هجرة أبي بكر الصديق مع النبي الكريم إلى المدينة... لماذا الصديق؟
بقلم: د. علي محمّد الصلابي
الحلقة الرابعة
اشتدَّت قريشٌ في أذى المسلمين، والنَّيل منهم، فمنهم من هاجر إلى الحبشة مرَّة، أو مرَّتين فراراً بدينه.. ثمَّ كانت الهجرة إلى المدينة، ومن المعلوم: أنَّ أبا بكرٍ استأذن النبيَّ (ﷺ) في الهجرة، فقال له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً» فكان أبو بكر يطمع أن يكون في صحبة النبيِّ (ﷺ).
وهذه السيِّدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ تحدِّثنا عن هجرة رسول الله (ﷺ) وأبيها ـ رضي الله عنه ـ حيث قالت: كان لا يخطئ رسول الله (ﷺ) أن يأتي بيت أبي بكرٍ أحد طرفي النَّهار، إمّا بكرةً، وإمّا عشيَّةً، حتّى إذا كان اليوم الذي أُذن فيه لرسول الله (ﷺ) في الهجرة، والخروج من مكَّة من بين ظهراني قومه؛ أتانا رسول الله (ﷺ) ببا لهاجرة، في ساعةٍ كان لا يأتي فيها، قالت: فلمّا راه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله (ﷺ) هذه الساعة إلا لأمرٍ حدث . قالت: فلمّا دخل؛ تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله (ﷺ)، وليس عند أبي بكرٍ إلاَّ أنا، وأختي أسماء بنت أبي بكرٍ، فقال رسول الله (ﷺ): « أخرج عنِّي مَنْ عندَك » . فقال: يراسل الله! إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي، وأُمِّي! فقال: «إنه قد أُذن لي في الخروج، والهجرة». قالت: فقال أبو بكرٍ: الصُّحبة يراسل الله! قال: «الصُّحبة». قالت: فوالله ما شعرتُ قطُّ قبل ذلك اليوم أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكرٍ يبكي يومئذٍ، ثمَّ قال: يا نبي الله! إنَّ هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقت رجلاً من بني الدجل بن بكرٍ، وكانت أُمُّه امرأةً من بني سهم بن عمرٍو، وكان مشركاً يدلُّهما على الطَّريق، فدفعا إليه راحتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
وجاء في رواية البخاريِّ عن عائشة في حديثٍ طويلٍ تفاصيل مهمَّة، وفي ذلك الحديث: قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكرٍ في نحر الظَّهيرة، قال قائلٌ لأبي بكر: هذا رسول الله (ﷺ) متقنِّعاً في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، فقال رسول الله (ﷺ) لأبي بكرٍ: « أخرجْ مَنْ عندك » . فقال أبو بكر: إنَّما هم أهلُك. فقال: «فإنِّي قد أُذن لي في الخروج». فقال أبو بكرٍ: الصُّحبة بأبي أنت يا رسول الله! قال رسول الله (ﷺ): «نعم». قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله! إحدى راحلتيَّ هاتين. قال رسول الله (ﷺ): «بالثَّمن».
قالت عائشة: فجهَّزْناهما أحسن الجهاز، ووضعنا لهم سفرةً في جرابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكرٍ قطعةً من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سمِّيت ذات النِّطاقين، ثمَّ لحق رسول الله (ﷺ)، وأبو بكر بغارٍ في جبل ثور، فكَمَنافيه ثلاث ليالٍ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكرٍ وهو غلامٌ شابٌّ ثقفٌ، لقِنٌ، فيدلج من عندهما بسحرٍ، فيصبح مع قريش بمكَّة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما حيث تذهب ساعةٌ من العشاء، فيبيتان في رسلٍ ـ وهو لبن منحهما ـ ورضيفهماـ ينعق بها عامر بن فهيرة بغلسٍ، يفعل ذلك في كلِّ ليلةٍ من تلك الليالي الثلاث .
واستأجر رسول الله (ﷺ) وأبو بكر رجلاً من بني الدجل وهو من بني عبد بن عدي ـ هادياً خرئتا ـ والخرِّيت: الماهر ـ قد غمس حلفاً في ال العاص بن وائل السَّهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحتيهما، وواعده غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحولتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة، والدَّليل، فأخذ بهم طريق السَّواحل.
لم يعلم بخروج رسول الله (ﷺ) أحدٌ حين خرج إلاَّ علي بن أبي طالب، وأبو بكرٍ الصِّدِّيق، وال أبي بكر، وجاء وقت الميعاد بين يدي رسول الله (ﷺ) وأبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ، فخرجا من خوخةٍلأبي بكرٍ في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء، حتى لا تتبعهما قريشٌ، وتمنعهما من تلك الرِّحلة المباركة، وقد اتَّعدا مع الليل على أن يلقاهما عبد الله بن أريقت في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ، وقد دعا النبيُّ (ﷺ) عند خروجه من مكَّة إلى المدينة، ووقف عند خروجه بالحزورة في سوق مكَّة، وقال: « واللهِ إنَّك لخيرُ أرضِ الله، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى الله، ولولا أنِّي أُخرجتُ منك ما خرجتُ ».
ثمَّ انطلق رسول الله، وأبو بكرٍ، والمشركون يحاولون أن يقتفوا اثارهم حتّى بلغوا الجبل ـ جبل ثور ـ اختلط عليهم، فصعدوا الجبل، فمرُّوا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحدٌ لم يكن نسج العنكبوت على بابه، وهذه من جنود الله عزَّ وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] .
وبالرَّغم من كلِّ الأسباب التي اتَّخذها رسول الله (ﷺ) فإنه لم يرتككن إليها مطلقاً، وإنَّما كان كامل الثِّقة في الله، عظيم الرَّجاء في نصره، وتأييده، دائم الدُّعاء بالصِّيغة التي علَّمه الله إيّاها، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيرًا *} [الإسراء: 80] .
وفي هذه الآية الكريمة دعاءٌ يُعلِّمه الله عز وجل لنبيِّه (ﷺ) ليدعوه به، ولتتعلَّم أُمَّته كيف تدعو الله، وكيف تتَّجه إليه؟ دعاءٌ بصدق المدخل، وصدق المخرج، كناية عن صدق الرِّحلة كلِّها، بدئها، وختامها، أوَّلها، واخرها، وما بين الأول، والآخر، وللصِّدق هنا قيمته بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عمّا أنزله الله عليه؛ ليفتري على الله غيره، وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات، والاطمئنان، والنَّظافة، والإخلاص {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيرًا *}، وهيبةً أستعلي بهما على سلطان الأرض، وقوَّة المشركين، وكلمة تصور {مِنْ لَدُنْكَ}، والاتصال بالله، والاستمداد من عونه مباشرةً، واللجوء إلى حماه.
وصاحب الدَّعوة لا يمكن أن يستمدَّ السُّلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله، لا يمكن أن يستظلَّ بحاكمٍ، أو ذي جاهٍ، فينصره، ويمنعه ما لم يكن اتِّجاهه قبل ذلك إلى الله، والدَّعوة قد تغزو قلوب ذوي السُّلطان، والجاه، فيصبحون لها جنداً، وخدماً، فيفلحون، ولكنَّها هي لا تفلح إن كانت من جند السُّلطان، وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان، والجاه.
وعندما أحاط المشركون بالغار، أصبح منهم رأي العين، طمأن الرَّسول (ﷺ) الصِّدِّيق بمعيَّة الله لهما: فعن أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت للنبيِّ (ﷺ) وأنا في الغار: لو أنَّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: «ما ظنُّك يا أبا بكرٍ! باثنين اللهُ ثالثُهما ؟».
وسجَّل الحقُّ عزَّ وجلَّ ذلك في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [التوبة: 40].
وبعد ثلاث ليالٍ من دخول النبيِّ (ﷺ) في الغار خرج رسول الله (ﷺ)، وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطَّلب، ويئس المشركون من الوصول إلى رسول الله، وقد قلنا: إنَّ رسول الله (ﷺ)، وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الدجل يسمى عبد الله بن أريقت، وكان مشركاً، وقد أمَّناهُ، فدفعا إليه راحتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحولتيهما، وقد جاءهما فعلاً في الموعد المحدَّد، وسلك بهما طريقاً غير معهودة، ليُخفي أمرهما عمَّن يلحق بهم من كفار قريش، وفي أثناء الطَّريق إلى المدينة مرَّ النبيُّ (ﷺ) بأُمِّ معبد، في قديد، حيث مساكن خزاعة، وهي أُخت حُبيش بن خالدٍ الخزاعيِّ الذي روى قصَّتها، وهي قصَّةٌ تناقلها الرُّواة، وأصحاب السِّير، وقال عنها ابن كثير: (وقصَّتها مشهورةٌ مرويَّةٌ من طرقٍ يشدُّ بعضُها بعضاً) .
وقد أعلنت قريش في نوادي مكَّة بأنَّه من يأتي بالنبيِّ (ﷺ) حيّاً، أو ميتاً له مئة ناقةٍ، وانتشر هذا الخبر عند قبائل العرب الذين في ضواحي مكَّة، وطمع سراقة بن مالك بن جشم في نيل الكسب الذي أعدَّته قريشٌ لمن يأتي برسول الله (ﷺ)، فأجهد نفسه، لينال ذلك، ولكنَّ الله بقدرته؛ التي لا يغلبها غالبٌ جعله يرجع مدافعاً عن رسول الله (ﷺ) بعد أن كان جاهداً عليه.
ولمّا سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله (ﷺ) من مكَّة، كانوا يفدون كلَّ غداةٍ إلى الحرَّة، فينتظرون حتى يردَّهم حرُّ الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلمّا أووا إلى بيوتهم أوفى رجلٌ من يهود على أطم من آطامهم لأمرٍ ينظر إليه، فبصر رسول الله (ﷺ)، وأصحابه مبيضين، يزول بهم السَّراب، فلم يملك اليهوديُّ أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب! هذا جدُّكم؛ الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السِّلاح، فتلقَّوا رسول الله (ﷺ) بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكرٍ حتى ظلَّل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله (ﷺ) عند ذلك.
كان يوم وصول الرَّسول (ﷺ)، وأبي بكرٍ إلى المدينة يوم فرحٍ، وابتهاجٍ لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم، كأنَّهم في يوم عيدٍ، ولقد كان حقّاً يوم عيد؛ لأنَّه اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيِّز الضَّيِّق في مكَّة إلى رحابة الانطلاق، والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها إلى سائر بقاع الأرض، لقد أحسَّ أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشَّرف الذي اختصَّهم الله به، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله وصحابته المهاجرين، ثمَّ لنصرة الإسلام، كما أصبحت موطناً للنِّظام الإسلاميِّ العامِّ التفصيليِّ بكلِّ مقوِّماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهلِّلون في فرحٍ، وابتهاجٍ ويقولون: يا رسول الله! يا محمد! يراسل الله! وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الإنسانيَّة سار رسول الله (ﷺ) حتى نزل في دار أبي أيوب الأنصاريِّ ـ رضي الله عنه ـ ونزل الصِّدِّيق على خارجة بن زيد الخزرجيِّ الأنصاريِّ .
وبدأت رحلة المتاعب، والمصاعب، والتَّحدِّيات، فتغلَّب عليها رسول الله (ﷺ) للوصول للمستقبل الباهر للأمَّة، والدَّولة الإسلاميَّة التي استطاعت أن تصنع حضارةً إنسانيَّةً رائعةً على أسس من الإيمان، والتقوى، والإحسان، والعدل، بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا
تحكمان في العالم، وهما الفرس، والروم. وكان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ السَّاعدَ الأيمنَ لرسولِ الله (ﷺ) منذ بزوغ الدَّعوة حتى وفاته (ﷺ)، وكان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ ينهل بصمتٍ، وعمقٍ من ينابيع النبوَّة: حكمةً وإيماناً، يقيناً وعزيمةً، تقوى وإخلاصاً، فإذا هذه الصُّحبة تثمر: صلاحاً وصدِّيقيَّةً، ذكراً ويقظةً، حُبّاً وصفاءً، عزيمةً وتصميماً، إخلاصاً وفهماً، فوقف مواقفه المشهودة بعد وفاة رسول الله (ﷺ) في سقيفة بني ساعدة، وغيرها من المواقف، وبعث جيش أسامة، وحروب الرِّدَّة، فأصلح ما فسد، وبنى ما هُدم، وجمع ما تفرَّق، وقوَّم ما انحرف.
إنَّ حادثة هجرة الصِّدِّيق مع رسول الله فيها دروسٌ، وعِبرٌ، وفوائدُ، منها:
قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [التوبة: 40].
ففي هذه الآية الكريمة دلالةٌ على أفضلية الصِّدِّيق من سبعة أوجه، ففي الآية الكريمة من فضائل أبي بكرٍ رضي الله عنه:
1ـ أنَّ الكفار أخرجوه:
الكفار أخرجوا الرسول (ثاني اثنين) فلزم أن يكونوا أخرجوهما، وهذا هو الواقع.
2ـ أنَّه صاحبه الوحيد:
الذي كان معه حين نصره الله؛ إذ أخرجه الذين كفروا هو وأبو بكر، وكان ثاني اثنين، الله ثالثهما.
قوله: ففي المواضع التي لا يكون مع النبيِّ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} من أكابر الصَّحابة إلا واحدٌ يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة، ومقامه يوم بدرٍ في العريش لم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصَّحابة أبو بكر، وهذا اختصاصٌ في الصُّحبة لم يكن لغيره باتِّفاق أهل المعرفة بأحوال النبيّ (ﷺ).
3ـ أنَّه صاحبه في الغار:
الفضيلة في الغار ظاهرةٌ بنصِّ القران، وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنسٍ، عن أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يراسل الله! لو أنَّ أحدهم نظر إلى قدميه؛ لأبصرنا. فقال (ﷺ): «يا أبا بكر! ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثُهما ». وهذا الحديث مع كونه ممّا اتفق أهل العلم على صحَّته، وتلقِّيه بالقَبُول، فلم يختلف في ذلك اثنان منهم؛ فهو ممّا دلَّ القران على معناه.
4ـ أنَّه صاحبه المطلق:
قوله: لا يختص بمصاحبته في {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}، بل هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصُّحبة، كما لم يشركه فيه غيره، فصار مختصّاً بالأكالية من الصُّحبة، وهذا ممّا لا نزاع فيه بين أهل العلم بأحوال النبيِّ (ﷺ)، ولهذا قال مَنْ قال من العلماء: إنَّ فضائل الصِّدِّيق خصائص لم يشركه فيها غيره.
5ـ أنَّه المشفق عليه:
قوله: يدلُّ على أنَّ صاحبه كان مشفقاً عليه محبّاً {لاَ تَحْزَنْ}، ناصراً له حيث يحزن، وإنَّما يحزن الإنسان حال الخوف على مَنْ يحبه، وكان حزنه على النبيِّ (ﷺ) لئلاّ يقتل، ويذهب الإسلام، ولهذا لمّا كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارةً، ووراءه تارةً، فسأله النبيُّ (ﷺ) عن ذلك، فقال: أذكر الرَّصد فأكون أمامك، وأذكر الطَّلب فأكون وراءك. وفي رواية أحمد في كتاب «فضائل الصَّحابة»: فجعل أبو بكرٍ يمشي خلفه ويمشي أمامه، فقال له النبيُّ (ﷺ) «مالك؟». قال: يراسل الله! إذا كنت أمامك؛ خشيت أن تؤتى من ورائك، وإذا كنت خلفك؛ خشيت أن تؤتى من ورائك، قال: فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: يراسل الله! كما أنت حتّى أقمَّه.. فلمّا رأى أبو بكر جحراً في الغار، فألقمها قدمه، وقال: يراسل الله! إن كانت لسعةً، أو لدغةً كانت بي. فلم يكن يرضى بمساواة النبيِّ، بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله (ﷺ)، وهو يعيش، بل كان يختار أن يفديه بنفسه، وأهله، وماله. وهذا واجب على كلِّ مؤمن، والصِّدِّيق أقوم المؤمنين بذلك.
6ـ المشارك له في معيَّة الاختصاص:
قوله: صريحٌ في مشاركة الصدِّيق للنبيِّ {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} في هذه المعيَّة، التي اختصَّ بها الصِّدِّيق لم يشركه فيها أحدٌ من الخلق.. وهي تدلُّ على أنَّه معهما بالنَّصر، والتأييد، والإعانة على عدوِّهما ـ فيكون النبيُّ (ﷺ) قد أخبر: أنَّ الله ينصرني، وينصرك يا أبا بكر! ويعيننا عليهم، نصر إكرامٍ ومحبةٍ، كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ *} [غافر: 51]. وهذا غاية المدح لأبي بكرٍ؛ إذ دلَّ على أنَّه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي يخذل فيها عامَّة الخلق إلا مَنْ نصره الله.
وقال الدكتور عبد الكريم زيدان عن المعيَّة في هذه الآية الكريمة: وهذه المعيَّة الربَّانيَّة المستفادة من قوله تعالى: أعلى من معيَّته {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، والمحسنين في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128] لأنَّ المعيَّة هنا لذات الرَّسول، وذات صاحبه، غير مقيَّدة بوصفٍ هو عملٌ لهما، كوصف التَّقوى، والإحسان، بل هي خاصَّةٌ برسوله، وصاحبه، مكفولةٌ هذه المعيَّة بالتأييد بالآيات، وخوارق العادات.
7ـ أنَّه صاحبه في حال إنزال السَّكينة والنَّصر:
قال تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40] فإنَّ من كان صاحبه في حال الخوف الشَّديد فلأن يكون صاحبه في حضور النَّصر والتَّأييد أولى، وأحرى، فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام، والحال عليها. وإذا عُلِمَ: أنَّه صاحبه في هذه الحال؛ عُلِمَ أنَّما حصل للرَّسول من إنزال السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس لصاحبه فيها أعظم ممّا لسائر الناس. وهذا من بلاغة القران، وحسن بيانه.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf