المستفاد من حروب الردة... التمكين بين تحقيق شروطه وأسبابه
قلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثالثة والثلاثون
1ـ تحقيق شروط التَّمكين:
إِنَّ الاستخلاف في الأرض، والتَّمكين لدين الله وإِبدال الخوف أمناً وعدٌ من الله تعالى متى حقَّق المسلمون شروطه، ولقد أشار القران الكريم بكلِّ وضوحٍ إِلى شروط التَّمكين، ولوازم الاستمرار فيه، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستحلفنهم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} [النور: 55، 56].
ولقد أشارت الآيات الكريمة إِلى شروط التَّمكين، وهي: الإِيمان بكلِّ معانيه، وبجميع أركانه، وممارسة العمل الصَّالح بكلِّ أنواعه، والحرص على كلِّ أنواع الخير، وصنوف البرِّ، وتحقيق العبودية الشَّاملة، ومحاربة الشِّرك بكلِّ أشكاله، وأنواعه، وخفاياه.
وأمَّا لوازم التمكين؛ فهي: إِقامة الصَّلاة، وإِيتاء الزَّكاة، وطاعة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وقد تحقَّقت هذه الشروط واللوازم كلُّها في عهد الصديق والخلفاء الراشدين من بعده، وكان للصدِّيق الفضل بعد الله في تذكير الأمَّة بهذه الشروط، ولذلك رفض طلب الأعراب في وضع الزَّكاة عنهم، وأصرَّ على بعث جيش أسامة، والتزم بالشَّرع كاملاً، لم يتنازل عن صغيرةٍ، ولا كبيرةٍ . قال عبد الله بن مسعود: لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً كدنا نهلك فيه؛ لولا أن منَّ علينا بأبي بكر، أجمعنا على ألا نقاتل على ابنة مخاضٍ، وابنة لبون، وأن نأكل قرى عربيَّةً، ونعبد الله حتَّى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكرٍ على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إِلا بالخطَّة المخزية، أو الحرب المُجْلِية.
2ـ الأخذ بأسباب التَّمكين:
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ *} [الأنفال: 60].
وقد لاحظت: أنَّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كان إِعداده شاملاً معنويّاً وماديّاً، فجيَّش الجيوش، وعقد الألوية، واختار القادة لحروب الردَّة، وراسل المرتدِّين، وحرَّض الصحابة على قتالهم، وجمع السِّلاح، والخيل، والإِبل، وجهَّز الغزاة، وحارب البدع، والجهل، والهوى، وحكَّم الشَّريعة، وأخذ بأصول الوحدة، والاتِّحاد، والاجتماع، وأخذ بمبدأ التفرُّغ، وساهم في إِحياء مبدأ التَّخصُّص، فخالد لقيادة الجيوش، وزيد بن ثابت لجمع القران، وأبو برزة الأسلمي للمراسلات الحربيَّة، وهكذا، واهتمَّ بالجانب الأمني، والإِعلام، وغير ذلك من الأسباب .
3ـ اثار تحكيم الشَّرع:
تظهر اثار تحكيم شرع الله في عصر الصِّدِّيق في تمكين الله للصَّحابة، فقد حرصوا على إِقامة شعائر الله على أنفسهم، وأهليهم، وأخلصوا في تحاكمهم إِلى شرعه، فالله سبحانه وتعالى قوَّاهم، وشدَّ أزرهم، ونصرهم على المرتدِّين، ورزقهم الأمن، والاستقرار، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *} [الأنعام: 82].
وتحقَّقت فيهم سنَّة الله في نصرته لمن ينصره؛ لأنَّ الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزت، وقوَّته، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ *} [الحج: 40، 41].
وما حدث قطُّ في تاريخ البشريَّة أن استقامت مجموعةٌ على هدي الله إِلا منحها القوَّة، والمنعة، والسِّيادة في نهاية المطاف وقد انتشرت الفضائل، وانحسرت الرَّذائل في عهد الصِّدِّيق رضي الله عنه.
4ـ صفات جيل التمكين:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *} [المائدة: 54].
هذه الصِّفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أوَّل مَنْ تنطبق عليه أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وجيوشه من الصَّحابة الذين قاتلوا المرتدِّين، فقد مدحهم الله بأكمل الصِّفات، وأعلى المبرَّات، فهذه الصِّفات:
أـ {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}:
مذهب السَّلف في المحبَّة المسندة له سبحانه وتعالى: أنَّها ثابتةٌ له تعالى بلا كيف، ولا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيءٍ من خصائصها. لقد أحبَّ المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ ذلك الجيل لما بذلوه من أجل دينهم، وبما تطوَّعوا به بما لم يفرض عليهم فرضاً تقرُّباً إِلى الله، وحبّاً لرسوله، واتخاذهم المندوبات، والمستحبات كأنَّها فروضٌ واجبةُ التَّنفيذ.
ولقد اتَّصف هذا الجيل بصفات الإِحسان، والتَّقوى والصَّبر، الَّتي ذكر المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ بأنَّه يحبُّها، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *} [آل عمران: 134]، وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ *} [آل عمران: 76].
ولقد أحبَّ الصَّحابةُ المولى عزَّ وجل حبَّاً عظيماً فقدَّموا محابة على كلِّ شيءٍ، وبغضوا ما أبغضه، ووالوا ما والاه، وعادوا مَنْ عاداه، واتَّبعوا رسوله، واقتفوا أثره، لقد أحبَّ الصَّحابة ربَّهم، وخالقهم، ورازقهم؛ لأنَّ النفوس مجبولةٌ على حبِّ من أحسن إِليها، وأيُّ إِحسان كإِحسان من خلق فقدَّر، وشرع فيسَّر، وجعل الإِنسان في أحسن تقويم، ووعد من أطاعه بجنَّة الخلد التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لهذا كلِّه، ولأكثر منه أحبَّ ذلك الجيل ربَّهم حباً لا مثيل له، فقدَّموا أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم في سبيل الله بلا تردُّدٍ، أو منَّةٍ، بل اعتبروا ذلك تفضُّلاً من الله عليهم، أن فتح لهم باب الجهاد، والاستشهاد في سبيله، ويسَّر لهم أسبابه، فقاموا بذلك الواجب خير قيام.
ب ـ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}:
فهذه صفات المؤمنين القمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه، ووليِّه، متعزِّزاً على خصمه، وعدوِّه؛ ولذلك قام الصِّدِّيق وجنوده الكرام بمناصرة المسلمين، وخرج بنفسه يقاتل المرتدِّين، وسيَّر أحد عشر لواء لرفع الظُّلم عن المؤمنين، وكسر شوكة المرتدِّين، ولم يقبل من المرتدِّين الَّذين عذَّبوا المستضعفين من مواطنيهم المسلمين إِلا أن يأخذ بحقِّهم منهم، فيفعل بهم كما فعلوا بهم، وكذلك فعل قادة جيوشه، وكان رضي الله عنه حريصاً على مراعاة أحوال الرَّعيَّة في المجتمع، فقد مرَّ بنا كيف كان يعامل الجواري، والعجائز، وكبار السنِّ، رضي الله عنه .لقد سادت هذه الصِّفات في عصر الصِّدِّيق، وتجسَّدت في حياة الناس.
ج ـ {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ}:
وقد ظهرت صفة المجاهدة لأعداء الله في عصر الصِّدِّيق في حربهم للمرتدِّين، وكسرهم لشوكتهم، ومن بعد في الفتوحات الإِسلامية الَّتي سيأتي تفصيلها بإِذن الله تعالى، لقد جاهد الصَّحابة أعداءهم من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وتحقيق عبادة الله وحده، وإِقامة حكم الله، ونظام الإِسلام في الأرض، ودفع عدوان المرتدِّين، ومنع الظُّلم بين النَّاس، وبالجهاد في سبيل الله تحقَّق إِعزاز المسلمين، وإِذلال المرتدِّين، ورجع النَّاس إِلى دين الله، واستطاعت القيادة الإِسلاميَّة بزعامة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ أن تجعل من الجزيرة العربية قاعدةً للانطلاق لفتح العالم أجمع، وأصبحت الجزيرة هي النَّبع الصَّافي؛ الَّذي يتدفَّق منه الإِسلام، ليصل إِلى أصقاع الأرض، بواسطة رجالٍ عركتهم الحياة، وأصبحوا من أهل الخبرات المتعدِّدة في مجالات التَّربية، والتَّعليم، والجهاد، وإِقامة شرع الله الشَّامل لإِسعاد بني الإِنسان حيثما كان.
لقد كان الجهاد الَّذي خاضه الصَّحابة في حروب الردَّة إِعداداً ربَّانياً للفتوحات الإِسلاميَّة، حيث تميَّزت الرَّايات، وظهرت القدرات، وتفجَّرت الطَّاقات، واكتشفت قياداتٌ ميدانيَّة، وتفنَّن القادة في الأساليب، والخطط الحربيَّة، وبرزت مؤهلات الجنديَّة الصَّادقة، المطيعة، المنضبطة، الواعية؛ الَّتي تقاتل؛ وهي تعلم على ماذا تقاتل، وتقدِّم كلَّ شيءٍ وهي تعلم من أجل ماذا تضحِّي وتبذل، ولذا كان الأداء فائقاً، والتَّفاني عظيماً.
لقد توحَّدت شبه الجزيرة العربية بفضل الله، ثمَّ جهاد الصَّحابة مع الصِّدِّيق تحت راية الإِسلام لأوَّل مرَّةٍ في تاريخها بزوال الرؤوس، أو انتظامها ضمن المدِّ الإِسلامي، وبسطت عاصمة الإِسلام ـ المدينة ـ هيمنتها على ربوع الجزيرة، وأصبحت الأمَّة تسير بمبدأٍ واحدٍ، بفكرةٍ واحدةٍ، فكان الانتصار انتصاراً للدَّعوة الإِسلاميَّة، ولوحدة الأمَّة بتضامنها، وتغلُّبها على عوامل التفكُّك، والعصبيَّة، كما كانت برهاناً على: أنَّ الدَّولة الإِسلاميَّة بقيادة الصِّدِّيق قادرةٌ على التغلُّب على أعنف الأزمات.
وهكذا كان الصَّحابة يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لوم أحدٍ، واعتراضه، ونقده، لصلابتهم في دينهم، ولأنَّهم يعملون لإِحقاق الحقِّ، وإِبطال الباطل.
د ـ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}:
الإِشارة إِلى ما ذُكر من حبِّ الله إِيَّاهم، وحبِّهم لله، وذلَّتهم للمؤمنين، وعزَّتهم على الكافرين، وجهادهم في سبيل الله، وعدم مبالاتهم لِلَوْم اللوَّام، فالمذكور كلُّه فضلُ الله الَّذي فضَّل به أولياءه، يؤتيه من يشاء؛ أي: ممَّن يريد به مزيد إِكرامٍ من سَعَةِ جوده، والله واسعٌ، كثير الفواضل جلَّ جلاله، عليمٌ بمن هو أهلُها، فهو تعالى واسع الفضل، عليمٌ بمن يستحقُّ ذلك ممَّن يُحْرَم منه.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي