دور أبي بكر الصديق في الدعوة الإسلامية في المجتمع المكي قبل الهجرة:
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثالثة
١٣ سبتمبر ٢٠١٩
أولاً: إنفاقه الأموال لتحرير المعذَّبين في الله
تضاعف أذى المشركين لرسول الله (ﷺ) ولأصحابه مع انتشار الدَّعوة في المجتمع المكِّيِّ الجاهليِّ، حتى وصل إلى ذروة العنف، وخاصَّة في معاملة المستضعفين من المسلمين، فنكَّلت بهم، لتفتنهم عن عقيدتهم، وإسلامهم، ولتجعلهم عبرةً لغيرهم، ولتنفِّس عن حقدها، وغضبها بما تصبُّه عليهم من العذاب.
وقد تعرَّض بلالٌ ـ رضي الله عنه ـ لعذابٍ عظيمٍ، ولم يكن لبلالٍ ـ رضي الله عنه ـ ظهرٌ يسنده، ولا عشيرةٌ تحميه، ولا سيوفٌ تذود عنه، ومثل هذا الإنسان في المجتمع الجاهليِّ المكيِّ يعادل رقماً من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم، ويطيع، ويباع، ويشترى كالسَّائمة، أمّا أن يكون له رأي، أو يكون صاحب فكرٍ، أو صاحب دعوةٍ، أو صاحب قضيَّةٍ، فهذه جريمةٌ شنعاء في المجتمع الجاهليِّ المكيِّ، تهزُّ أركانه، وتزلزل أقدامه، ولكنَّ الدَّعوة الجديدة، التي سارع لها الفتيان، وهم يتحدَّون تقاليد، وأعراف ابائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرميِّ المنسيِّ، فأخرجته إنساناً جديداً في الحياة، قد تفجَّرت معاني الإيمان في أعماقه بعد أن امن بهذا الدِّين، وانضم إلى محمَّدٍ (ﷺ)، وإخوانه في موكب الإيمان العظيم، وعندما علم سيِّده أميَّة بن خلفٍ؛ راح يهدِّده تارةً، ويغريه أطواراً، فما وجد عند بلال غير العزيمة، وعدم الاستعداد للعودة إلى الوراء إلى الكفر، والجاهليَّة، والضَّلال، فحنِق عليه أميَّة، وقرَّر أن يعذِّبه عذاباً شديداً، فأخرجه إلى شمس الظَّهيرة في الصَّحراء بعد أن منع عنه الطَّعام، والشَّراب يوماً، وليلةً، ثمَّ ألقاه على ظهره فوق الرِّمال المحرقة الملتهبة، ثم أمر غلمانه، فحملوا صخرةً عظيمةً، وضعوها فوق صدر بلال، وهو مقيَّد اليدين، ثمَّ قال له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمدٍ، وتعبد اللاَّت والعزَّى، وأجاب بلالٌ بكلِّ صبرٍ وثبات: أحدٌ، أحدٌ . وبقي أميَّة بن خلف مدَّةً، وهو يعذِّب بلالاً بتلك الطريقة البشعة، فقصد الصِّدِّيق موقع التَّعذيب، وفاوض أميَّة بن خلفٍ، وقال له: (ألا تتَّقي الله في هذا المسكين ؟ حتى متى! قال: أنت أفسدته، فأنقذه ممّا ترى، فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلامٌ أسود أجلدُ منه، وأقوى على دينك أعطيك به، قال: قد قبلت، فقال: هو لك، فأعطاه أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه)، وفي روايةٍ: اشتراه بسبع أواقٍ، أو بأربعين أوقيَّةً ذهباً.
ما أصبر بلالاً، وما أصلبه رضي الله عنه! فقد كان صادق الإسلام، طاهر القلب، ولذلك صَلُب، ولم تَلِن قناته أمام التَّحدِّيات، وأمام صنوف العذاب، وكان صبره وثباته ممّا يغيظهم، ويزيد حنقَهم، خاصَّةً: أنَّه كان الرَّجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على الإسلام، فلم يواتد الكفار فيما يريدون، مردِّداً كلمة التَّوحيد بتحدٍّ صارخٍ، وهانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه.
وبعد كل محنةٍ منحةٌ، فقد تخلَّص بلالٌ من العذاب، والنَّكال، وتخلَّص من أسر العبودية، وعاش مع رسول الله بقيَّة حياته ملازماً له، ومات راضياً عنه.
واستمرَّ الصِّدِّيق في سياسة فكِّ رقاب المسلمين المعذَّبين، وأصبح هذا المنهج من ضمن الخطَّة التي تبنَّتها القيادة الإسلاميَّة لمقاومة التَّعذيب؛ الذي نزل بالمستضعفين، فدعم الدَّعوة بالمال، والرِّجال، والأفراد، فراح يشتري العبيد، والإماء المملوكين من المؤمنين والمؤمنات؛ منهم عامر بن فهيرة شهد بدراً، وأحداً، وقُتل يوم بئر معونة شهيداً، وأُمُّ عبيس، وزنيره، وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللاَّت والعزَّى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضرُّ اللاَّت والعزَّى، وما تنفعان، فردَّ اللهُ بصرها. وأعتق النَّهديَّة، وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدَّار، مرَّ بهما وقد بعثتهما سيِّدتهما بطحينٍ لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبداً! فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ حِلَّيا أُمَّ فلان، فقالت: حلَّ أنت، أفسدتهما، فأعتقهما، قال: فبكم هما ؟ قالت: بكذا وكذا . قال: قد أخذتهما، وهما حرَّتان، أَرجعا إليها طحينها . قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نردُّه إليها ؟ قال: وذلك إن شئتما.
وهنا وقفة تأمُّلٍ ترينا كيف سوَّى الإسلام بين الصِّدِّيق والجاريتين حتى خاطبتاه خطاب الندِّ للندِّ، لا خطاب المسود للسيِّد، وتقبَّل الصديق ـ على شرفه وجلالته في الجاهلية والإسلام ـ منهما ذلك، مع أنَّه له يدٌ عليهما بالعتق، وكيف صقل الإسلام الجاريتين، حتَّى تخلَّقتا بهذا الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم أن تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرِّياح، أو يأكله الحيوان والطير، ولكنهما أبتا ـ تفضلاً ـ إلاّ أن تفرغا منه، وتردَّاه إليها.
ومرَّ الصِّدِّيق بجارية بني مُؤَمَّلٍ ـ حي من بني عديِّ بن كعبٍ ـ وكانت مسلمةً، وعمر بن الخطاب يعذِّبها لتترك الإسلام، وهو يومئذٍ مشرك يضربها، حتى إذا ملَّ؛ قال: إني أعتذر إليك أنِّي لم أتركك إلا عن ملالةٍ، لتقول: كذلك فعل الله بك. فابتاعها أبو بكرٍ فأعتقها.
هكذا كان واهب الحريات، ومحرِّر العبيد، شيخ الإسلام الوقور؛ الذي عُرف بين قومه بأنَّه يكسب المعدوم، ويصل الرَّحم، ويحمل الكلّ، ويقري الضَّيف، ويُعين على نوائب الحقِّ، ولم ينغمس في إثم في جاهليته، أليفٌ مألوفٌ، يسيل قلبه رقَّةً، ورحمةً على الضُّعفاء، والأرِقَّاء، أنفق جزءاً كبيراً من ماله في شراء العبيد، وعتقهم لله، وفي الله، قبل أن تنزل التَّشريعات الإسلاميَّة المحبِّبة في العتق، والواعدة عليه أجزل الثَّواب.
كان المجتمع المكيُّ يتندَّر بأبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ الذي يبذل هذا المال كلَّه لهؤلاء المستضعفين، أمَّا في نظر الصِّدِّيق؛ فهؤلاء إخوانه في الدِّين الجديد، فكلُّ واحدٍ من هؤلاء لا يساويه عنده مشركو الأرض، وطغماتها، وبهذه العناصر وغيرها تُبنى دولة التوحيد، وتصنع حضارة الإسلام الرَّائعة. ولم يكن الصِّدِّيق يقصد بعمله هذا مَحْمَدَةً، ولا جاهاً، ولا دُنْيا، وإنَّما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام، لقد قال له أبوه ذات يومٍ: يا بني! إنِّي أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنَّك إذ فعلت، أعتقت رجالاً جلداً يمنعوك، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: يا أبتِ إنِّي إنَّما أريد ما أريد لله عزَّ وجلَّ. فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصِّدِّيق قراناً يُتلى إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى *إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى *فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى *لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى *الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى *وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *وَمَا لأَِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *وَلَسَوْفَ يَرْضَى *} [الليل: 5 ـ 21] .
لقد كان الصِّدِّيق من أعظم الناس إنفاقاً لماله فيما يرضي الله، ورسوله.
كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة الإسلاميَّة الأولى قمَّةً من قمم الخير، والعطاء، وأصبح هؤلاء العبيد بالإسلام أصحاب عقيدةٍ، وفكرةٍ، يناقشون بها، وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، وكان إقدام أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ على شرائهم ثمَّ عتقهم دليلاً على عظمة هذا الدِّين، ومدى تغلغله في نفسيَّة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحيوا هذا المثل الرَّفيع، والمشاعر السَّامية؛ ليتمَّ التَّلاحم، والتَّعايش، والتَّعاضد بين أبناء الأمَّة؛ التي يتعرَّض أبناؤها للإبادة الشاملة من قبل أعداء العقيدة، والدِّين .
ثانيا: هجرته الأولى وموقف ابن الضغنة منها
قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: لم أعقل أبويَّ قطُّ إلا وهما يدينان الدِّين، ولم يمرَّ علينا يوم إلاَّ يأتينا فيه رسول الله (ﷺ) طرفي النَّهار: بكرةً، وعشيَّةً، فلمّا ابتلي المسلمون؛ خرج أبو بكرٍ مهاجراً نحو أرض الحبشة حتّى برك الغماد، لقيه ابن الضغنة ـ وهو سيِّد القارةـ فقال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربِّي، قال ابن الضغنة: فإنَّ مثلك يا أبا بكر! لا يَخْرُج، ولا يُخْرَج، إنَّك تكسب المعدوم، وتصل الرَّحم، وتحمل الكَلّ، وتَقْري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. فأنا لك جارٌ، ارجع، واعبد ربك ببلدك. فرجع، وارتحل معه ابن الضغنة، فطاف ابن الضغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إنَّ أبا بكرٍ لا يَخرج مثله، ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرَّحم، ويحمل الكلّ، ويقري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟ فلم تكذِّب قريش بجوار ابن الضغنة، وقالوا لابن الضغنة: مر أبا بكرٍ فليعبد ربه في داره، فليصلِّ فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنّا نخشى أن يفتن نساءنا، وأبناءنا. فقال ذلك ابن الضغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره. ثمَّ بدا لأبي بكرٍ، فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلِّي فيه، ويقرأ القران، فتقذف عليه نساء المشركين، وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكرٍ رجلاً بكّاءً لا يملك عينه إذا قرأ القران، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الضغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنّا كنا أجرنا أبا بكرٍ بجوارك على أن يعبد ربَّه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصَّلاة، والقراءة فيه، وإنّا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانْهَهُ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربَّه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك؛ فسله أن يردَّ إليك ذمَّته، فإنّا قد كرهنا أن نُخْفِركَ، ولسنا بمقرِّين لأبي بكرٍ الاستعلاء .
قالت عائشة: فأتى ابن الضغنة إلى أبي بكرٍ، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإمّا أن تقتصر على ذلك، وإمّا أن تُرجع إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أنِّي أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكرٍ: فإنِّي أردُّ إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عزَّ وجل.
وحين خرج من جوار ابن الضغنة، يعني أبا بكر، لقيه سفيهٌ من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه تراباً، فمرَّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة ـ أو العاص بن وائل ـ فقال له أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: ألا ترى ما يصنع هذا السَّفيه؟ فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك، وهو يقول: أَي ربِّي ما أحلمك! أي ربِّي ما أحلمك! أي ربِّي ما أحلمك! وفي هذه القصَّة دروسٌ وعبرٌ كثيرةٌ منها:
1ـ كان أبو بكرٍ في عزٍّ من قومه قبل بعثة محمَّدٍ (ﷺ)، فهاوه ابن الضغنة يقول له: مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج مثله، إنَّك تكسب المعدوم، وتصل الرَّحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فأبو بكرٍ لم يدخل في دين الله طلباً لجاهٍ، أو سلطانٍ، وما دفعه إلى ذلك إلاَّ حبُّ اللهِ، ورسولِه (ﷺ)، مِمَّا يترتَّب على ذلك من ابتلاءات؛ أي: أنَّه لم يكن له تطلُّعات سوى مرضاة الله تعالى، إنَّه يريد أن يفارق الأهل، والوطن، والعشيرة؛ ليعبد ربَّه، لأنَّه حيل بينه وبين ذلكَ في وطنه.
2ـ إنَّ زاد الصِّدِّيق في دعوته القران الكريم، ولذلك اهتمَّ بحفظه، وفهمه، وفقهه، والعمل به، وأكسبه الاهتمام بالقران الكريم براعةً في تبليغ الدَّعوة، وروعةً في الأسلوب، وعمقاً في الأفكار، وتسلسلاً عقليّاً في عرض الموضوع الذي يدعو إليه، ومراعاةً لأحوال السَّامعين، وقوةً في البرهان، والدَّليل.
وكان الصِّدِّيق يتأثَّر بالقران الكريم، ويبكي عند تلاوته، وهذا يدلُّ على رسوخ يقينه، وقوَّة حضور قلبه مع الله عزَّ وجلَّ، ومع معاني الآيات التي يتلوها. والبكاء مبعثه قوَّة التأثير إمّا بحزنٍ شديدٍ، أو فرحٍ غامرٍ، والمؤمن الحقُّ يظلُّ بين الفرح بهداية الله تعالى إلى الصِّراط المستقيم، والإشفاق من الانحراف قليلاً عن هذا الصراط، وإذا كان صاحب إحساسٍ حيٍّ، وفكرٍ يقظٍ كأبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فإنَّ هذا القران يذكِّرُ بالحياة الآخرة وما فيها من حسابٍ، وعقابٍ، أو ثوابٍ، فيظهر أثر ذلك في خشوع الجسم، وانسكاب العبرات، وهذا المظهر يؤثر كثيراً على مَنْ شاهده، ولذلك فزع المشركون من مظهر أبي بكرٍ المؤثر، وخَشوا على نسائهم، وأبنائهم أن يتأثَّروا به، فيدخلوا في الإسلام.
لقد تربّى الصِّدِّيق على يدي رسول الله (ﷺ)، وحفظ كتاب الله تعالى، وعمل به في حياته، وتأمَّل فيه كثيراً، وكان لا يتحدَّث بغير علمٍ، فعندما سئل عن ايةٍ لا يعرفها أجاب بقوله: أيُّ أرضٍ تسعني، أو أيُّ سماءٍ تُظِلُّني إذا قلت في كتاب الله ما لم يُرد الله. ومن أقواله التي تدلُّ على تدبُّره، وتفكُّره في القران الكريم قوله: إنَّ الله ذكر أهل الجنَّة، فذكرهم بأحسن أعمالهم، وغفر لهم سيئتها، فيقول الرَّجل: أين أنا مِنْ هؤلاء؟! يعني: حسنها، فيقول قائلٌ: لست من هؤلاء؛ يعني: وهو منهم.
وكان يسأل رسول الله (ﷺ) فيما استشكل عليه بأدبٍ، وتقديرٍ، واحترامٍ، فلمّا نزل قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا *} [النساء: 123] قال أبو بكر: يراسل الله! قد جاءت قاصمة الظَّهر، وأيُّنا لم يعمل سوءاً؟ فقال: «يا أبا بكر! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك الألواء؟ فذلك ممّا تجزون به ».
وقد فسَّر الصِّدِّيق بعض الآيات مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *} [فصلت: 30] قال فيها: فلم يلتفتوا عنه يمنةً ولا يسرةً، فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه، لا بالحبِّ، ولا بالخوف، ولا بالرَّجاء، ولا بالسؤال، ولا بالتوكُّل عليه، بل لا يحبُّون إلا الله، ولا يحبون معه أنداداً، ولا يحبُّون إلا إياه، لا لطلب منفعة، ولا لدفع مضرَّة، ولا يخافون غيره كائناً مَنْ كان، ولا يسألون غيره، ولا يتشرَّفون بقلوبهم إلى غيره، وغير ذلك من الآيات .
إنَّ الدُّعاة إلى الله عليهم أن يكونوا في صحبةٍ مستمرةٍ للقران الكريم، يقرؤونه ويتدبَّرونه، ويستخرجون كنوزه، ومعارفه للناس، وأن يظهروا للناس ما في القران من إعجازٍ بيانيٍّ، وعلميٍّ، وتشريعيٍّ، وما فيه من سبل إنقاذ الإنسانيَّة المعذَّبة من ماسيها، وحروبها، بأسلوبٍ يناسب العصر، ويكافئ ما وصل إليه الناس من تقدُّمٍ في وسائل الدَّعوة، والدِّعاية، ولقد أدرك أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ كيف تكون قراءة القران الكريم في المسجد على ملأٍ من قريش وسيلةً مؤثِّرةً من وسائل الدعوة إلى الله.
ثالثا: بين قبائل العرب في الأسواق
قد علمنا: أنَّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كان عالماً بالأنساب، وله فيها الباع الطَّويل، قال السُّيوطيُّ ـ رحمه الله تعالى ـ: رأيت بخطِّ الحافظ الذَّهبيِّ ـ رحمه الله ـ مَنْ كان فرد زمانه في فنِّه . . . أبو بكر في النَّسب، ولذلك استخدم الصِّدِّيق هذا العلم الفيّاض وسيلةً من وسائل الدَّعوة؛ ليعلم كلُّ ذي خبرةٍ كيف يستطيع أن يسخِّر ذلك في سبيل الله، وعلى اختلاف التخصُّصات، وألوان المعرفة، سواءٌ كان علمه نظرياً، أو تجريبياً، أو كان ذا مهنةٍ مهمَّةٍ في حياة الناس، وسوف نرى الصِّدِّيق يصحب رسول الله (ﷺ) عندما عرض نفسه على قبائل العرب، ودعاهم إلى الله، كيف وظَّف هذا العلم لدعوة الله، فقد كان الصِّدِّيق خطيباً مفوَّهاً له القدرة على توصيل المعاني بأحسن الألفاظ، وكان رضي الله عنه يخطب عن النبيِّ (ﷺ) في حضوره، وغيبته، فكان النبيُّ (ﷺ) إذا خرج في الموسم يدعو (أي أبو بكر) الناس إلى متابعة كلامه تمهيداً، وتوطئةً لما يبلغ الرَّسول، معونة له، لا تقدّماً بين يدي الله ورسوله.
وكان علمه في النَّسب، ومعرفة أصول القبائل مساعداً له على التَّعامل معها، فعن عليِّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: لمّا أمر الله عزَّ وجل نبيَّه (ﷺ) أن يعرض نفسه على قبائل العرب؛ خرج؛ وأنا معه ... إلى أن قال: ثمَّ دفعنا إلى مجلسٍ اخر عليه السَّكينة، والوقار، فتقدَّم أبو بكرٍ، فسلَّم، فقال: من القوم ؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله (ﷺ) وقال: بأبي أنت وأمِّي، ليس وراء هؤلاء عذرٌ من قومهم، وهؤلاء غرر الناس، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنَّى بن حارثة، والنُّعمان بن شريك، وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم لساناً، وجمالاً، وكان له غديرتان تسقطان على تريبته، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم ؟ فقال مفروق: إنّا لا نزيد على الألف، ولن تغلب الألف من قلَّة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنّا لأشدُّ ما نكون غضباً حين نلقى، وأشدُّ ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنّا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسِّلاح على اللِّقاح، والنَّصر من عند الله يديلنا مرَّة ويديل علينا أخرى، لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أن رسول الله (ﷺ) فها هو ذا. فقال مفروق: إلامَ تدعونا يا أخا قريش؟! فقال رسول الله (ﷺ): «أدعوكم إلى شهادة أن لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له، وأنِّي عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني، وتنصروني فإن قريشاً قد تظاهرت على الله، وكذَّبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد». فقال مفروق: وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش! فوالله ما سمعت كلاماً أحسن من هذا؟ فتلا رسول الله (ﷺ) قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وصآكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *} [الأنعام: 151].
فقال مفروق: دعوتَ والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قومٌ كذَّبوك، وظاهروا عليك، ثمَّ ردَّ الأمر إلى هانئ بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! وإنِّي أرى أنَّ تركنا ديننا، واتِّباعنا دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أوَّلٌ ولا اخرٌ لَذُلٌّ في الرأي، وقلَّة نظرٍ في العاقبة، إنَّ الزَّلَّة مع العجلة، وإنّا نكره أن نعقد على من وراءنا عقداً، ولكن نرجع، وترجع، وننظر، ثمَّ كأنه أحبَّ أن يشركه المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا، وصاحب حربنا، فقال المثنى ـ وأسلم بعد ذلك ـ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش! والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا، ومتابعتنا دينك، وإنّا إنّما نزلنا بين صيرني، أحدهما اليمامة، والأخرى السمامة، فقال رسول الله (ﷺ): «وما هذان الصَّيِّران؟». فقال له: أمّا أحدُهما؛ فطفوف البرِّ، وأرض العرب، وأمّا الآخر، فأرض فارس، وأنهار كسرى، وإنّما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا كسرى ألا نحدث حدثاً، ولا نُؤوي محدِثاً، ولعلَّ هذا الأمر الذي تدعونا إليه ممّا تكرهه الملوك، فأمّا ما كان ممّا يلي بلاد العرب، فذنب صاحبه مغفورٌ، وعذره مقبولٌ، وأمّا ما كان يلي بلادَ فارس؛ فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، فإن أردت أن ننصرك مما يلي العرب؛ فعلنا.
فقال رسول الله (ﷺ): «ما أسأتم في الرَّدِّ؛ إذ أفصحتم بالصِّدق، وإنَّ دينَ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتّى يورِّثكم الله تعالى أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءَهم، أتسبحون الله، وتقدِّسونه؟». فقال له النُّعمان بن شريك: اللَّهم فلك ذاك! .وفي هذا الخبر دروسٌ، وعبرٌ، وفوائد كثيرةٌ منها:
1ـ ملازمة الصِّدِّيق لرسول الله (ﷺ)، وهذا جعله يفهم الإسلام بشموله، وهيَّأه الله تعالى بأن يصبح أعلم الصَّحابة بدين الله، فقد تعلَّم من رسول الله (ﷺ) حقيقة الإسلام وتربَّى على يديه في معرفة معانيه، فاستوعب طبيعة الدَّعوة، ومرَّ بمراحلها المتعدِّدة، واستفاد من صحبته لرسول الله (ﷺ)، وتشرَّب المنهج الرَّبانيَّ، فعرف المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ من خلاله، وطبيعة الحياة، وحقيقة الكون، وسرَّ الوجود، وماذا بعد الموت، ومفهوم القضاء والقدر، وقصَّة الشيطان مع ادم عليه السلام، وحقيقة الصِّراع بين الحقِّ والباطل، والهُدى والضلال، والإيمان والكفر، وحُبِّبت إليه العبادات، كقيام الليل، وذكر الله، وتلاوة القران، فسمت أخلاقه، وتطهَّرت نفسه، وزكت روحه .
2ـ وفي رفقته لرسول الله (ﷺ) عندما كان (ﷺ) يدعو القبائل للإسلام استفاد الكثير، فقد عرف: أنَّ النُّصرة التي كان يطلبها رسول الله (ﷺ) لدعوته من زعماء القبائل أن يكون أهل النُّصرة غير مرتبطين بمعاهداتٍ دوليَّةٍ تتناقض مع الدَّعوةِ ولا يستطيعون التحرُّر منها، وذلك لأنَّ احتضانهم للدَّعوة والحالة هذه يُعرِّضها لخطر القضاء عليها من قبل الدُّول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدَّعوة الإسلاميَّة خطراً عليها، وتهديداً لمصالحها.
إنَّ الحماية المشروطة، أو الجزئيَّة لا تحقِّق الهدف المقصود، فلن يخوض بنو شيبان حرباً ضدَّ كسرى لو أراد القبض على رسول الله (ﷺ) وتسليمه، ولن يخوضوا حرباً ضدَّ كسرى لو أراد مهاجمة رسول الله (ﷺ) وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات.
3ـ «إنَّ دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه» كان هذا الردُّ من النبيِّ (ﷺ) على المثنى بن حارثة، حيث عرض على النبيِّ حمايته على مياه العرب، دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة يرى بعد النَّظر الإسلاميِّ النبوي الذي لا يُسامى.
4ـ كان موقف بني شيبان يتَّسم بالأريحيَّة، والخلق، والرُّجولة، وينمُّ عن تعظيم هذا النبي (ﷺ)، وعن وضوحٍ في العرض، وتحديد مدى قدرة الحماية التي يملكونها، وقد بيَّنوا: أنَّ أمر الدَّعوة ممَّا تكرهه الملوك، وقدَّر الله لشيبان بعد عشر سنوات، أو تزيد أن تحمل هي ابتداءً عبء مواجهة الملوك، بعد أن أشرق قلبها بنور الإسلام، وكان المثنى بن حارثة الشَّيبانيُّ صاحب حربهم، وبطلهم المغوار الذي كان من ضمن قادة الفتوح في خلافة الصِّدِّيق، فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد إسلامهم على قتال الفرس، بينما كانوا في جاهليَّتهم يرهبون الفرس، ولا يفكِّرون في قتالهم، بل إنَّهم ردُّوا دعوة النبيِّ (ﷺ) بعد قناعتهم بها لاحتمال أنْ تلجئهم إلى قتال الفرس، الأمر الذي لم يكونوا يفكِّرون به أبداً، وبهذا نعلم عظمة هذا الدِّين؛ الذي رفع الله به المسلمين في الدنيا، حيث جعلهم سادة الأرض مع ما ينتظرون في أخراهم من النَّعيم الدائم في جنات النعيم.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، رابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf