الأحد

1446-07-05

|

2025-1-5

معركتا الجمل وصفين وقضية التحكيم

الحلقة التاسعة والأربعون

بقلم الدكتور علي محمد محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م

قال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 9 - 10].
عن أنس بن مالك، قال: قيل للنبي ﷺ: لو أتيت عبد الله بن أُبَيّ؟ قال: فانطلق إليه، وركب حماراً، وانطلق المسلمون، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي ﷺ قال: إليك عني، فو الله لقد آذاني نتنُ حمارك. قال: فقال رجل من الأنصار: والله، لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك. قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه. قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه. قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنعال. قال: فبلغنا أنها نزلت فيهم: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9].
وعن الحسن، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله تعالى: فإن ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ سبحانه أمر النبي ﷺ والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله، حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، فحقّ على إمام المؤمنين: أن يجاهدهم ويقاتلهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويقروا بحكم الله.
وفي قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ أي: إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فيجب على ولاة الأمور الإصلاح بالنصح، والدعوة إلى حكم الله، والإرشاد، وإزالة الشبه وأسباب الخلاف، والتعبير بـ(إن) للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع فهو نادر قليل، والخطاب في الآية لولاة الأمور، والأمر فيها للوجوب.
وقد استدل البخاري وغيره بهذا على أن المعصية وإن عظمت لا تُخرج من الإيمان، خلافاً للخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر وهو في النار.
وثبت في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله ﷺ خطب يوماً، ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيّد، ولعل الله تعالى أن يُصْلِح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».
فكان كما قال ﷺ؛ أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب التي وقعت بينهما.
وفي قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 9] أي: فإن اعتدت وتجاوزت الحدَّ إحدى الفئتين على الأخرى، ولم تُذْعِن لحكم الله وللنصيحة، فعلى المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى حكم الله وما أمر به من عدم البغي، والقتال يكون بالسلاح وبغيره، ويفعل الوسيط ما يحقق المصلحة، وهي الفيئة، فإن تحقق المطلوب بما دون السلاح كان ذلك، وإن تعين السلاح وسيلة فعل حتى الفيئة. وفي قوله تعالى: أي: رجعت الفئة الباغية في ﴿ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾، بعد القتال، ورضيت بأمر الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحرَّوا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى، واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما، إن الله يحب العادلين ويجازيهم أحسن الجزاء، وهذا أمر بالعدل في كل الأمور.
قال ﷺ: «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور، على يمين العرش؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما وُلُّوا».
ثم أمر الله تعالى بالإصلاح في غير حال القتال ولو في أدنى اختلاف، فقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10]؛ فهذه الآية أصل من الأصول التي تُنَظِّم علاقة المسلم بأخيه المسلم. إن الله تعالى لم ينفِ صفة الإيمان عن إحدى الطائفتين أو كليهما مع وقوع القتال بينهما، وإن أولى الناس بالدخول تحت معنى هذه الآية هم سادات المؤمنين؛ الصحابة الكرام، سواء ما وقع في معركة الجمل أو صفين.
وقد قام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بتطبيق هذه الآية؛ من حرص على الإصلاح، وقد استجاب طلحة والزبير لذلك، إلا أن أتباع عبد الله بن سبأ أنشبوا الحرب بين الطرفين، وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله، وحرص أمير المؤمنين على الإصلاح مع أهل الشام، وبذل ما في وسعه من طرق سلمية، وجرّد سيفه بعد فشل كل المحاولات الإصلاحية لكي يفيء معاوية رضي الله عنه إلى السمع والطاعة ووحدة الخلافة الإسلامية، إلا أن معاوية اشترط تسليم قتلة عثمان رضي الله عنه، فاجتهد وأخطأ، وكان الحق مع أمير المؤمنين علي ووقع القتال.
وقال تعالى: فأثبت الإخوة الإيمانية لجميع المتقاتلين من ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾، ومن باب أولى ما وقع بين علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم في الجمل، وما وقع مع معاوية في صفين، ومن هنا يظهر لنا أن المتقاتلين في الجمل وصفين مؤمنين. ولا مجال للطعن في الصحابة بسبب هذه الحوادث التاريخية، أو محاولة نزع الإيمان عنهم، أو نشر العبارات المنحرفة في حقهم، ويكفي في الرد على تلك المقولات الباطلة أن هذه الآيات أثبتت لهم إخوة الإيمان، ويأتي بيان ما وقع بينهم بإذن الله تعالى بالتفصيل.
فقد ذكر تعالى أن المؤمنين إخوة في الدين، ويجمعهم أصل واحد وهو الإيمان، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين. وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين أمر الله تعالى بالتقوى، والمعنى: فأصلحوا بينهما، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح وفي كل أموركم تقوى الله، وخشيته والخوف منه، بأن تلتزموا الحق والعدل، ولا تحيفوا ولا تميلوا لأحد الأخَوَين، فإنهم إخوانكم، والإسلام سوّى بين الجميع، فلا تفاضل بينهم ولا فوارق، ولعلكم ترحمون بسبب التقوى؛ وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي.
وقد جعلت الآية الكريمة: الإصلاح بين الإخوة وتقوى الله سبب نزول رحمة الله، تعظيماً لأمر الإصلاح بين المسلمين.
ويلاحظ أنه قال: اتقوا الله عند تخاصم رجلين، ولم يقل ذلك عند إصلاح الطائفتين، لأنه في حالة تخاصم الرجلين يخشى اتساع الخصومة، وأما في حال تخاصم الطائفتين فإن أثر الفتنة أو المفسدة عام شامل الكلَّ. وكلمة (إنما) للحصر تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا أخوة بين المؤمن والكافر، لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه، وتفيد أيضاً أن أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الإخوة في الإسلام، لا بين الكفار، فإن كان الكافر ذمياً أو مستأمناً وجبت إعانته وحمايته ورفع الظلم عنه، كما تجب إعانة المسلم ونصرته مطلقاً إن كان خصمه حربياً.
وقد قال ابن العربي. هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإياها عنى النبي ﷺ بقوله: تقتل عماراً الفئة الباغية». أي: عمار بن ياسر.
الأمر بقتال البغاة فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذا الأمر، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، اعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منهم أمير المؤمنين علي، وهناك كثير من الأحكام سوف نراها من خلال سرد الوقائع التي حدثت بين الصحابة ـ بإذن الله تعالى.
ويعتبر نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، نظام له السبق من حيث الزمن على محاولات البشرية في هذا الطريق، وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة، وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق، لأن الاحتكام فيه إلى الأمر الذي لا يشوبه غرض ولا هوى ولا يتعلق به نقص أو قصور. ولم تنته محاولات الإصلاح منذ اندلاع القتال حتى توّج بالصلح العظيم الذي خطط له أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنه.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022