جندية أبي بكر الصديق أثناء الهجرة:
التخطيط والإستعدادات:
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الخامسة
أولا: فقه النبيِّ (ﷺ) والصدِّيق في التخطيط والأخذ بالأسباب:
إنَّ من تأمَّل حادثة الهجرة، ورأى دقَّة التَّخطيط فيها، ودقَّة الأخذ بالأسباب من ابتدائها، ومن مقدِّماتها إلى ما جرى بعدها، يدركْ: أنَّ التَّخطيط المسدَّد بالوحي في حياة رسول الله (ﷺ) كان قائماً، وأنَّ التخطيط جزءٌ من السُّنَّة النبويَّة، وهو جزءٌ من التَّكليف الإلـهي في كلِّ ما طولب به المسلم، وأنَّ الذين يميلون إلى العفوية بحجَّة: أن التَّخطيط، وإحكام الأمور ليسا من السُّنَّة، أمثال هؤلاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين.
فعندما حان وقت الهجرة للنبيِّ (ﷺ) في التَّنفيذ نلاحظ الآتي:
أـ وجود التَّنظيم الدَّقيق للهجرة حتّى نجحت رغم ما كان يكتنفها من صعابٍ، وعقباتٍ، وذلك: أنَّ كُلَّ أمرٍ من أمور الهجرة كان مدروساً دراسةً وافيةً، فمثلاً:
1ـ جاء (ﷺ) إلى بيت أبي بكرٍ في وقت شدَّة الحرِّ؛ الوقت الذي لا يخرج فيه أحدٌ، بل من عادته لم يكن يأتي له، لماذا؟ حتّى لا يراه أحد.
2ـ إخفاء شخصيته (ﷺ) أثناء مجيئه للصدِّيق، جاء إلى بيت الصِّدِّيق متلثِّماً؛ لأنَّ التلعثم يقلِّل من إمكانية التَّعرُّف على معالم الوجه المتلثِّم.
3ـ أمر (ﷺ) أبا بكر أن يُخرجَ مَنْ عنده، ولما تكلَّم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتِّجاه.
4ـ وكان الخروج ليلاً، ومن بابٍ خلفيٍّ في بيت أبي بكرٍ.
5ـ بلغ الاحتياط مداه باتخاذ طرقٍ غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصَّحراء، وكان ذلك الخبير مشركاً ما دام على خلقٍ ورزانةٍ. وفيه دليلٌ على أنَّ الرسول (ﷺ) كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها.
وقد بيَّن الشَّيخ عبد الكريم زيدان: أنَّ القاعدة، والأصل عدم الاستعانة بغير المسلم في الأمور العامَّة، ولهذه القاعدة استثناءٌ، وهو جواز الاستعانة بغير المسلم بشروطٍ معيَّنةٍ، وهي: تحقُّق المصلحة، أو رجحانها بهذه الاستعانة، وألا يكون ذلك على حساب الدَّعوة، ومعانيها، وأن يتحقَّق الوثوق الكافي بمن يستعان به، وألاَّ تكون هذه الاستعانة مثار شبهةٍ لأفراد المسلمين، وأن تكون هناك حاجةٌ حقيقيَّة لهذه الاستعانة على وجه الاستثناء، وإذا لم تتحقَّق؛ لم تجز الاستعانة، وقد كان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قد دعا أولاده للإسلام، ونجح بفضل الله في هذا الدَّور الكبير والخطير، وقام بتوظيف أسرته لخدمة الإسلام، ونجاح هجرة رسول الله (ﷺ)، فوزَّع بين أولاده المهامَّ الخطيرة في مجال التَّنفيذ العمليِّ لخطَّة الهجرة المباركة:
1ـ دور عبد الله بن أبي بكرٍ رضي الله عنهما:
فقد قام بدور صاحب المخابرات الصادق، وكشف تحرُّكات العدوِّ، لقد رُبِّيَ عبد الله على حبِّ دينه، والعمل لنصرته ببصيرةٍ نافذةٍ، وفطنةٍ كاملةٍ، وذكاءٍ متوقِّدٍ، يدلُّ على العناية الفائقة التي اتَّبعها سيدنا أبو بكرٍ في تربيته، وقد رسم له أبوه دوره في الهجرة، فقام به خير قيام، وكان يمتثل في التَّنقُّل بين مجالس أهل مكَّة، يستمع أخبارهم، وما يقولونه في نهارهم، ثُمَّ يأتي الغار إذا أمسى، فيحكي للنبيِّ (ﷺ) ولأبيه الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ ما يدور بعقول أهل مكَّة، وما يدبِّرونه، وقد أتقن عبد الله هذا الواجب بطريقةٍ رائعةٍ، فلم تأخذ واحداً من أهل مكَّة ريبةٌ فيه، وكان يبيت عند الغار حارساً حتّى إذا اقترب النَّهار عاد إلى مكَّةَ، فما شعر به أحدٌ.
2ـ دور عائشة، وأسماء رضي الله عنهما:
كان لأسماء، وعائشة دور عظيمٌ أظهر فوائد التَّربية الصَّحيحة، حيث قامتا عند قدوم النبيِّ (ﷺ) إلى بيت أبي بكرٍ ليلة الهجرة بتجهيز طعامٍ للنبيِّ (ﷺ)، ولأبيهما: تقول أمُّ المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ: فجهَّزناهما ـ تقصد رسول الله (ﷺ) وأباها ـ أحسن الجهاز فصنعنا لهما سفرةً في جراب، فقطعت أسماء قطعةً من نطاقها فربطت به على فم الجراب؛ فلذلك سمِّيت ذات النِّطاقين.
3ـ دور أسماء في تحمل الأذى، وإخفاء أسرار المسلمين:
أظهرت أسماء ـ رضي الله عنها ـ دور المسلمة الفاهمة لدينها، المحافظة على أسرار الدَّعوة، المتحمِّلة لتوابع ذلك من الأذى، والتَّعنُّت، فهذه أسماء تحدِّثنا بنفسها حيث تقول: لمّا خرج رسول الله (ﷺ)، وأبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ أتانا نفرٌ من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكرٍ، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكرٍ؟ قلتُ: لا أدري والله أين أبي ؟ قالت: فرفع أبو جهلٍ يده ـ وكان فاحشاً خبيثاً ـ فلطم خدِّي لطمةً طرح منها قرطي، قالت: ثمَّ انصرفوا.
فهذا درسٌ من أسماء ـ رضي الله عنها ـ تعلِّمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيلٍ، كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدةً شامخةً أمام قوى البغي والظُّلم؟
4ـ دور أسماء رضي الله عنها في بثِّ الأمان؛ والطمأنينة في البيت:
خرج أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ مع رسول الله (ﷺ) ومعه ماله كلُّه، وهو ما تبقى من رأسماله ـ وكان خمسة الاف، أو ستة الاف درهم ـ وجاء أبو قحافة ليتفقَّد بيت ابنه، ويطمئنَّ على أولاده، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه! قالت: كلا يا أبت! إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت: فأخذتُ أحجاراً، فوضعتها في كُوَّةٍ في البيت كان أبي يضع ماله فيها، ثمَّ وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلتُ: يا أبتِ ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغٌ لكم. لا والله ما ترك لنا شيئاً! ولكنِّي أردتُ أنْ أسكِّن الشَّيخ بذلك.
وبهذه الفطنة، والحكمة سترت أسماء أباها، وسكَّنت قلب جدِّها الضَّرير، من غير أن تكذب، فإنَّ أباها قد ترك لهم حقّاً هذه الأحجار التي كوَّمتها لتطمئنَّ لها نفس الشيخ، إلا أنَّه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحرِّكه العواصف الهوج، ولا يتأثَّر بقلَّةٍ، أو كثرةٍ في المال، وورَّثهم يقيناً، وثقةً به لا حدَّ لهما، وغرس فيهم همَّةً تتعلَّق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفاسفها، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عزَّ أن يتكرَّر، وقلَّ إن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء ـ رضي الله عنها ـ بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هنَّ في أمسِّ الحاجة إلى الاقتداء به، والنَّسج على منواله، وظلَّت أسماء مع أخواتها في مكَّة، لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجةً، حتى بعث النبيُّ (ﷺ) زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمئة درهم إلى مكَّة، فقدما عليه بفاطمة، وأُمِّ كلثوم ابنتيه، وسودةَ بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمِّه بركة المكنَّاة بأمِّ أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكرٍ بعيال أبي بكرٍ، حتى قدموا المدينة مصطحبين.
5ـ دور عامر بن فهيرة مولى أبي بكرٍ رضي الله عنه:
من العادة عند كثير من الناس إهمال الخادم، وقلَّة الاكتراث بأمره، لكنَّ الدُّعاة الربَّانيين لا يفعلون ذلك، إنَّهم يبذلون جهدهم لهداية مَنْ يلاقونه، لذا أدَّب الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ عامر بن فهيرة مولاه، وعلَّمه، فأضحى عامر جاهزاً لفداء الإسلام، وخدمة الدِّين.
وقد رسم له سيدنا أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ دوراً هاماً في الهجرة، فكان يرعى الغنم مع رعيان مكَّة، لكي لا يلفت الأنظار لشيءٍ، حتى إذا أمسى أراح بغنم سيدنا أبي بكرٍ على النبيِّ (ﷺ) فاحتلبا، وذبحا، ثمَّ يكمل عامر دور عبد الله بن أبي بكرٍ حين يغدو من عند رسول الله (ﷺ) وصاحبه عائداً إلى مكَّة، فيتتبَّع اثار عبد الله ليُعَفِّي عليهما ممّا يعدُّ ذكاءً، وفطنةً في الإعداد لنجاح الهجرة.
وإنَّه لدرسٌ عظيمٌ يستفاد من الصِّدِّيق لكي يهتمَّ المسلمون بالخدم الذين يأتونهم من مشارق الدُّنيا، ومغاربها، ويعاملونهم على كونهم بشراً أوَّلاً، ثمَّ يعلِّمونهم الإسلام، فلعلَّ الله يجعل منهم مَنْ يحمل هذا الدِّين كما ينبغي.
إنَّ ما قام به الصِّدِّيق من تجنيد أسرته لخدمة صاحب الدعوة (ﷺ) في هجرته يدلُّ على تدبيرٍ للأمور على نحوٍ رائعٍ دقيق، واحتياطٍ للظُّروف بأسلوبٍ حكيم، ووضعٍ لكلِّ شخصٍ من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسدٍّ لجميع الثَّغرات، وتغطيةٍ بديعةٍ لكلِّ مطالب الرِّحلة، واقتصارٍ على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادةٍ، ولا إسراف، لقد أخذ الرسول (ص) بالأسباب المعقولة أخذاً قويّاً حسب استطاعته، وقدرته.. ومن ثَمَّ باتت عناية الله متوقعةً.
إنَّ اتِّخاذ الأسباب أمرٌ ضروريٌّ وواجبٌ، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأنَّ هذا أمرٌ يتعلَّق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكُّل أمراً ضرورياً، وهو من باب استكمال اتِّخاذ الأسباب.
إن رسول الله (ﷺ) أعدَّ كلَّ الأسباب، واتَّخذ كلَّ الوسائل، ولكنَّه في الوقت نفسه مع الله يدعوه، ويستنصر أن يكلِّل سعيه بالنَّجاح، وهنا يستجاب الدُّعاء، ويكلَّل العمل بالنَّجاح.
ثانيا: جندية الصِّدِّيق الرَّفيعة، وبكاؤه من الفرح:
يظهر أثر التَّربية النبويَّة في جندية أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فأبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة، وقال له رسول الله (ﷺ): «لا تعجل لعلَّ الله يجعل لك صاحباً». فقد بدأ في الإعداد، والتَّخطيط للهجرة (فابتاع راحلتين، واحتسبهما في داره، يعلفهما إعداداً لذلك) وفي رواية للبخاريِّ: «وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمر ـ وهو الخبط ـ أربعة أشهر». لقد كان يدرك بثاقب بصره ـ رضي الله عنه ـ وهو الذي تربَّى ليكون
قائداً، أنَّ لحظة الهجرة صعبةٌ قد تأتي فجأةً، ولذلك هيَّأ وسيلة الهجرة، ورتَّب تموينها، وسخَّر أسرته لخدمة النبيِّ (ﷺ)، وعندما جاء رسول الله (ﷺ)، وأخبره أنَّ الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكى من شدَّة الفرح، وتقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ في هذا الشأن: فوالله ما شعرتُ قطُّ قبل ذلك اليوم أنَّ أحداً يبكي من الفرح حتّى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ، إنَّها قمَّة الفرح البشريِّ، أن يتحوَّل الفرح إلى بكاءٍ، وممّا قال الشاعر عن هذا:
ورد الكتابُ من الحبيبِ بأنَّه سيزورني فاستَعْبَرتْ أجفاني
غلب السُّرور عليَّ حتّى إنَّني مِنْ فَرْطِ ما قد سرَّني أبكاني
عينُ صار الدَّمعُ عندكِ عادةً تبكين مِنْ فرحٍ ومِنْ أحزانِ
فالصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يعلم: أنَّ معنى هذا الصُّحبة أنَّه سيكون وحده برفقة رسول رَبِّ العالمين بضعة عشر يوماً على الأقلّ، وهو الذي سيقدِّم حياته لسيِّده وقائده، وحبيبه المصطفى (ﷺ)، فأيُّ فوزٍ في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرَّد الصدِّيق وحدَه من دون أهل الأرض، ومن دون الصَّحْب جميعاً برفقة سيد الخلق، وصحبته كلَّ هذه المدَّة.
وتظهر معاني الحبِّ في الله في خوف أبي بكرٍ وهو في الغار من أن يراهما المشركون، ليكون الصِّدِّيق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جنديُّ الدعوة الصَّادق مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر من خوفٍ، وإشفاقٍ على حياته، فما كان أبو بكرٍ ساعتئذٍ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله (ﷺ) في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم: أنَّ أقلَّ جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله (ﷺ)، ولكنَّه كان يخشى على حياة الرسول الكريم (ﷺ)، وعلى مستقبل الإسلام، إن وقع الرسول (ﷺ) في قبضة المشركين.
ويظهر الحسُّ الأمنيُّ الرَّفيع للصدِّيق في هجرته مع النبيِّ (ﷺ) في مواقف كثيرةٍ؛ منها حين أجاب السَّائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السَّبيل، فظنَّ السَّائل بأنَّ الصِّدِّيق يقصد الطَّريق، وإنَّما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدلُّ على حسن استخدام أبي بكرٍ للمعاريض فراراً من الحرج، أو الكذب. وفي إجابته للسَّائل توريةٌ، وتنفيذٌ للتربية الأمنيَّة التي تلقَّاها من رسول الله (ﷺ)؛ لأنَّ الهجرة كانت سرّاً، وقد أقرَّه الرسول (ﷺ) على ذلك.
ثالثا: فنُّ قيادة الأرواح، وفنُّ التعامل مع النُّفوس:
يظهر الحبُّ العميق الذي سيطر على قلب أبي بكرٍ لرسول الله (ﷺ) في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصَّحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى (ﷺ)، وهذا الحبُّ الربَّانيُّ كان نابعاً من القلب، وبإخلاصٍ، لم يكن حبَّ نفاقٍ، أو نابعاً من مصلحةٍ دنيويَّةٍ، أو رغبةٍ في منفعةٍ أو رهبةٍ لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحبِّ لرسول الله (ﷺ) صفاته القياديَّة الرشيدة، فهو يسهر لينأموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرَّسول (ﷺ) مع صحابته، في حياته الخاصَّة والعامَّة، وشارك الناس في أفراحهم، وأتراحهم، وكان عمله لوجه الله، أصابه هذا الحبُّ إن كان من الزُّعماء، أو القادة، أو المسؤولين في أمَّة الإسلام.
وصدق الشَّاعر اللِّيبيُّ أحمد رفيق المهدويُّ عندما قال:
فإذا أحبَّ الله باطن عبده ظهرت عليه مواهبُ الفتاح
وإذا صفتْ للهِ نيَّةُ مصلحٍ مال العبادُ عليه بالأرواحِ
إنَّ القيادةَ الصَّحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كلِّ شيءٍ، وتستطيع أن تتعامل مع النُّفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحبُّ من الجنود، فقد كان (ﷺ) رحيماً، وشفوقاً بجنوده، وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقَ إلا المستضعفون، والمفتونون، ومن كانت له مهمَّاتٌ خاصَّةٌ بالهجرة.
والجدير بالذِّكر، أنَّ حبَّ الصِّدِّيق لرسول الله (ﷺ) كان لله، وممّا يبيِّن الحبَّ لله، والحبَّ لغير الله: أنَّ أبا بكرٍ كان يحبُّ النبيَّ (ﷺ) مخلصاً لله، وأبو طالب عمُّه كان يحبُّه، وينصره لهواه، لا لله، فتقبَّل الله عمل أبي بكرٍ، وأنزل فيه قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *وَلَسَوْفَ يَرْضَى *} [الليل: 17ـ21]، وأمّا أبو طالب فلم يتقبَّل عمله، بل أدخله النَّار؛ لأنَّه كان مشركاً عاملاً لغير الله، وأبو بكرٍ لم يطلب أجره من الخلق، لا من النبيِّ (ص)، ولا من غيره، بل امن به، وأحبَّه، وكلأه، وأعانه في الله، متقرِّباً بذلك إلى الله، وطالباً الأجر من الله، ويبلِّغ عن الله أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده.
رابعا: مرض أبي بكرٍ الصِّدِّيق بالمدينة في بداية الهجرة:
كانت هجرة النبيِّ (ﷺ) وأصحابه عن البلد الأمين تضحيةً عظيمةً، عبَّر عنها النبي (ﷺ) بقوله: «والله إنَّك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله! ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ ».
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: لمّا قدِمَ رسول الله (ﷺ) المدينة قدمها، وهي أوبا أرض الله من الحمّى، وكان واديها يجري نجلاً ـ يعني ماءً اجناً ـ فأصاب أصحابَه منها بلاءٌ، وسقمٌ، وصرف الله ذلك عن نبيِّه . قالت: فكان أبو بكرٍ وعامر ابن فهيرة وبلالٌ في بيتٍ واحدٍ، فأصابتهم الحمّى، فاستأذنتُ رسولَ الله (ﷺ) في عيادتهم، فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدَّة الوعك، فدنوت من أبي بكرٍ، فقلت: يا أبتِ ! كيف تجدك؟ فقال:
كلُّ أمرئ مصبِّحٌ في أهله والموت أدنى منْ شراكِ نعلِهِ
قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول. ثمَّ دنوتُ من عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدك يا عامر؟! فقال:
لقد وجدتُ الموتَ قبل ذوقه إنَّ الجبان حتفُهُ مِنْ فوقه
كل أمرئ مجاهدٌ بطوقه كالثَّور يحمي جلده بروقه
قالت: قلت: والله ما يدري عامر ما يقول! قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمّى؛ اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته، ويقول:
ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلة بوادٍ وحولي إذخرٌوجليلُ
وهل أرِدَنْ يوماً مياه مَجَنَّةٍ وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت: فأخبرت رسول الله (ﷺ) بذلك، فقال: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلينا المدينة، كحبِّنا مكَّة أو أشدَّ! اللَّهُمَّ وصحِّحها، وبارك لنا في مُدِّها، وصاعِها، وانقل حمّاها، واجعلها بالجُحْفَة! » .
وقد استجاب الله دعاء نبيِّه (ﷺ)، وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمّى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكلِّ الوافدين، والمهاجرين إليها من المسلمين، وعلى تنوُّع بيئاتهم، ومواطنهم.
شرع رسول الله (ﷺ) بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدَّولة الإسلاميَّة، فآخى بين المهاجرين، والأنصار، ثمَّ أقام المسجد، وأبرم المعاهدة مع اليهود، وبدأت حركة السَّرايا، واهتمَّ بالبناء الاقتصاديِّ، والتَّعليميِّ، والتَّربويِّ في المجتمع الجديد، وكان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وزير صدقٍ لرسول الله (ﷺ)، ولازمه في كلِّ أحواله، ولم يغب عن مشهدٍ من المشاهد، ولم يبخل بمشورةٍ، أو مالٍ، أو رأيٍ.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي