أسرى بدر (1)
الحلقة الخامسة والثلاثون من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
ربيع الآخر 1443 هــ / نوفمبر 2021
في مجلس الشورى:
أَبِنْ أيُّها التَّارِيخُ وَجْهَ مُحَمَّدٍ *** لِيُبْصرَه العامُــونَ عَنْهُ تَعَمُّــدَا
إذَا قَامَتْ الدُّنْيَا تَعُدُّ مَفَاخِرًا *** فَتَارِيخُنَا الوَضَّاحُ مِنْ بَدْرٍ ابْتَدَا
وَيَبْقَى صَدَى بَدْرٍ يَرِنُّ بِأُفْقِنَا *** هِتَافًا عَلَى سَمْعِ الزَّمـانِ مُرَدِّدَا
بِلادٌ أَعَزَّتْها سيـوفُ مُحَمـد *** فَمَا عذْرُها ألَّا تُـعِـزَّ مُحَـمَّـدَا
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسر الأسرى في بدر قال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «مَا تَرَوْنَ فِي هؤلاءِ الأَسْرَى؟».
لقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يستشير أصحابه، ولم يكن مستبدًّا برأيه ولا يستأثر به، مع أن الوحي يأتيه بكرة وعشيًّا، إلا أنه كان يشاور أصحابه رضي الله عنهم، فكان أول مَن نطق وتكلم مقدمهم وإمامهم الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام.
إن هذا الموقف من الصدِّيق رضي الله عنه يعبِّر عن الرغبة في الهداية، حتى لقوم واجهوا النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف والرماح، وقتلوا مَن قتلوا من أصحابه، وأسروا في ساحة حرب ضروس بينهم وبين الإسلام بعد أن اعتدوا على المسلمين، وطردوا النبي صلى الله عليه وسلم وحاربوه حتى في المدينة التي هاجر إليها، ولقد لحظ أبو بكر رضي الله عنه جانب القرابة، فقال: هم بنو العم والعشيرة. واعتبر أن هذا الأمر مسوغ لأخذ الفدية منهم وألا يقتلوا.
ثم استشار النبي صلى الله عليه وسلم الفاروق الذي كان الشيطان يَفْرَق منه، وما رآه سالكًا طريقًا إلا سلك طريقًا آخر، فقال: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر.
وهنا الوضوح في المواقف، فهو يختلف عن رأي أبي بكر، فقال: ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عَقِيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان- وذكر نسيبًا له- فأضرب عنقه. وهكذا ذكر أن القريب يمكن من قريبه ليقتله، وكأن مراده رضي الله عنه أن يعلم الناس أنه ليس في قلوب المسلمين مودة للذين كفروا وإن كانوا أقرب الأقارب لهم.
فهوى النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر، ولم يهو ما قاله عمر، وقال: «أَنْتُمْ ضُعَفَاءُ فُقَراءُ، فلا يُطْلَقُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِداءٍ». فقدموا الفدية، فمَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وأطلقهم، ثم أنزل الله تعالى قوله:﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: 67].
وفي هذه الحادثة وقفات:
أولًا: اختلاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الأسرى:
إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، فهذا أبو بكر أخذ بالقرابة والصلة والرحم في العفو عن هؤلاء القوم وأخذ الفدية منهم، وعمر أخذ بمبدأ نقيض مبدأ أبي بكر، وهو أنه اعتبر أن القرابة والرحم مسوغ للشدة على هؤلاء القوم وقتلهم، وحين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر ولم يأخذ برأي عمر انتهى عند هذا الحد، ولم ينقل لنا قط أن الصحابة انقسموا إلى مجموعات: فهذه تؤيد رأي أبي بكر، وهذه تؤيد رأي عمر، وهذه اتخذت موقفًا ثالثًا، وهذه في أمر مريج، وهذه تعتزل، وهكذا.
ومن الطبيعي أن يختلف الناس في اجتهادهم حول هذه القضية، ثم يتم اختيار قول من الأقوال من قبل الإمام أو الحاكم، وهو هنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وينتهي الأمر لأن المجتمع المسلم بعيد عن الخصومات والمجادلات والصراعات الداخلية التي تنبعث من تعصب كل طرف لرأيه، وإصراره عليه إلى النهاية.
ولم يكن بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بسبب اختلاف الرأي مشكلة، ولم ينقل أن أبا بكر استدعى عمر وجلس معه جلسة خاصة، وقال له: يا عمر، لماذا تكلمت وقد قدمت رأيي؟ فكان عليك أن تصمت. كلا، ولا حدث أن عمر خاطب أبا بكر أو ساره وقال له: إن رأيك لم يكن جيدًا.
فالكل يؤمن بأن المنطلق هو الإخلاص والنية الصادقة، والرغبة في نصرة الدين، لكن أبا بكر رضي الله عنه غلب جانب الهداية، وهو الجانب الذي يغلبه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ولذلك أخذ برأي أبي بكر، أما عمر فغلب جانب النكاية والانتقام من هؤلاء القوم، وإظهار عزة الدين، وأنه ليس في قلوب المسلمين مودة للكافرين المحاربين.
وهذا مبدأ وموقف مهم جدًّا في معركة هي أولى معارك الإسلام.
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي