نشأة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) وحياته قبل الإسلام:
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الأولى
12 سبتمبر 2019
أولاً: اسمه، ونسبه، وكنيته، وألقابه:
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرَّة بن كعب ابن لؤي بن غالب القرشيُّ التيميُّ، ويلتقي مع النبي (ﷺ) في النَّسب في الجدِّ السَّادس مرَّة بن كعب، ويكنى بأبي بكر، وهي من البكر، وهو الفَتيُّ من الإِبل، والجمع بكارة، وأبكر، وقد سمَّتِ العرب بكراً، وهو أبو قبيلة عظيمة، ولُقِّب أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بألقابٍ عديدة، كلُّها تدلُّ على سموِّ المكانة، وعلوِّ المنزلةِ وشرف الحسبِ، منها:
1ـ العتيق:
لقَّبه به النبيُّ (ﷺ) ، فقد قال له (ﷺ) : «أنت عتيقُ اللهِ من النَّار». فسُمِّيَ عتيقاً، وفي رواية عائشة، قالت: دخل أبو بكرٍ الصِّدِّيق على رسول الله (ﷺ) ، فقال له رسول الله (ﷺ) : « أبشر فأنت عتيقُ اللهِ من النَّار »، فمن يومئذٍ سُمِّي عتيقاً، وقد ذكر المؤرخون أسباباً كثيرةً لهذا اللَّقب، فقد قيل: إنَّما سُمِّي عتيقاً لجَمال وجهه، وقيل: لأنَّه كان قديماً في
الخير، وقيل: سُمِّي عتيقاً، لعتاقة وجهه، وقيل: إنَّ أُمَّ أبي بكرٍ كان لا يعيش لها ولد، فلمَّا ولدته؛ استقبلت به الكعبة، وقالت: الّلهمَّ إنَّ هذا عتيقك من الموت، فهبه لي، ولا مانع للجمع بين بعض هذه الأقوال، فأبو بكر جميل الوجه، حسن النَّسب، صاحب يدٍ سابقة إلى الخير، وهو عتيق الله من النَّار بفضل بشارة النَّبيِّ (ﷺ) له.
2ـ الصِّدِّيق:
لقَّبه به النَّبيُّ (ﷺ) ؛ ففي حديث أنسٍ ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال: إنَّ النبيَّ (ﷺ) صعد أحداً، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فقال: « اثبت أحد، فإنَّما عليك نبيٌّ، وصدِّيقٌ، وشهيدان ».
وقد لُقِّب بالصِّدِّيق لكثرة تصديقه للنبيِّ (ﷺ) ، وفي هذا تروي أُمُّ المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ فتقول: لمّا أُسري بالنبيِّ (ﷺ) إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدَّثُ النَّاسُ بذلك، فارتدَّ ناسٌ، كانوا امنوا به، وصدَّقوه، وسعى رجالٌ إلى أبي بكرٍ، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أن أُسري به اللَّيلة إلى بيت المقدس! قال: وقد قال ذلك ؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك؛ فقد صدق . قالوا: أو تصدِّقه: أنَّه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح ؟! قال: نعم، إنِّي لأصدِّقه فيما هو أبعد من ذلك، أُصدِّقه بخبر السَّماء في غدوة، أو روحة، فلذلك سمِّي أبا بكرٍ: الصِّدِّيق.
وقد أجمعت الأمَّة على تسميته بالصدِّيق، لأنَّه بادر إلى تصديق الرسول (ﷺ) ، ولازمه الصِّدق فلم تقع منه هَنَةٌ أبداً، فقد اتَّصف بهذا اللَّقب، ومدحه الشُّعراء: قال أبو محجنٍ الثَّقفيُّ:
وسُمِّيتَ صدِّيقاً وكُلُّ مُهاجرٍ سواكَ يُسمَّى باسمه غير مُنْكر
سبقتَ إلى الإسلام واللهُ شاهِدٌ وكنتَ جليساً في العريش المُشَهَّرِ
وأنشد الأصمعيُّ، فقال:
ولكنِّي أحبُّ بكلِّ قلبي وأعلم أنَّ ذاك من الصواب
رسول اللهِ والصِّدِّيقَ حُبّاً به أرجو غداً حُسْنَ الثَّواب
3ـ الصَّاحب:
لَقَّبه به الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في القران الكريم: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [التوبة: 40] وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود هنا أبو بكر رضي الله عنه، فعن أنسٍ أنَّ أبا بكرٍ حدَّثه فقال: قلت للنبيِّ (ﷺ) وهو في الغار: لو أنَّ أحدهم نظر إلى قدميه؛ لأبصرنا تحت قدميه!! فقال النبيُّ (ﷺ) : «يا أبا بكر! ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثُهما ».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فإنَّ المرادَ بصاحبه هنا أبو بكر بلا منازع، والأحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرةٌ شهيرةٌ، ولم يَشْرَكْهُ في المنقبة غيره.
4ـ الأتقى:
لقَّبه به اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ في القران العظيم في قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *} [الليل: 17]. وسيأتي بيان ذلك في حديثنا عن المعذَّبين في الله الذين أعتقهم أبو بكر رضي الله عنه.
5ـ الأوَّاه:
لُقِّب أبو بكرٍ بالأوَّاه، وهو لقبٌ يدلُّ على الخوف، والوجل، والخشية من الله تعالى، فعن إبراهيم النَّخَعيِّ قال: كان أبو بكرٍ يُسمَّى بالأوّاه؛ لرأفته، ورحمته.
ثانياً: مولده، وصفته الخَلْقيَّة:
لم يختلف العلماء في أنَّه ولد بعد عام الفيل، وإنَّما اختلفوا في المدَّة التي كانت بعد عام الفيل، فبعضهم قال: بثلاث سنين، وبعضهم ذكر بأنَّه ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، واخرون قالوا: بسنتين وأشهر، ولم يحدِّدوا عدد الأشهر، وقد نشأ نشأةً كريمةً طيِّبةً في حضن أبوين لهما الكرامة، والعزُّ في قومهما، ممّا جعل أبا بكر ينشأ كريمَ النَّفْس، عزيز المكانة في قومه.
وأمَّا صفته الخَلْقيّة، فقد كان يوصف بالبياض في اللَّون، والنَّحافة في البدن، وفي هذا يقول قيس بن أبي حزم: دخلت على أبي بكرٍ، وكان رجلاً نحيفاً، خفيف اللَّحم، أبيض، وقد وصفه أصحاب السِّير من أفواه الرُّواة، فقالوا: إن أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ اتَّصف بأنَّه: كان أبيضَ، تخالطه صُفْرةٌ، حسن القامة، نحيفاً، خفيف العارضين، أجنا، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه رقيقاً، معروق الوجه، غائر العينينأقنى، حمش السَّاقين، ممحو الفخذين، وكان ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع، ويخضب لحيته وشيبه بالحنَّاء، والكَتم.
ثالثاً: أسرته:
أمَّا والده، فهو عثمان بن عامر بن عمرو، يكنى أبا قحافة، أسلم يوم الفتح، وأقبل به الصِّدِّيق على رسول الله (ﷺ) ، فقال: «يا أبا بكر! هلاَّ تركته؛ حتى نأتيه». فقال أبو بكر: هو أولى أن يأتيك يراسل الله! فأسلم أبو قحافة وبايع رسول الله (ﷺ) ، ويروى: أنَّ رسول الله (ﷺ) هنَّأ أبا بكرٍ بإسلام أبيه، وقال لأبي بكرٍ: « غيِّروا هذا من شعره » . فقد كان رأس أبي قحافة مثل الثَّغامة.
وفي هذا الخبر منهجٌ نبويٌّ كريمٌ سَنَّهُ النبيُّ (ﷺ) في توقير كبار السِّنِّ، واحترامهم، ويؤكِّد ذلك قوله (ﷺ) : «ليس منّا من لم يوقِّر كبيرنا ويرحمْ صغيرنا».
وأمَّا والدة الصدِّيق، فهي سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، وكنيتها أمُّ الخير أسلمت مبكِّراً، وسيأتي تفصيل ذلك في واقعة إلحاح أبي بكر على النبيِّ (ﷺ) على الظُّهور بمكَّة.
وأمَّا زوجاته؛ فقد تزوَّج ـ رضي الله عنه ـ من أربع نسوةٍ، أنجبن له ثلاثة ذكورٍ، وثلاث إناثٍ، وهنَّ على التَّوالي:
1ـ قتيلة بنت عبد العُزَّى بن أسعد بن جابر بن مالك:
اختُلف في إسلامها، وهي والدة عبد الله، وأسماء ـ وكان أبو بكر طلَّقها في الجاهلية ـ وقد جاءت بهدايا فيها أقطٌ، وسمنٌ إلى ابنتها أسماء بنت أبي بكر بالمدينة، فأبت أن تقبل هديَّتها، وتدخلها بيتها، فأرسلت إلى عائشة تسأل النبيَّ (ﷺ) ، فقال النبيُّ (ﷺ) : « لِتُدْخِلها، ولتقبل هديَّتها » . وأنزل الله عزَّ وجلَّ: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *} [الممتحنة: 8] أي: لا يمنعكم الله من البرِّ، والإحسان، وفعل الخير إلى الكفَّار الذين سالموكم، ولم يقاتلوكم في الدِّين، كالنِّساء، والضَّعفة منهم، كصلة الرَّحم، ونفع الجار، والضِّيافة، ولم يخرجوكم من دياركم، ولا يمنعكم أيضاً من أن تعدلوا فيما بينكم وبينهم، بأداء ما لهم من الحقِّ، كالوفاء لهم بالوعود،
وأداء الأمانة، وإيفاء أثمان المشتريات كاملةً غير منقوصةٍ، إنَّ الله يحب العادلين، ويرضى عنهم، ويمقت الظَّالمين، ويعاقبهم
2ـ أم رومان بنت عامر بن عومر:
من بني كنانة بن خزيمة، مات عنها زوجها الحارث بن سبرة بمكَّة، فتزوَّجها أبو بكرٍ، وأسلمت قديماً، وبايعت، وهاجرت إلى المدينة، وهي والدة عبد الرحمن، وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ، وتوفِّيت في عهد النبيِّ (ﷺ) بالمدينة سنة ستٍّ من الهجرة.
3ـ أسماء بنت عُمَيْس بن معبد بن الحارث:
أم عبد الله، من المهاجرات الأوائل، أسلمت قديماً قبل دخول دار الأرقم، وبايعت الرَّسول (ﷺ) ، وهاجر بها زوجها جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إلى الحبشة، ثمَّ هاجرت معه إلى المدينة، فاستشهد يوم مؤتة، وتزوَّجها الصِّدِّيق، فولدت له محمَّداً؛ روى عنها من الصَّحابة: عمر، وأبو موسى، وعبد الله بن عباسٍ، وأمُّ الفضل امرأة العبّاس، وكانت أكرم النَّاس أصهاراً، فمن أصهارها: رسول الله، وحمزة، والعبّاس، وغيرهم.
4ـ حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير:
الأنصاريَّة، الخزرجيَّة، وهي التي ولدت لأبي بكر أمَّ كلثوم بعد وفاته، وقد أقام عندها الصدِّيق بالسُّنح.
وأمّا أولاد أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فهم:
1ـ عبد الرحمن بن أبي بكر:
أسنُّ ولد أبي بكر: أسلم يوم الحديبية، وحسن إسلامه، وصحب رسول الله (ﷺ) ، وقد اشتهر بالشَّجاعة، وله مواقف محمودةٌ، ومشهودةٌ، بعد إسلامه.
2ـ عبد الله بن أبي بكر:
صاحب الدَّور العظيم في الهجرة، فقد كان يبقى في النَّهار بين أهل مكَّة، يسمع أخبارهم، ثمَّ يتسلَّل في الليل إلى الغار لينقل هذه الأخبار لرسول الله (ﷺ) ، وأبيه، فإذا جاء الصُّبح عاد إلى مكَّة، وقد أصيب بسهمٍ يوم الطّائف، فماطله حتّى مات شهيداً بالمدينة في خلافة الصدِّيق.
3ـ محمَّد بن أبي بكر:
أُمّه أسماء بنت عميس، ولد عام حجَّة الوداع، وكان من فتيان قريشٍ، عاش في حجر علي بن أبي طالب، وولاة مصر، وبها قتل.
4ـ أسماء بنت أبي بكر:
ذات النِّطاقين أسنُّ من عائشة، سمّاها رسول الله (ﷺ) ذات النِّطاقين، لأنَّها صنعت لرسول الله (ﷺ) ولأبيها سفرة لما هاجرا، فلم تجد ما تشدُّها به، فشقت نطاقها، وشدَّت به السُّفرة، فسمّاها النبيُّ (ﷺ) بذلك، وهي زوجة الزُّبير بن العوام، وهاجرت إلى المدينة؛ وهي حاملٌ بعبد الله بن الزبير، فولدته بعد الهجرة، فكان أوَّل مولودٍ في الإسلام بعد الهجرة، بلغت مئة سنةٍ، ولم ينكر من عقلها شيء، ولم يسقط لها سنٌّ، رُوِيَ لها عن الرسول (ﷺ) ستةٌ وخمسون حديثاً، روى عنها عبد الله بن عبّاس، وأبناؤها عبد الله، وعروة، وعبد الله بن أبي مُليكة وغيرهم، وكانت جوادةً منفقةً، توفيت بمكَّة سنة 73 هـ.
5ـ عائشة أمُّ المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ:
الصدِّيقةُ بنت الصِّدِّيق، تزوَّجها رسول الله (ﷺ) وهي بنت ستِّ سنين، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، وأعرس بها في شوال، وهي أعلم النِّساء، كنّاها رسول الله (ﷺ) أم عبد الله، وكان حبُّه لها مثالاً للزَّوجيَّة الصَّالحة.
كان الشَّعبيُّ يحدِّث عن مسروقٍ: أنَّه إذا تحدَّث عن أمِّ المؤمنين عائشة يقول: حدَّثتني الصدِّيقة بنت الصِّدِّيق، المبرأة، حبيبة حبيب الله (ﷺ) ، ومسندُها يبلغ ألفين ومئتين وعشرة أحاديث (2210) اتَّفق البخاريُّ، ومسلمٌ على مئةٍ وأربعةٍ وسبعين حديثاً، وانفرد البخاريُّ بأربعةٍ وخمسين، وانفرد مسلم بتسعةٍ وستِّين، وعاشت ثلاثاً وستِّين سنةً وأشهراً، وتوفيت سنة 57 هـ، ولا ذريَّة لها.
6ـ أم كلثوم بنت أبي بكرٍ:
أمُّها حبيبة بنت خارجة، قال أبو بكر لأمِّ المؤمنين عائشة حين حضرته الوفاة: إنما هما أخواكِ وأختاك. فقالت: هذه أسماء قد عرفتها فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة، قد ألقى في خلدي أنها جاريةٌ، فكانت كما قال، ووُلدت بعد موته، تزوَّجها طلحة بن عبيد الله وقتل عنها يوم الجمل، وحجَّت بها عائشة في عدَّتها فأخرجتها إلى مكَّة.
هذه هي أسرة الصِّدِّيق المباركة التي أكرمها الله بالإسلام، وقد اختصَّ بهذا الفضل أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ من بين الصَّحابة، وقد قال العلماء: لا يُعرف أربعةٌ متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله (ﷺ) ، إلا ال أبي بكر الصدِّيق وهم: عبد الله بن الزُّبير، أمُّه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون، وأيضاً محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهم.
وليس من الصَّحابة من أسلم أبوه، وأُمُّه وأولاده، وأدركوا النبيَّ (ﷺ) ، وأدركه أيضاً بنو أولاده: إلاّ أبو بكرٍ من جهة الرِّجال والنِّساء ـ وقد بينت ذلك ـ فكلهم امنوا بالنبيِّ، وصحبوه، فهذا بيت الصِّدِّيق، فأهله أهل إيمان، ليس فيهم منافقٌ، ولا يعرف في الصَّحابة مثل هذا لغير بيت أبي بكرٍ رضي الله عنهم.
وكان يقال: للإيمان بيوتٌ، وللنِّفاق بيوت، فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين، وبيت بني النَّجار من بيوت الإيمان من الأنصار.
رابعاً: الرَّصيد الخُلقي للصِّدِّيق في المجتمع الجاهلي:
كان أبو بكرٍ الصِّدِّيق في الجاهلية من وجهاء قريشٍ، وأشرافهم، وأحد رؤسائهم، وذلك أنَّ الشَّرف في قريشٍ قد انتهى قبل ظهور الإسلام إلى عشرة رهطٍ من عشرة أبطنٍ، فالعبّاس بن عبد المطلب من بني هاشم، وكان يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي له ذلك في الإسلام، وأبو سفيان بن حربٍ من بني أميَّة، وكان عنده العقاب راية قريش، فإذا لم تجتمع قريش على واحدٍ رأَّسوه هو، وقدموه، والحارث بن عامر بن بني نوفل، وكانت إليه الرِّفادة، وهي ما تخرجه قريش من أموالها، وترفد به منقطع السَّبيل، وعثمان بن طلحة بن زمعة بن الأسود من بني أسد، وكانت إليه المشورة، فلا يُجمع على أمر حتّى يعرضوه عليه، فإن وافق، ولاَّهم عليه، وإلا تخيَّر، وكانوا له أعواناً، وأبو بكرٍ الصدِّيق من بني تيم وكانت إليه الأشناق، وهي الدِّيات، والمغارم، فكان إذا حمل شيئاً، فسأل فيه قريشاً، صدَّقوه، وأمضوا حمالة مَنْ نهض معه، وإن احتملها غيره؛ خذلوه، وخالد بن الوليد من بني مخزومٍ، وكانت إليه القبَّة، واللاعنة، وأمّا القبّة فإنَّهم كانوا يضربونها، ثمَّ يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش، وأمّا اللاعنة فإنَّه كان على خيل قريش في الحرب، وعمر بن الخطّاب من بني عديٍّ، وكانت إليه السِّفارة في الجاهلية، وصفوان بن أميَّة من بني جمح، وكانت إليه الأزلام، والحارث بن قيس من بني سهم، وكانت إليه الحكومة، وأموالهم المحجرة التي سَمَّوها لآلهتهم.
لقد كان الصِّدِّيق في المجتمع الجاهلي شريفاً مِنْ أشراف قريشٍ، وكان مِنْ خيارهم، ويستعينون به فيما نابهم، وكانت له بمكَّة ضيافات لا يفعلها أحدٌ.وقد اشتهر بعدَّة أمورٍ، منها:
1ـ العلم بالأنساب:
فهو عالمٌ من علماء الأنساب، وأخبار العرب، وله في ذلك باعٌ طويلٌ، جعله أستاذ الكثير من النَّسَّابين، كعقيل بن أبي طالب، وغيره، وكانت له مزيَّةٌ حبَّبته إلى قلوب العرب وهي: أنَّه لم يكن يعيب الأنساب، ولا يذكر المثالب بخلاف غيره، فقد كان أنسب قريشٍ لقريشٍ، وأعلم قريشٍ بها، وبما فيها من خيرٍ، وشرٍّ، وفي هذا تروي عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أنَّ رسولَ الله (ﷺ) قال: « إنَّ أبا بكرٍ أعلمُ قريشٍ بأنسابها ».
2ـ تجارته:
كان في الجاهلية تاجراً، ودخل بُصرى من أرض الشام للتجارة، وارتحل بين البلدان، وكان رأسُ ماله أربعين ألف درهم، وكان ينفق من ماله بسخاءٍ، وكرمٍ عُرف به في الجاهلية.
3ـ موضع الألفة بين قومه وميل القلوب إليه:
فقد ذكر ابن إسحاق في «السيرة» أنهم كانوا يحبُّونه ويألفونه، ويعترفون له بالفضل العظيم، والخلق الكريم، وكانوا يأتونه ويألفونه لغير واحدٍ من الأمر: لعلمه، وتجارته،
وحسن مجالسته، وقد قال له ابن الضغنة حين لقيه مهاجراً: إنك لتزين العشيرة، وتعين على النَّوائب، وتكسب المعدوم، وتفعل المعروف.
وقد علَّق ابن حجر على قول ابن الضغنة فقال: ومن أعظم مناقبه أن ابن الضغنة سيِّد القارة لما رد عليه جواره بمكة، وصفه بنظير ما وصفت به خديجة النبيَّ (ﷺ) لمّا بعث، فتوارد فيها نعتٌ واحدٌ من غير أن يتواطأ على ذلك، وهذه غايةٌ في مدحه؛ لأنَّ صفات النبيِّ (ﷺ) منذ نشأ كانت أكمل الصِّفات.
4ـ لم يشرب الخمر في الجاهلية:
فقد كان أعفَّ الناسِ في الجاهلية؛ حتّى إنَّه حرَّم على نفسه الخمر قبل الإسلام، فقد قالت السيِّدَةُ عائشة ـ رضي الله عنها ـ: حرَّم أبو بكرٍ الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهليةٍ ولا في إسلامٍ، وذلك: أنَّه مرَّ برجلٍ سكران يضع يده في العذرة، ويدنيها من فيه، فإذا وجد ريحها صرفها عنه . فقال أبو بكرٍ: إنَّ هذا لا يدري ما يصنع، وهو يجد ريحها، فحماها، وفي روايةٍ لعائشة . . . ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهليَّة.
وقد أجاب الصدِّيق من سأله: هل شربت الخمر في الجاهلية؟ بقوله: أعوذ بالله! فقيل: ولم ؟ قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيِّعاً لعرضه، ومروءته.
5ـ ولم يسجد لصنمٍ:
ولم يسجد الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ لصنم قطُّ، قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في مجمعٍ من أصحاب رسول الله (ﷺ) : ما سجدتُ لصنمٍ قطُّ، وذلك أنِّي لمّا ناهزتُ الحلم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدعٍ فيه الأصنام، فقال لي: هذه الهتك الشُّمُّ العوالي، وخلاَّني، وذهب، فدنوتُ من الصَّنمِ، وقلتُ: إنِّي جائعٌ فأطعمني، فلم يُجبني، فقلتُ: إنِّي عارٍ فاكسني، فلم يُجبني، فألقيت عليه صخرةً، فخرَّ لوجهه. وهكذا حمله خُلُقه الحميد، وعقله النَّيِّر، وفطرته السَّليمة على الترفُّع عن كلِّ شيءٍ يخدش المروءة، وينقص الكرامة من أفعال الجاهليِّين، وأخلاقهم التي تجانب الفطرة السَّليمة، وتتنافى مع العقل الرَّاجح، والرُّجولة الصَّادقة، فلا عجب على من كانت هذه أخلاقه أن ينضمَّ لموكب دعوة الحقِّ، ويحتلَّ فيها الصَّدارة، ويكون بعد إسلامه أفضل رجلٍ بعد رسول الله (ﷺ) ، فقد قال (ﷺ) : «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا».
وقد علَّق الأستاذ رفيق العظم عن حياة الصِّدِّيق في الجاهلية، فقال: الّلهمَّ إن امرأً نشأ بين الأوثان حيث لا دين زاجرٌ، ولا شرع للنفوس قائدٌ، وهذا مكانه من الفضيلة، واستمساك بعرا العفَّة، والمروءة . . . لجديرٌ بأن يتلقَّى الإسلام بملء الفؤاد، ويكون أوَّل مؤمنٍ بهادي العباد، مبادرٍ بإسلامه لإرغام أنوف أهل الكبر، والعناد، ممهِّدٍ سبيل الاهتداء بدين الله القويم؛ الذي يجتث أصول الرذائل من نفوس المهتدين بهديه، المستمسكين بمتين سببه.
لله دَرُّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فقد كان يحمل رصيداً ضخماً من القيم الرَّفيعة، والأخلاق الحميدة، والسَّجايا الكريمة في المجتمع القرشيِّ قبل الإسلام، وقد شهد له أهلُ مكَّة بتقدُّمه على غيره في عالم الأخلاق، والقيم، والمثل، ولم يُعلم أحدٌ من قريشٍ عابَ أبا بكرٍ بعيبٍ، ولا نقصه، ولا استذله، كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين، ولم يكن له عندهم عيبٌ إلا الإيمان بالله، ورسوله.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf