الأحد

1446-07-05

|

2025-1-5

الأحداث التي سبقت معركة الجمل 2

الحلقة الواحدة والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م

ثانياً: اختلاف الصحابة في الطريقة التي يأخذها القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه:
إن الخلاف الذي نشأ بين أمير المؤمنين علي من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى، ثم بعد ذلك بين علي ومعاوية؛ لم يكن سببه ومنشؤه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين علي وإمامته وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين، فقد كان هذا محلّ إجماع بينهم.
قال ابن حزم: ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ واستحقاقه الخلافة، ولكنّ اجتهاده أدّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان.
وقال ابن تيمية: ومعاوية لم يدَّع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقرّ بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال، ولا فعلوا...
وقال أيضاً:... وكلّ فرقة من المتشيعين مقرّة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفئاً لعلي بالخلافة، ولا يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي، فإنّ فضل عليّ وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معلومة كفضل إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
إن منشأ الخلاف لم يكن قدحاً في خلافة أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، وإنما اختلافهم في قضية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم يكن خلافهم في أصل المسألة، وإنما كان في الطريقة التي تعالج بها هذه القضية، إذ كان أمير المؤمنين علي موافقاً من حيث المبدأ على وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان رأيه أن يرجئ الاقتصاص من هؤلاء إلى حين استقرار الأوضاع وهدوء الأمور واجتماع الكلمة.

قال النووي: واعلم أن سبب تلك الحروب: أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم، وصاروا ثلاثة أقسام:
قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغٍ، فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه، ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
وقسم عكس هؤلاء: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدتهم وقتال الباغي عليه.
وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم؛ لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه.
ثالثاً: موقف المطالبين بدم عثمان كطلحة والزبير وعائشة ومعاوية ومن كان على رأيهم:
1- السيدة عائشة أم المؤمنين:
لما سمعت السيدة عائشة رضي الله عنها بموت عثمان في طريق عودتها من مكة إلى المدينة رجعت إلى مكة ودخلت المسجد الحرام، وقصدت الحجر فتستَّرت فيه، واجتمع الناس إليها، فقالت:
أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار، وأهل المياه، وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الإِرب، واستعمال من حدثت سنُّه، وقد استعمل أسنانهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها، فتابعهم، ونزع لهم عنها استصلاحاً لهم، فلما لم يجدوا حجة ولا غدراً خلجوا، وبادروا بالعدوان، نبا فعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام، والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، فنجاة من اجتماعكم عليه حتى يَنْكل بهم غيرهم، ويشرَّد من بعدهم. والله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنباً؛ نخلُص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء.
وجاء في رواية: أن عائشة حين انصرفت راجعة إلى مكة، أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي ـ أمير مكة ـ فقال لها: ما ردّك يا أم المؤمنين؟ قالت: ردَّني أن عثمان قُتل مظلوماً، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا بدم عثمان تعزّوا الإسلام.
وقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة ثناء السيدة عائشة على عثمان، ولعنها لمن قتله، وروت في حقه أحاديث عن رسول الله ﷺ في فضائله؛ فعن فاطمة بنت عبد الرحمن اليشكرية، عن أمها: أنها سألت عائشة، عندما أرسلها عمّها فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان، فإن الناس قد أكثروا فيه، فقالت: لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعداً عند نبي الله، وإن رسول الله ﷺ مسند ظهره إليَّ، وإن جبريل عليه السلام ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول: «أُكتب عثمان»، فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريماً على الله ورسوله.
وعن مسروق، عن عائشة قالت: حين قُتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قربتموه تذبحونه كما يذبح الكبش، فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج إليه، قالت عائشة: لا والذي آمن به المؤمنون، وكفر به الكافرون؛ ما كتبت إليه بسوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
وقد مر معنا كذب السبئيين في كتابين عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأنهم كتبوا رسائل لأهل الأمصار ونسبوها كذباً وزوراً للسيدة عائشة، وقد جاءت رواية موضوعة، وضعيفة، أسانيدها واهية من رواية الكذابين، وللأسف اتبعها بعض المعاصرين، وراجت عليهم هذه الأكاذيب، وصورت العلاقة بين عائشة وعثمان رضي الله عنهما على صورة مناقضة تماماً للروايات الصحيحة السالفة الذكر، وزعمت تلك الروايات الكاذبة بأن السيدة عائشة رضي الله عنها ألَّبت على عثمان رضي الله عنه وقالت بوجود خلاف بينهما، ونسبت إليها الاشتراك شبه الفعلي في قتله، ونقل ذلك الطبري، ونقل عن الطبري الكثير من المؤرخين، وإليك مثال على ذلك:
ما ذكره الطبري، قال: كتب إليَّ عليّ بن أحمد بن الحسن العجلي: أن الحسين بن نصر العطار، قال: حدثنا سيف بن عمر، عن محمد بن نويرة، وطلحة بن الأعلم الحنفي قال: وحدثنا عمر بن سعد، عن أسد بن عبد الله، عمن أدرك من أهل العلم: أن عائشة رضي الله عنها لما انتهت إلى سرف راجعة إلى مكة، لقيها عبد بن أم كلاب ـ وهو عبد بن أبي سلمة، ينسب لأمه ـ فقالت له: مهيم، قال: قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فمكثوا ثمانياً، قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالاجتماع، فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز، اجتمعوا على علي بن أبي طالب. فقالت: ردُّوني، ردوني، والله ليت أن هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك.
فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه، فقال لها ابن أم كلاب: ولم؟! فوالله، إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت، وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول، فقال لها ابن أم كلاب:
فمنك البَدَاء ومنكِ الغِيَر ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام وقلت لنا: إنه قد كفر
فانصرفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد فقصدت الحجر، فتستَّرتْ واجتمع إليها الناس، فقالت: إن عثمان قُتل مظلوماً، ووالله لأطلبن بدمه.
رويت هذه الرواية كما رأينا من طريقين عند الطبري: ويكفي أن في رجال الإسناد نصر بن مزاحم العطار المجروح في كتب الرجال بالصفات الآتية: شيعي، منكر، تركوه، جلد. وأما الطريق الثاني ففي إسناده عمر بن سعد وهو قائد السرية الذين قاتلوا الحسين رضي الله عنه، وهو عند رجال الحديث لا يصح حديثه، متهم بالوضع، متروك؛ فالرواية غير مقبولة الإسناد في أي من طريقي روايتها.
وقد جاءت روايات في كتب التاريخ والأدب ضعيفة وموضوعة لا تثبت أمام النقد العلمي، سارت على النهج المظلم في تشويه السيدة عائشة رضي الله عنها.
إن الروايات التي جاءت في (العقد الفريد)، وفي كتاب (الأغاني)، و(تاريخ اليعقوبي)، و(تاريخ المسعودي)، و(أنساب الأشراف)، وغيرها من الكتب، وما انتهت إليه من استدلالات في شأن الدور السياسي للسيدة عائشة رضي الله عنها في حياة عثمان بن عفان رضي الله عنه، لا يعتدُّ بها لمخالفتها للروايات الصحيحة وقيامها على روايات واهية، فأغلبها روايات غير مسندة، والمسند مجروح الإسناد لا يحتجّ بروايته، هذا إضافة إلى فساد متونها إذا ما قورنت بالروايات الأخرى الأكثر صحة وقرباً للحقيقة.
وقد قامت السيدة الفاضلة والباحثة القديرة أسماء محمد أحمد زيادة بدراسة الأسانيد والمتون للروايات التي تحدثت عن الدور السياسي للسيدة عائشة في أحداث الفتنة، ونقدت الروايات القائلة بالخلاف السياسي بين عائشة وعثمان عند الطبري وغيره، وبيَّنت زيفها وكذبها، ثم قالت: وكان الأحرى بنا أن نعرض عن ذكرها جميعاً، لعدم وصولها إلينا عن طريق معتمد، بل الطرق التي وصلت منها رُمي أصحابها بالتشيع والكذب والرفض، ولكننا عرضنا لها، لشيوعها في أغلب الدراسات الحديثة، وللتدليل على سقوطها، فهي روايات ـ كما اتضح لنا حاولت خلق تاريخ لا وجود له أصلاً من الخلاف والتنكر بين عثمان وعائشة، وبين عثمان والصحابة جميعاً.
ولو صح أن عائشة اتفقت مع المتمردين على التحريض على عثمان رضي الله عنه؛ لكان من المتوقع أن يكون عندها نوع من التماس العذر لهؤلاء المتمرِّدين، لكن لم يصح عنها رضي الله عنها شيء من هذا، وإنه لو صح شيء من هذه الروايات في وصف موقف السيدة عائشة رضي الله عنها، وعن الصحابة الذين اشتركوا معها، وهو ما لا نقبل به للخبر الصادق عن الله ورسوله في تقرير عدالتهم التي كانت كافية لدحض هذه الروايات، لكننا توقفنا أمام الروايات، تأكيداً منا على سقوط هذه الروايات ومن بعدها الاستدلالات القائمة عليها، حتى تجتمع الأدلة الدينية، والعلمية، والتاريخية في صعيد واحد يؤكد بعضها بعضاً. إن الاتهامات التي وجهت إلى السيدة عائشة لا تثبت سنداً ولا تقوم أمام الأدلة العقلية أيضاً.
2- طلحة والزبير رضي الله عنهما:
طلب طلحة والزبير ومن معهم من الصحابة من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه تعجيل إقامة القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه، فقال لهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟! هاهم أولاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثاب إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟، قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه إن شاء الله، إن هذا الأمر أمر جاهلية، إن لهؤلاء القوم مادة، وذلك أن الشيطان لم يشرَع شريعة قطّ فيبرح الأرض من أخذ بها أبداً. إن الناس من هذا الأمر إن حُرّك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق، فاهدوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا.
ولكن هذه السياسة الحكيمة، لم يتفهّم بها بعضهم؛ فالناس في حال غضبهم وسيرهم وراء عواطفهم لا يدركون الأمور إدراكاً واقعياً يمكنهم من التقدير الصحيح، فتنعكس في تقديرهم الأوضاع، ويظنون المستحيل ممكناً، ولذلك قالوا: نقضي الذي علينا ولا نؤخره، وهم يعنون الطلب لإقامة الحدود على قتلة عثمان، وأخبر علي بمقالتهم، فرغب أن يريهم أنه لا يستطيع وإياهم أن يفعلوا شيئاً في مثل تلك الظروف، فنادى: برئت الذمة من عبد لم يرجع إلى مواليه، فتذامرت السبئيَّة والأعراب وقالوا: لنا غداً مثلها ولا نستطيع أن نحتجّ فيهم بشيء. وكأن رواد الفتنة من السبئيَّة تبادر إلى أذهانهم أن الخليفة يريد أن يجرّدهم من أعوانهم الذين يشدّون أزرهم، ويقضون إلى جوارهم، فعصوا ذلك الأمر، وحرّضوا الأعراب على البقاء، فأطاعوهم وبقوا في أماكنهم، ففي اليوم الثالث بعد البيعة خرج عليّ وقال لهم: أخرجوا عنكم الأعراب، وقال: يا معشر الأعراب الحقوا بمياهكم. فأبت السبئية وأطاعهم الأعراب، ثم دخل بيته ودخل عليه طلحة والزبير في عدة من أصحاب النبي ﷺ، فقال: دونكم ثأركم، فقالوا: عشوا عن ذلك، فقال لهم علي: هم والله بعد اليوم أعشى وابى، ثم أنشد يقول:
لو أن قومي طاوعتني سراتهم أمرتهم أمراً يديخ الأعاديا
حتى هذه اللحظة فإن علياً وطلحة والزبير والصحابة جميعاً كانوا يَبْدون متفقين تماماً على ضرورة إقامة الحدود على من فرقوا أمر الجماعة وخالفوا وقتلوا الخليفة، دفعاً لضررهم عن الدين كله، وكانوا متعاونين في ذلك، وكان الأمر يبدو منطقياً تماماً من علي رضي الله عنه، واتفق معه الصحابة في ذلك، ولكن كيف يصنعون لهؤلاء الغوغاء الذين تحكَّموا في الأمور، وحركوا معهم العبيد والأعراب، وهم بين أهل المدينة يسومونهم ما شاؤوا. لم تكن هناك إِذَنْ قدرة على قتالهم.
وتقدم طلحة والزبير بمقترح لعلي لمواجهة السبئية الموجودة حول علي، فقد قال طلحة لعلي: دعني فلآتِ البصرة، فلا يفجؤك إلا وأنا في خيل، وقال الزبير: دعني آتِ الكوفة، فلا يفجؤك إلا وأنا في خيل، ولكن علياً ـ رضي الله عنه ـ نراه يتريث ويقول لهما: حتى أنظر في ذلك.
ولعل علياً كان يخشى الفتنة وتحوّل الأمر إلى حرب أهلية داخل المدينة لا تحمد عقباها، ولذلك لم يجب طلحة والزبير إلى مطلبهما. وكان اقتراح الزبير وطلحة على علي دليلاً على اقتناعهما في الوقت نفسه بما قال علي رضي الله عنهم جميعاً من كون هؤلاء الغوغاء متغلغلين في داخل الصف، يملكون المسلمين ولا يملكهم المسلمون، فحاولا بهذا الطلب اختصار وقت تعطيل حد من حدود الله، وتقوية جانب علي حتى يتمكن من إقامتها، على أن الصحابة قد انتظروا أن ينظر عليُّ في ذلك، لكن علياً رضي الله عنه كان يرى أن هذا الأمر الذي وقع لا يُدرك إلا بإماتته، وإنها فتنة من النار كلما سُعّرت ازدادت واستنارت.
ولما رأى الزبير وطلحة ومن وافقهما من الصحابة أن أربعة أشهر قد مرت على مقتل عثمان، ولم يستطع علي أن يقيم القصاص على قتلة عثمان بسبب أن الخارجين على عثمان لهم شوكة وقوة وتغلغل في جيش علي، عندئذ قال طلحة والزبير لعلي: ائذن لنا أن نخرج من المدينة، فإما أن نكابر وإما أن تدعنا، فقال: سأمسك الأمر، ما استمسك، فإذا لم أجد بُدّاً فآخر الدواء الكي.
فقد كان عليّ رضي الله عنه يعرف أن خروجهما من المدينة كان محاولة منهما للوصول إلى حل، فلم يمنعهما من ذلك، ربما لأنه كان يتمنى الوصول إلى حل أيضاً، بل كان يحاوله ولكن بطريقته الخاصة.
وقد خاض بعض الباحثين المعاصرين في تفسير النص المتعلق باستئذان طلحة والزبير في الذهاب للبصرة والكوفة والمجيء بخيل من هناك لدحر الغوغاء، وامتناع علي عن الموافقة ـ بالباطل ـ، وقالوا: إنه تخوف جانب الرجلين، ويخشى أن يعيداها عليه جذعة ويستنا به سنة أهل مصر بعثمان ويكون له معهما يوم كيوم الدار، وتفسير كهذا تحميل للنص فوق ما يحتمل، وفيه ظلم وتجاوز في حق صفوة الصحابة.
لقد ذهب الزبير وطلحة رضي الله عنهما إلى مكة والتقوا بكَمٍّ غفير من المسلمين المطالبين بالقصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه، وسوف يأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل بإذن الله.
3- معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:
شاع بين الناس قديماً وحديثاً: أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ـ كان سببه طمع معاوية في الخلافة، وأن خروج هذا الأخير على عليّ وامتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام، فقد جاء في كتاب (الإمامة والسياسة). المنسوب لابن قتيبة الدينوري رواية تذكر أنّ معاوية ادّعى الخلافة، وذلك من خلال الرواية التي ورد فيها ما قاله ابن الكواء لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: اعلم أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورة فإن صدقك فقد حلّ خلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه. وهذا كلام لا يثبت عن أمير المؤمنين علي، وإنما من كلام الروافض وسيأتي الحديث عن كتاب (الإمامة والسياسة) وبيان كذبه وزوره ودوره في تشويه حقائق التاريخ في موضعه بإذن الله.
وقد امتلأت كتب التاريخ والأدب بالروايات الموضوعة والضعيفة، التي تزعم: أن معاوية اختلف مع علي من أجل الملك والزعامة والإمارة.
والصحيح: أن الخلاف بين عليّ ومعاوية ـ رضي الله عنه ـ كان حول مدى وجوب بيعة معاوية وأصحابه لعلي قبل توقيع القصاص على قتلة عثمان أو بعده، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فقد كان رأي معاوية ـ رضي الله عنه ـ ومن حوله من أهل الشام أن يقتصَّ عليّ ـ رضي الله عنه ـ من قتلة عثمان، ثم يدخلون بعد ذلك في البيعة.
ويقول القاضي ابن العربي: إن سبب القتال بين أهل الشام وأهل العراق يرجع إلى تباين المواقف بينهما: فهؤلاء ـ أي: أهل العراق ـ يدعون إلى عليّ بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء ـ أي: أهل الشام ـ يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون: لا نبايع من يؤوي القتلة.
ويقول إمام الحرمين الجويني في (لمع الأدلة): إن معاوية وإن قاتل علياً، فإنه لا ينكر إمامته ولا يدَّعيها لنفسه. وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظناً منه أنه مصيب، وكان مخطئاً.
ويقول الهيتمي: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة: أنّ ما جرى بين معاوية وعليّ ـ رضي الله عنهما ـ من الحروب، فلم يكن لمنازعة معاوية لعليّ في الخلافة للإجماع على أحقِّيتها لعليّ.. فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ابن عمّه، فامتنع علي.
لقد تضافرت الروايات وأشارت إلى أنّ معاوية ـ رضي الله عنه ـ اتخذ موقفه للمطالبة بدم عثمان، وأنه صرح بدخوله في طاعة علي ـ رضي الله عنه ـ إذا أقيم الحدّ على قتلة عثمان. ولو افترض أنه اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال علي طمعاً في السلطان، فماذا سيحدث لو تمكَّن علي من إقامة الحد على قتلة عثمان؟! حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي ومبايعته له، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة، كما أن كل من حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحدّ على قتلة عثمان، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، ولا يمكن أن يقدم عليها إذا كان ذا أطماع.
إن معاوية ـ رضي الله عنه ـ كان من كتّاب الوحي، ومن أفاضل الصحابة، وأصدقهم لهجة، وأكثرهم حلماً، فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي ويهرق دماء المسلمين من أجل مُلْك زائل؟! وهو القائل: والله لا أخيَّر بين أمرين، بين الله وبين غيره؛ إلا اخترت الله على ما سواه، وقد ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال فيه: «اللهم اجعله هادياً مهدياً واهديه»، وقال: «اللهم علمه الكتاب وقِهِ العذاب».
أما وجه الخطأ في موقفه من مقتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ فيظهر في رفضه أن يبايع لعليّ ـ رضي الله عنه ـ قبل مبادرته إلى الاقتصاص من قتلة عثمان، ويضاف إلى ذلك خوف معاوية على نفسه لمواقفه السابقة من هؤلاء الغوغاء وحرصهم على قتله، بل ويلتمس منه أن يمكنه منهم، مع العلم أن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، بل يدخل في الطاعة، ويرفع دعواه إلى الحاكم، ويطلب الحق عنده، وقد اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتصّ من أحد ويأخذ حقه دون السلطان، أو من نصبه السلطان لهذا الأمر، لأن ذلك يفضي إلى الفتنة وإشاعة الفوضى.
ويمكن القول: إن معاوية ـ رضي الله عنه ـ كان مجتهداً متأولاً يغلب على ظنه أن الحق معه، فقد قام خطيباً في أهل الشام بعد أن جمعهم وذكّرهم أنه ولي عثمان ـ ابن عمه ـ وقد قتل مظلوماً، وقرأ عليهم الآية الكريمة: ﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: 33]. ثم قال: أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقام أهل الشام جميعهم وأجابوا إلى الطلب بدم عثمان، وبايعوه على ذلك، وأعطوه العهود والمواثيق على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفني الله أرواحهم.
وإذا قارنّا بين طلحة والزبير ـ رضي الله عنهما ـ ومعاوية؛ لاحظنا أن طلحة والزبير رضي الله عنهما أقرب إلى الصواب من معاوية ـ رضي الله عنه ـ من أربعة أوجه؛ كان أولها: مبايعتهما لعليّ طائعين مع اعترافهما بفضله، ومعاوية لم يبايعه وإن كان معترفاً بفضله.
والثاني: منزلتهما في الإسلام وعند المسلمين، وسابقتهما، ومعاوية لا شك دونهما فيها.
الثالث: أنهما أرادا قتل الخوارج على عثمان فقط، ولم يتعمَّدوا محاربة علي ومن معه في وقعه الجمل، بينما أصر معاوية على حرب عليّ ومن معه في صفين.
والرابع: لم يتهما علياً بالهوادة في أخذ القصاص من قتلة عثمان، ومعاوية ومن معه اتهموه بذلك.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022