولذلك أرشد الولاة إلى الاهتمام بهم من خلال وجود دائرة تتولى رعاية هذهِ الطبقة والإشراف على أعمالها؛ حتى لا تظهر عليها المظاهر السلبية كالشح والاحتكار وما شابه ذلك.
وذوي الصناعات يلمّ بهم ما يلم بالتجار من أضرار ومشاكل ، فكان لابد من قيام جهاز لرعايتهم ومساعدتهم في إتمام أعمالهم.
ومن هذه الطبقات أهل الخراج؛ وهم العاملون على الأرض من زرّاع وحرّاث وحافرين لابار ، وهم يحتاجون إلى الاهتمام، وتشكيل لجان تكون موكلة بأهل الخراج لحل المشكلات التي تعترضهم؛ لأن هذا الطريق هو السبيل إلى التنمية واستثمار الأرض.
ومن هذه الأصناف أهل الذمة الذين يعيشون في الدولة الإسلامية ، ويعملون فيها، فلا بد من رعاية الدولة لهم وتفقد شؤونهم ، من خلال جهاز يتولى شؤونهم الاقتصادية منها والاجتماعية.
ومنها الطبقة السفلى من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمن ، فإن في هذه الطبقة القانع، والمعتر، وتشمل هذه الطبقة أهل اليتم ، وذوي الرقة في السِّنِّ ممن لا حيلة له ، ولا ينصب للمسألة نفسه ، فالدولة مسؤولة عن رعاية هؤلاء رعايةً كاملة اجتماعية واقتصادية وتعليمية ، وكان على الوالي أن يحدد وقتاً للقاء بهم ليزيل عنهم مشاعر الحرمان ، ويتفقد أمورهم بنفسه وبصورة مباشرة ، وعليه أن يوفر الأجواء التي يستطيع بواسطتها هؤلاء المحرومين من التكلم أمام الوالي.
10- التربية بالعقاب والثواب:
قال أمير المؤمنين علي: ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة وألزِم كلاًّ منهم ما ألزم نفسه، واعلم أنه ليس بشيء أدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم ، وتخفيفه المؤونات عنهم ، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك ، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإنّ أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده.
وهذه التربية بالعقاب والثواب تحدث عنها القران الكريم ، وتتضح معالمها جلية في قصة ذي القرنين في قوله تعالى: ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ [الكهف: 87 - 88].
إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعة هدية للمحسن ليزداد في إحسانه ، وتفجر طاقة الخير العاملة لديه على زيادة الإحسان ، وتشعره بالاحترام والتقدير ، وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده ، حتى يترك الإساءة وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع ، وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حدود وفق قانون الثواب والعقاب ، وهذا ما أرشد إليه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
11- دور العرفاء والنقباء في تثبيت نظام الولايات:
عرف المسلمون النقباء في بيعة العقبة الثانية؛ حينما عين الرسول ﷺ اثني عشر نقيباً من الأنصار على قومهم؛ ثلاثة من الأوس ، وتسعة من الخزرج، واستمر تنظيم النقباء والعرفاء في الأجناد الإسلامية المختلفة في عهد عمر ، ومما ورد في ذلك تنظيم الناس في القادسية على يد سعد بن أبي وقاص؛ حيث اجتمعت القبائل فأمر أمراء الأجناد ، وعرف العرفاء؛ فعرف على كل عشرة رجلاً ، كما كانت العرافات أزمان النبي ﷺ ، وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء ، وأمر على الرايات رجالات من أهل السابقة ، وعشر الناس وأمر على الأعشار رجالاً من الناس لهم وسائل في الإسلام.
ويعتبر عمر أول من نظم تقسيم الناس في الأمصار عموماً ، ففي زمانه برز العرفاء على الناس في أمصارهم ، وأصبحوا مسؤولين أمام الوالي عن قبائلهم والمجموعات المنضمَّة إليهم حسب التقسيم المتبع ذلك الوقت، وقد استمر نظام العرفاء طيلة عصر عثمان رضي الله عنه ، وخلال عهد علي رضي الله عنه ، فكان يجمع النقباء ويعطيهم الأموال بحصصهم فيقسمونها على من يتبعهم من الناس، وقد استفاد الولاة من العرفاء في إدارة الولايات في الشؤون المختلفة المدنية منها والعسكرية ، فكانوا يساعدون في توزيع العطاء على الناس ، وفي السيطرة على النظام داخل الولايات ، وفي البحث عن المطلوبين للقضاء وغيره ، وفي سرعة تجنيد الناس حين الحاجة ، وفي أخذ المشورة من الناس ، كما كان للنقباء دور في معرفة من يضاف اسمه إلى العطاء ، ومن يحذف اسمه ، وغير ذلك من الأمور المختلفة ، وهكذا كان العرفاء من أهم الموظفين للولاة في إدارة أمصارهم؛ مع أن هؤلاء في الغالب لم يكونوا متفرِّغين لهذا العمل وحده ، بل كانوا مجرد مساعدين وقت الحاجة.
وكان في تقسيم العرفاء والنقباء في كثير من الأحيان شيء من التنظيم القبلي ، حيث كان التقسيم أحياناً باعتبار القبيلة، إلى أن كثر الداخلون في الإسلام من الأعاجم وبدؤوا يستوطنون الأمصار ، فبدأ هذا التقسيم يقلُّ تدريجياً مع احتفاظه بقوته في معظم الأوقات خلال عهد الخلفاء الراشدين.
وقد كان يتبع الولاة على البلدان بعض كبار القواد الذين يتولون قيادة أقسام معينة في الجيش ، ويقومون بالفتوح المختلفة بتوجيه من أمراء الولايات ، كما كانوا يصحبون الوالي - وهو أمير الحرب - في غزواته المختلفة ، ويساعدونه في تنظيم الجيش وقيادته.
وقد كان أمراء التعبئة يلون الأمير ، والذين يلون أمراء التعبئة أمراء الأعشار، والذين يلون أمراء الأعشار أصحاب الرايات ، والذين يلون أصحاب الرايات والقواد رؤوس القبائل. كما أن العرفاء يرفعون ما يراه قومهم من اقتراحات أو تظلمات جماعية يوصلونها نيابة عنهم ، ويتحدثون باسمهم ويدافعون عن حقوقهم أمام الوالي وغيره.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf