(التداخل بين الروح والنفس)
اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: العاشرة
صفر 1444ه/ سبتمبر 2022م
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ *** وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ كُلِّ مُقْلَةِ عَارِفٍ *** وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَعِ
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا *** كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
حتى إذا قَرُبَ الْـمَسِيرُ مِن الْحِمَى *** ودَنَا الرَّحِيلُ إلى الفَضَاءِ الأوْسَعِ
سَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الغِطَاءُ فَأَبْصَرَتْ *** مَا لَيْسَ يُدْرَكُ بِالعُيُونِ الهُجَّعِ
هذه القصيدة العينية من أشهر قصائد التراث، ولذا كثرت معارضاتها على ذات الوزن والقافية، وتعدَّدت نسخها، واختلفت رواياتها، وشرحها كثيرون، وأُضيف إليها ما ليس منها، وتُرجمت إلى لغات العالم الحيّة..
القصيدة لابن سينا الفيلسوف، وهو يتحدَّث عن «وَرْقَاء» أي: حمامة؛ محجوبة عن العيون، وصلت إلينا كُرْهًا: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا﴾، وتذهب كُرْهًا: ﴿إِنَّ الْـمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾، وعند قرب الرحيل يُكشَفُ الغطاءُ فتبصر ما لم تكن تبصر من قبل: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾.
إنها الروح إذًا.. وهي لغزٌ، وأي لغز!
التداخل ما بين الروح والنفس اشتباك يصعب الفصل فيه.. وهل هما واحد أم شيئان منفصلان؟
وتَرْك الباب مفتوحًا للبحث العلمي البعيد عن الأحكام المسبقة أدعى للخروج بنتائج مفيدة في عصر الانفجار المعلوماتي الضخم..
ومثله الحديث عن علاقة العقل والمخ بها.. وعلاقة الغرائز الإنسانية من الأشواق والحب والمواهب النفسية والحالات النفسية والإلهام والرؤيا.
الروح طاقة نورانية تشرق وتنتعش بالإيمان والمناجاة والقرآن والصلاة، فتمنح السعادة والرضا والإنجاز، كانت أمي تقول: على قدر المحبة تمشي الأقدام.
وتضعف بالغفلة حتى تعجز عن حمل الجسد، ذكر الشافعي أنه رأى رجلًا له سِنٌّ، شيخًا كبيرًا خَضِيبًا، يدورُ على بيوت القِيَان ماشيًا يعلِّمهم الغناء، فإذا حضرت الصلاةُ صلَّى قاعدًا!
الحب معنى روحاني؛ سواء حب الله تعالى، أو حب الناس، أو حب الخير والحق والجمال..
الحب الذي ربط حواء وآدم وقاد كلًّا منهما إلى الآخر مختلف عن الغريزة المحضة؛ التي تتناكح بها الدواب والطيور والحشرات.. هو اتصال روح بروح، وقد يلحقه أو يسبقه أو يصحبه اتصال جسد بجسد.
ولذلك صار الاتصال الجسدي محاطًا بالتشريعات والضوابط والأحكام التي تعطيه وضعية القداسة والعبادة.. «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ». وتبعد عنه الإحساس بالاستقذار الذي يولِّد الكبت أو الشعور بالعار والتأنيب.
التقوى وإيثار رضا الله على شهوة النفس الحاضرة، انتصار للروح.
وطأة المعصية على الروح وإشراقة التوبة كما حدث لآدم.
الفِراسة؛ وكان شاه الكَرْماني ممن لا تُخطئ فِراسته، وكان يقول: «مَن غَضَّ بصرهُ عن المحارم، وأمسكَ نفسَهُ عن الشهوات، وعَمَرَ باطِنَهُ بدوام المراقبة وظاهِرَهُ باتِّباع السُّنَّة، وتعوَّدَ أكلَ الحلال، لم تُخطئ فِرَاسَتُهُ».
الحلم الذي يعيش عليه الإنسان ويموت من أجله، حلم المجد، الخلود، السمو، التأثير.. وهي التي أغرى الشيطان بها آدم.. فطرة إنسانية وخاصية متصلة بالروح، ومغروزة في أصل الخلقة.
والخطأ الذي وقع فيه الأبوان متعلِّق بالوسيلة، بالأكل من الشجرة الممنوعة، وهي ليست سببًا علميًّا صحيحًا لحصول المطلوب.
الروح هي النافذة المفتوحة للإنسان؛ ليُحلِّق ويسمو ويتجاوز جدران الواقع الضيق أو الألم أو القيد أوالإعاقة أو الظلم، فحين يعجز الجسد يملك الإنسان أن يشرق بروحه وينتقل إلى آفاق أسمى وأعلى.
ذات خلوة كنتُ أقول:
أَنَا فِي السِّجْنِ فِي نَعِيمٍ دَانِ *** لَيْسَ تَسْطِيعُهُ يَدُ السَّجَّانِ
إِنْ حُرِمْتُ الرِّيَاضَ خُضْرًا فعِنْدِي *** فِي حَنَايَايَ رَوْضَةُ القُرْآنِ
أَوْ حُرِمْتُ البَيْتَ العَتِيقَ فَيَا رُبَّ *** صَبَاحٍ مَسَحَتُ بِالْأَرْكَانِ
أَوْ حُرِمْتُ الْحَدِيثَ لِلنَّاسِ حِيْنًا *** فَحَدِيثِي يَرِنُّ فِي الآذَانِ
أَوْ حُرِمْتُ التَّطْوَافَ شَرْقًا وَغَرْبًا *** إِنَّ رُوحِي تَقْوَى عَلَى الطَّيَرَانِ
سَابِحٌ فِي الأَفْلَاكِ أَشْهَدُ فِيهَا *** صَنْعَةَ اللهِ مُبْدِعِ الإِتْقَانِ
رؤيا منام من روح مجهدة واثقة بالله تقلب الموازين!
الروح تكريس للحق الإنساني، والطفل الذي يولد الآن يساوي أي شخصٍ آخر على الوجود في كرامته وحرمته وميراثه وحقوقه!
حق الحياة..
حق المعرفة..
حق العبادة..
حق التعبير..
حق الخصوصية..
حق الكرامة..
الأرواح مجاميع، وفي الحديث: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
من الممكن أن يكون إشارة إلى تلاقي الأرواح في عالم الذَّرِّ قبل وصولها إلى الأجساد، على أن الأرواح خُلقت قبل خلق الأجساد.
وربما كان إشارة إلى التشاكل في الخير والشر، وفي الطبع والمزاج، وفي نمط التفكير والاهتمام، وكانت عائشة رضي الله عنها قالت الحديث عندما سمعت أن امرأةً مزَّاحةً دخلت مكة فنزلت على امرأةٍ مزَّاحةٍ مثلها!
الحديث يلهم أن الروح تشكِّل شخصية الفرد وتميِّزه عن غيره، وتصنع جزءًا من هويته الخاصة به، وكذلك تفعل بالمجموع؛ بالفريق، وبالطائفة، وبالشعب، وبالأمة.
الروح محدثة بعد أن لم تكن.. وباقية لا تفنى، والموت هو مفارقة الروح للبدن، ولذلك فالملائكة أيضًا تموت، ولو فنيت الروح ما تنعَّمت ولا عُذِّبت..
حين نتخيَّل الموت انتقالًا للروح وتخليًا عابرًا عن الجسد نشعر بطمأنينة وتصالح مع منعطف ينقلنا إلى الضفة الأخرى، حضرت الوفاة أعرابيًّا فلم يكترث، وقال: إنما أنتقل من سلطان الله إلى سلطانه!
وقد تتشكَّل الروح في عالم الغيب بصورة ما؛ كما في «الصحيح» أن أرواحَ الشهداء في الجنة، وأنهم أحياءٌ عند ربهم يرزقون، فعن مسروق قال: سألنا عبدَ الله بنَ مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾؟ قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فأُخبرنا: «أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْـجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا فَأَزِيدُكُمْ؟ قَالُوا: رَبَّنَا أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي، وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْـجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟»
الإنسان روح أولًا ثم جسدٌ بعد، والعناية بتحرير الروح وتساميها وعافيتها وإشراقها هو المقصد الأول للرسالات بالتوحيد والعبودية والتقرُّب، والمقصد الأول للخلق والاستخلاف، وهو لا يتعارض مع حقوق الجسد والمادة.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 57-53
يمكنكم تحميل كتاب "علمني أبي" من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:
http://www.alsallabi.com/uploads/books/16630862370.pdf