(من تجب عليهم الصلاة؟)
اقتباسات من كتاب " فقه الصلاة" للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله)
الحلقة: الثامنة
ربيع الأول 1444ه/ أكتوبر 2022م
تجب الصلاة على المسلم البالغ العاقل القادر على فعلها إذا لم يمنع من فعلها مانع معتبر شرعًا.
أولًا: المسلم:
فلا تجب الصلاة على الكافر حال كفره، وإذا أسلم لم يخاطب بقضائها؛ لأنَّ الإسلام باتفاق العلماء يجبُّ ما قبله، لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]. ولأنَّ في إيجاب ذلك عليه تنفير من الإسلام، فعُفِي عنه.
واختلفوا في الكافر المرتد، فقال بعضهم: لا يلزمه قضاء ما فات في الردة، ولا في الإسلام قبلها، وهذا قول أكثر الفقهاء، فاعتبروه كالكافر الأصلي.
وقال بعضهم: يجب عليه القضاء، تغليظًا عليه؛ لأنه اعتقد وجوبها، وقدر على التسبُّب على أدائها، فهو كالمُحْدث، وهذا مذهب الشافعية.
ثانيًا: الصبي:
ولا تجب الصلاة على الصبي الصغير لعدم تكليفه لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رُفِع القلم عن الصبي حتى يبلغ". ورفْع القلم: كناية عن سقوط التكليف، ولكن هل يُترك الصبي ولا يطالب بالصلاة إلا بعد بلوغ سن التكليف؟
لا، فإن تعاليم الشرع تأمر بتدريب هؤلاء الناشئة على أداء الفرائض ابتداء من استكمال السابعة من العمر، وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شأن الصلاة: "مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر". وفي حديث آخر: "علِّموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر".
وذلك أن الخير عادة، والشر عادة، والمرء يشيب على ما شبَّ عليه، والتربية في الصغر كالنقش على الحجر، والشاعر يقول:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوَّده أبوه
والحديث هنا جعل للتعلم والتأديب مرحلتين:
مرحلة الأمر والتعليم والترغيب، وذلك بعد السابعة.
ومرحلة الضرب والتأديب والترهيب، وذلك بعد العاشرة.
أي أن الضرب لم يشرع إلا بعد إعطاء الابن فرصة ثلاث سنوات يُدعَى ويرغَّب ويُثاب، وبعدها يكون الحزم والشدة والعقاب المناسب طبعًا، إشعارًا بالجدية، وأن الأمر موضع اهتمام الأب، وليس مجرد كلمة تقال، وليس بعدها حساب ولا ثواب ولا عقاب.
والضرب هنا وسيلة تمليها الضرورة، والضرورة تقدَّر بقدرها، فلا يكون بسوط ولا بخشبة، يؤلم ولا يجرح، وخيار الآباء لا يحتاجون إلى ضرب أولادهم، بل يربُّون بالأسوة والكلمة والموعظة الحسنة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لم يضرب بيده شيئًا قط، لا امرأة، ولا خادمًا ولا ولدًا، ولا حتى دابة.
وأحمد الله تعالى أني لم أضطر طول عمري أن أضرب ابنًا أو ابنة لي من أجل الصلاة. كنَّا نعوِّد الأولاد حين نربيهم: أن نحتفل بميلادهم حين يولدون، وهو مشروع إسلامي معروف: وفيه العقيقة، ثمَّ نحتفل بهم في سن السابعة سن الأمر بالصلاة، ونقدم لهم الهدية، ونصنع لهم الحفل، وفي سن العاشرة نحتفل بهم مرة أخرى ونقول: هذه سن الضرب. ثمَّ في سن الخامسة عشر نحتفل بالبلوغ، ونقول: هذه سن التكليف.
ثالثًا: العقل:
ولا تجب الصلاة على المجنون حتى يفيق للحديث: "وعن المجنون حتى يُفيق". والمعنى أنه غير مطالب بأدائها؛ لأنَّها لو وجبت عليه في حاله هذا لوجب عليه قضاءها، إذا تغيَّر حاله إلى العقل، ولم يقل أحد بأن المجنون، إذا أفاق يجب عليه قضاء ما فاته من الصلاة، فقد رفع القلم عنه كما جاء في الحديث.
وقيس عليه كل من زال عقله بسبب عذر فيه، كالمُغمى عليه، وخاصة الغيبوبة الطويلة التي عرفها الناس في عصرنا، والتي قد تمتد إلى شهر أو أشهر أو سنين! وخصوصًا مع أجهزة الإنعاش الصناعي، فهذه أشبه بحالة الجنون، الرافع للتكليف في حالة وجوده، وتكليف مغيَّب الوعي هنا بالقضاء فيه حرج عليه، وما جعل الله في الدين من حرج.
وأمَّا النائم، فتجب عليه الصلاة إذا استيقظ. والذي يرتفع عنه هو الإثم على تأخيرها فقط، لحديث أبي قتادة: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها".
رابعًا: الخلو من المانع الشرعي:
ولا تجب الصلاة على الحائض والنفساء، وهذا حكم ثابت بإجماع الأمة لا خلاف فيه، وهو من رحمة الله تعالى بالمرأة في هذه الحالة التي تشبه الحالة المرضيَّة، والتي تصيبها بتقلصات بدنية، ومؤثرات عصبية، وآلام جسدية، مع ما تشعر به من أذًى يلوِّثها، ويخرجها عن حالتها الطبيعية المعتادة، فلَطَفَ الله بها، وخفَّف عنها، وأسقط عنها أداء فرض الصلوات، ومنعها من أدائها، حتى لا يتطوَّع بعضهن ويقهرن أنفسهن ويصلين. وقد قال صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: "فإذا أقبلت حيضتُك فدعي الصلاة". وفي الصحيحين عن معاذة، أن امرأة قالت لعائشة: أتجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ فقالت: أحرورية أنت؟ "كنا نحيض مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به". أو قالت: فلا نفعله.
والعلماء وإن اتفقوا أن الحائض لا تقضي الصلاة فقد اختلفوا في مسألتين:
الأولى: أن تكون الحائض قد وجبت عليها إحدى صلوات الفريضة قبل حيضها، كأن يدخل عليها الظهر طاهرة، ولكنها لم تصلِّ مباشرة، فحاضت، فمنهم من يرى أنه لا يلزمها أن تقضي هذه الصلاة؛ لأنها لم تفرِّط؛ وذلك لأنه يجوز لها أن تؤخر الصلاة إلى آخر الوقت بدون حرج ولا إثم. ومنهم من يرى أنه يلزمها القضاء؛ لأنَّ الصلاة وجبت عليها في حال طُهرها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والأظهر في الدليل... أنها لا يلزمها شيء؛ لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولا أمرَ هنا يُلزمها بالقضاء؛ ولأنها أخَّرت تأخيرًا جائزًا فهي غير مفرِّطة».
المسألة الثانية: أن تطهُر المرأة ويرتفع حيضها في وقت صلاتي العصر، أو العشاء، فإنَّه في هذه الحالة تصلي الفريضتين الظهر والعصر، وإذا طهرت بعد العشاء، فإنها تصلي المغرب والعشاء، جاء هذا عن عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وعبد الله بن عباس، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد؛ لأنَّ وقت الثانية وقت للأولى حال العذر، فإن أدركه المعذور لزمه فرضها، كما يلزمه فرض الثانية. أما إذا طهرت في وقت الظهر، فإنها لا تجمع معه شيئًا، وكذلك لو طهرت في وقت المغرب.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب فقه الصلاة للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله) صص24-21