علي (رضي الله عنه) في عهد الخليفة عثمان بن عفان
الحلقة الثالثة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى1441 ه/ يناير 2020م
سادساً: من أقوال علي في الخلفاء الراشدين:
إن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قد أجمع على صحتها وانعقادها الصحابة الكرام ، ومن طعن في أحد منهم فقد خالف قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115] ، وقول النبي ﷺ : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ عضوا عليها بالنواجذ» فهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن اتبعهم بإحسان، وما أحسن ما قاله أيوب السختياني في هذا المقام؛ حيث قال: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله عز وجل ، ومن أحب علياً فقد استمسك بالعروة الوثقى ، ومن أحسن القول في أصحاب محمد فقد برأ من النفاق، قال الشاعر:
إنِّي رضيتُ علياً قدوةً علماً
كما رضيتُ عتيقاً صاحبَ الغار
وَقَدْ رضيت أبا حفصٍ وشِيعتِهِ
وما رضيتُ بقتلِ الشيخِ في الدارِ
كلُّ الصحابةِ عندي قدوةٌ عَلَمٌ
فهل عليَّ بهذا القولِ من عارِ
إن كنتَ تعلمُ أني لا أحبهم
إلا لوجهك أعتقني مِنَ النَّارِ
هذا وقد جاءت الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة في العلاقة المتميزة بين علي والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، وقد تم توضيح ذلك في الصفحات الماضية وهذه بعض الأدلة نضيفها إلى ما سبق من براهين ساطعة على مكانة الخلفاء الراشدين عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
1- سيدا كهول أهل الجنة وشبابها:
عن علي رضي الله عنه قال: كنت عند النبي ﷺ ، فأقبل أبو بكر وعمر ، فقال: «يا علي ، هذان سيدا كهول أهل الجنة ، وشبابها ، بعد النبيين والمرسلين».
2- ما أضمر لهما إلا الذي أتمنى المضي عليه:
عن سويد بن غفلة ، قال: مررت بنفر من الشيعة يتناولون أبا بكر وعمر ، فدخلت على علي فقلت: يا أمير المؤمنين ، مررت بنفر من أصحابك انفاً يتناولون أبا بكر وعمر بغير الذي هما له من هذه الأمة أهل ، فلولا أنك تُضْمِرُ على مثل ما أعلنوا عليه ما تجرَّؤوا على ذلك. فقال علي: ما أضمر لهما إلا الذي أتمنى المُضيَّ عليه ، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل. ثم نهض دامع العين يبكي ، قابضاً على يدي حتى دخل المسجد ، فصعد المنبر وجلس عليه متمكناً قابضاً على لحيته ينظر فيها وهي بيضاء ، حتى اجتمع له الناس ، ثم قام فخطب خطبة موجزة بليغة ، ثم قال: ما بال قوم يذكرون سَيِّدَي قريش وأبوي المسلمين؟! أنا مما قالوا برأي وعلى ما قالوا مُعاقِبٌ ، ألا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لا يحبهما إلا مؤمن تقي ، ولا يبغضهما إلا فاجر ردي ، صحبا رسول الله ﷺ على الصدق والوفاء ، يأمران وينهيان وما يجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله ﷺ ، ولا كان رسول الله ﷺ يرى بمثل رأيهما ، ولا يحب كحبهما أحداً، قضى رسول الله ﷺ وهو عنهما راض ، ومضيا والمؤمنون عنهما راضون ، أمر رسول الله ﷺ أبا بكر لصلاة المؤمنين فصلَّى بهم تسعة أيام في حياة رسول الله ﷺ ، فلما قبض الله تعالى نبيه ﷺ واختار له ما عنده ، ولاَّه المؤمنون أمرهم ، وقضوا إليه الزكاة ، لأنهما مقرونتان ، ثم أعطوه البيعة طائعين غير كارهين ، أنا أول من سَنَّ ذلك من بني عبد المطلب، وهو لذلك كاره يود أن أحدنا كفاه ذلك ، وكان والله خير من بقي ، أرحمه رحمة، وأرأفه رأفة ، وأثبته ورعاً ، وأقدمه سناً وإسلاماً.. فسار فينا سيرة رسول الله ﷺ حتى مضى على ذلك ، ثم ولي عمر الأمر من بعده ، فمنهم من رضي ، ومنهم من كره ، فلم يفارق الدنيا حتى رضي به من كان كرهه، فأقام الأمر على منهاج النبي ﷺ وصاحبه ، يتبع اثارهما كاتباع الفصيل أمه ، وكان والله رفيقاً رحيماً ، وللمظلومين عوناً راحماً وناصراً ، لا يخاف في الله لومة لائم ، ضرب الله بالحق على لسانه ، وجعل الصدق من شأنه ، حتى كنا نظن أن ملكاً ينطق على لسانه ، أعز الله بإسلامه الإسلام ، وجعل هجرته للدين قواماً ، ألقى الله تعالى له في قلوب المنافقين الرهبة ، وفي قلوب المؤمنين المحبة.
إلى أن قال: فمن لكم بمثلهما - رحمة الله عليهما - ورزقنا المضيَّ على سبيلهما، فإنه لا يبلغ مبلغهما إلا باتباع اثارهما والحب لهما ، ألا فمن أحبَّني فليحبَّهما ، ومن لم يحبَّهما فقد أبغضني ، وأنا منه بريء ، ولو كنت تقدمت إليكم في أمرهما؛ لعاقبت على هذا أشد العقوبة ، ولكن لا ينبغي أن أعاقب قبل التقدم ، ألا فمن أُتيت به يقول هذا بعد اليوم ، فإنّ عليه ما على المفْتَري ، ألا وخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر وعمر ، ولو شئت سمّيت الثالث ، وأستغفر الله لي ولكم .
3- هذا عثمان بن علي سميته بعثمان بن عفان:
عن أبي سعيد الخدري: نظرت إلى غلام أيفع، له ذؤابة وجمة، والله يعلم إني منه حينئذ لفي شك ، ما أدري غلام هو أو جارية، فمررنا بأحسن منه وهو جالس إلى جنب علي ، فقلت: عافاك الله ، من هذا الفتى إلى جانبك؟ قال: هذا عثمان بن علي سميته بعثمان بن عفان ، وقد سميت بعمر بن الخطاب، وسميت بعباس عم رسول الله ﷺ ، وقد سميت بخير البرية محمد، فأما حسن وحسين ومحسن، فإنما سماهم رسول الله ﷺ وعقّ عنهم وحلق رؤوسهم، وتصدق وزنها وأمر بهم فسموا وختنوا، فقد ولدوا في عهده عليه الصلاة والسلام ، ورسول الله هو الذي سماهم وعق عنهم.
4- أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي ﷺ اختصاص عظيم:
قد عرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي ﷺ اختصاص عظيم ، وكانوا من أعظم الناس اختصاصاً به ، وصحبة له وقربة إليه ، وقد صاهرهم كلهم ، وكان يحبهم ويثني عليهم ، وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهراً وباطناً في حياته وبعد موته، وإما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته ، أو بعد موته ، فإن كانوا على غير الاستقامة مع هذا القرب فأحد الأمرين لازم ، إما عدم علمه بأحوالهم ، أو مداهنته لهم، وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول ﷺ كما قيل:
فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ
وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته، وأكابر أصحابه ، ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله ، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين؟! فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول ﷺ كما قال الإمام مالك وغيره: إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ﷺ ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء ، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين ، ولهذا قال أهل العلم: إن الرافضة دسيسة الزندقة.
5- ما يترتب عليه في مذهب الرافضة من تكفير الصحابة:
إن مذهب الرافضة في تكفير الصحابة يترتب عليه تكفير أمير المؤمنين لتخلِّيه عن القيام بأمر الله ، ويلزم عليه إسقاط تواتر الشريعة ، بل بطلانها ما دام نقلتها مرتدين ، ويؤدي إلى القدح في القران العظيم ، لأنه وصلنا عن طريق أبي بكر وعمر وعثمان وإخوانهم ، وهذا هو هدف واضع هذه المقالة ، ولذلك قال أبو زرعة: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول ﷺ حق ، والقران حق ، وإنما أدى إلينا هذا القران والسنن أصحاب رسول الله ﷺ ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة، ولذلك اعترفت كتب الشيعة أن الذي وضع هذه المقالة هو ابن سبأ فقالت: إنه أول من أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة ، وتبرأ منهم ، وادعى أن علياً عليه السلام أمره بذلك.
6- قرائن عملية وأدلة واقعية على حقيقة العلاقة بين علي والخلفاء الراشدين:
قامت القرائن العملية والأدلة الواقعية من سيرة أمير المؤمنين علي في علاقته مع إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان مما اشتهر وذاع نقله ، وقد نقلنا منه الكثير فيما مضى ما يثبت المحبة الصادقة والإخاء الحميم بين هذه الطليعة المختارة ، والصفوة من جيل الصحابة رضوان الله عليهم ، وتأتي في مقدمة هذه الأدلة والقرائن تزويج أمير المؤمنين علي ابنته أم كلثوم لأمير المؤمنين عمر.
فإذا كان عمر فاروق هذه الأمة قد صار عند الشيعة الروافض أشد كفراً من إبليس ، أفلا يرجعون إلى عقولهم ويتدبروا فساد ما ينتهي إليه مذهبم؟!
إذ لو كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما كافرين كما يفترون لكان علي بتزويجه ابنته أم كلثوم الكبرى من عمر رضي الله عنه كافراً أو فاسقاً معرضاً بنته للزنى، لأن وطء الكافر للمسلمة زنى محض!
والعاقل المنصف البريء من الغرض ، الصادق في محبته للنبي ﷺ وأهل بيته واتباعه لهم؛ لا يملك إلا الإذعان لهذه الحقيقة ، حقيقة الولاء والحب بين الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم ، ولذلك لما قيل لمعز الدولة أحمد بن بويه - وكان رافضياً يشتم صحابة رسول الله -: إن علياً رضي الله عنه زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب ، استعظم ذلك وقال: ما علمت بهذا ، وتاب وتصدق بأكثر ماله ، وأعتق مماليكه ، ورد كثيراً من المظالم وبكى حتى غشي عليه، لشعوره بعظم جرمه فيما سلف من عمره ، الذي أمضاه ينهش في أعراض هؤلاء الأطهار ، مغتراً بشبهات الروافض.
وقد حاول شيوخ الشيعة الروافض إبطال مفعول هذا الدليل؛ فوضعوا روايات مكذوبة عن لسان الأئمة تقول: ذلك فرج غصبناه، فزادوا الطين بلة، حتى صوروا أمير المؤمنين في صورة (الديوث) الذي لا ينافح عن عرضه ، ويقر الفاحشة في أهله ، وهل يتصور مثل هذا في حق أمير المؤمنين علي بطل الإسلام؟ إن أدنى العرب ليبذل نفسه دون عرضه ، ويقتل دون حرمه ، فضلاً عن بني هاشم الذين هم سادات العرب وأعلاها نسباً، وأعظمها مروءة وحمية، فكيف يثبتون لأمير المؤمنين وابنته حفيدة رسول الله ﷺ مثل هذه المنقصة الشنيعة ، وهو الشجاع الصنديد ، ليث بني غالب ، أسد الله في المشارق والمغارب.
ويبدو أن بعضهم لم يعجبه هذا التوجيه ، فرام التخلص من هذا الدليل بمنطق أغرب وأعجب؛ حيث زعم أن أم كلثوم لم تكن بنت علي ولكنها جنية تصورت بصورتها. فأتوا بما يستخف به أصحاب العقول ، ويستطيع كل من أراد أن يدّعي على من يكرهه بأنه جني أو جنية ، وهكذا يعيش الناس في الخرافات وتضيع الحقيقة.
ومن القرائن أيضاً: علاقات القربى القائمة بينهم ، ووشائج الصلة ، وكذلك مظاهر المحبة ، حتى إن علياً والحسن والحسين -كما مرّ معنا - يسمون بعض أولادهم باسم أبي بكر وعمر ، وهل يطيق أحد أن يسمي أولاده بأسماء أشد أعدائه كفراً وكرهاً له؟! وهل يطيق أن يسمع أسماء أعدائه تتردد في أرجاء بيته يردِّدها مع أهله في يومه مرات وكرات.
إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لا يحفظ عنه الصحابة ومن تبعهم من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلا محبة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في حياتهم ، وفي خلافتهم ، وبعد وفاتهم ، فأما في خلافتهم فسامع لهم مطيع، يحبهم ويحبونه ، ويعظم قدرهم ويعظمون قدره ، صادق في محبتهم ، مخلص في الطاعة لهم ، يجاهد من يجاهدون ، ويحب ما يحبون ، ويكره ما يكرهون ، يستشيرونه في النوازل فيشير مشورة ناصح مشفق محب ، فكثير من سيرتهم بمشورته جرت، وهم يبادلونه نفس الشعور ويقال: إنه لا يجتمع حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلا في قلوب أتقياء هذه الأمة. وقال سفيان الثوري: لا يجتمع حب عثمان وعلي رضي الله عنهما إلا في قلوب نبلاء الرجال. وقال أنس بن مالك: قالوا: إن حب عثمان وعلي رضي الله عنهما لا يجتمعان في قلب مؤمن ، كذبوا. فقد جمع الله عز وجل حبهما بحمد الله في قلوبنا.
سابعاً: وصف لأصحاب النبي ﷺ في القران الكريم:
قال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].
ومن المناسب أن أختم هذا الفصل بهذه الآية الكريمة لتكون دليلاً على ما ذكرته من المحبة والرحمة والتعاون بين الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام ، فهذه الآية تضمَّنت ذكر منزلة الرسول ﷺ بالثناء ، ثم ثنى الله تعالى فيها بالثناء على سائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فذكر تعالى أن صفاتهم الشدة والغلظة على أهل الكفر ، كما وصفهم بالتراحم والتعاطف فيما بينهم ، ووصفهم بأنهم يكثرون من الأعمال الصالحة المقرونة بالإخلاص وسعة الرجاء ، وفي مقدمة تلك الأعمال الصالحة: إكثارهم من الصلاة ابتغاء الحصول على فضل من الله ورضوان ، كما بيَّن سبحانه أن اثار ذلك يظهر على وجوههم والسيما ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ ، وقد قيل فيها: بياض يكون في الوجوه يوم القيامة، قاله الحسن وسعيد بن جبير ، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ورواية أخرى عنه وعن مجاهد: السيماء في الدنيا هو السمت الحسن: (عن مجاهد أيضاً: هو الخشوع والتواضع).
وهذه الأقوال لا منافاة بينها؛ إذ يمكن أن يكون في الدنيا هو السمت الذي ينشأ عن التواضع والخشوع ، وفي الاخرة يكون في جباههم نور؛ قال ابن كثير: فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم ، وحسنت أعمالهم؛ فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم ، وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا ، وصدقوا في ذلك؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله ﷺ ، وقد نوَّه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلـة والأخبار المتداولـة ، ولهذا قال سبحانه هاهنا: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ ، ثم قال: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ أي: فراخه ﴿ فَآزَرَهُ ﴾ أي: شده وقواه ﴿ فَاسْتَغْلَظَ ﴾ أي: شب وطال ﴿ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ﴾ أي: فكذلك أصحاب رسول الله ﷺ ؛ آزروه وأيـدوه ونصروه؛ فهم معه كالشطء مع الزرع : ومن هذه الآية انتزع الإمام ﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾ رحمة الله عليه في رواية عنه تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم؛ قال: لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظه الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك..
ثم قال تبارك وتعالى: أي: ثواباً جزيلاً ورزقاً ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ﴾ ، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهـو في حكمهـم ، ولهم الفضل والسبـق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم ، وقد فعل.
وفي قوله سبحانه في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم: أخطر حكم وأغلظ تهديد وأشد وعيد في حق من غيظ بأصحاب ﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾ الله ﷺ ، أو كان في قلبه غلٌّ لهم.
وأما قوله تعالى في ختام الاية: فيها وعد من الله تعالى لجميع الصحابة ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ ، وكذلك كل من امن وعمل الصالحات من أمة الإجابة ، إذ هذا الوعد عامّ لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة، وكلمة (منهم) في الاية السابقة: (من) لبيان الجنس وليست للتبعيض. قال ابن تيمية: ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات؛ وهو الشدة على الكفار ، والرحمة بينهم ، والركوع والسجود ، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، والسيماء في وجوههم من أثر السجود ، وأنهم يبتدئون من ضعف الى كمال القوة والاعتدال؛ كالزرع ، والوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات ، بل على الإيمان والعمل الصالح ، فذكر ما به يستحقون الوعد وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ، ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ، ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء ، بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح؛ فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم.
إن ما ذكرته في هذا الفصل ينسجم كلياً مع حديث القران الكريم عن الرحمة بين الصحابة والشدة على الكفار، وخصوصاً بين الخلفاء الراشدين؛ فهم السادة الكرام ، وعلية القوم ، وقادة الأمة بعد وفاة نبيها ، فالحذر كل الحذر من الروايات الضعيفة والقصص الموضوعة التي اختلقها أعداء الأمة ليشوهوا بها تاريخ صدر الإسلام؛ أنصدق الروايات الكاذبة والقصص الواهية التي تصور العداء بين الخلفاء الراشدين ، أم نصدق كتاب ربنا وما جاء في حقهم على لسان نبينا وما يوافقه مما دونه العلماء الثقات من أهل السنة والجماعة ؟!
قال تعالى: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 63] ، فهذا وصف القران الكريم لحقيقة الألفة بين قلوب الصحابة؛ فهي منحة ربانية ، ونعمة إلهية أعطاها الله لذلك الجيل الطاهر ، لا دخل لبشر فيها. وبيّن القران الكريم أن الألفة بين الصحابة نعمة من الله تعالى امتن بها على رسوله ﷺ ، وهذا التصوير القراني لحقيقة الصحابة ينسجم مع الروايات الصحيحة التي تبين محبة الصحابة والمودة بينهم، وبذلك يفتضح أمر الذين وضعوا الروايات المكذوبة والموضوعة ، والاية تشمل كل من سار على هدي القران الكريم وسنة سيد المرسلين؛ قال ابن عباس: قرابة الرحم تقطع، ومنة المنعم تكفر، ولم نر مثل تقارب القلوب.
قال الشاعر:
ولقد صحبتُ الناسَ ثم خَبِرْتُهُم
وبلوتُ ما وَصَلُوا من الأسبابِ
فإذا القرابةُ لا تقرِّبُ قاطعاً
وإذا المودَّةُ أقربُ الأسبابِ
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf