الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

معركة اليمامة...بين أبي بكر الصديق وخالد ابن الوليد رضي الله عنهما...إستراتيحيات عسكرية و حقائق تاريخية

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الثانية و الثلاثون

 

أولا: خدعة مُجَّاعة، وزواج خالد من ابنته، ورسائل بينه وبين الصِّدِّيق:

أـ خدعة مُجَّاعة:

بعد انتصار جيش المسلمين في حديقة الموت، بعث خالدٌ ـ رضي الله عنه ـ الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مالٍ، وسبيٍ، ثمَّ عزم على غزو الحصون، ولم يكن بقي فيها إِلا النِّساء، والصِّبيان، والشُّيوخ الكبار، فخدعه مُجَّاعَة، فقال: إِنَّها ملأي رجالاً مقاتلةً، فهلمَّ فصالحني عنها، فصالحه خالدٌ؛ لما رأى بالمسلمين من الجهد، وقد كَلُّوا من كثرة الحروب، والقتال. فقال: دعني حتَّى أذهب إِليهم ليوافوني على الصُّلح، فقال: اذهب، فسار إِليهم مُجَّاعة، فأمر النِّساء أن يلبسن الحديد، ويبرزن على رؤوس الحصون، فنظر خالد فإِذا الشُّرفات ممتلئةٌ من رؤوس النَّاس فظنَّهم كما قال مُجَّاعة، فانتظر الصُّلح ودعاهم خالد إِلى الإِسلام، فأسلموا عن اخرهم، ورجعوا إِلى الحقِّ، وردَّ عليهم خالد بعض ما كان من السَّبي، وساق الباقين إِلى الصِّدِّيق، وقد تسرَّى عليُّ بن أبي طالبٍ بجاريةٍ منهم، وهي أمُّ ابنه محمَّد الذي يقال له: محمَّد ابن الحنفيَّة.وكانت وقعة اليمامة في سنة إِحدى عشرة، وقال الواقدي، واخرون: كانت في سنة اثنتي عشرة، والجمع بينهما أنَّ ابتداءها في سنة إِحدى عشرة، والفراغ منها في سنة اثنتي عشرة

ب ـ زواجه بابنة مُجَّاعة والرَّسائل بينه وبين الصِّدِّيق:

طلب خالد بن الوليد من مُجَّاعة بعدما تمَّ الصلح أن يزوجه بابنته، فقال له مُجَّاعة: مهلاً إِنَّك قاطع ظهرك، وظهري معك عند صاحبك. فقال خالد: أيُّها الرجل! زوِّجني ابنتك، فزوَّجه مُجَّاعة ابنته.وكان الصِّدِّيق قد أرسل سلمة بن وقش إِلى خالد إِن أظفره الله أن يقتل مَنْ جرت عليه الموسى من بني حنيفة، فوجده قد صالحهم، وأتَمَّ خالد عقده معهم، ووفَّى لهم.

وكان الصِّديق يستروح الخبر من اليمامة، وينتظر رسول خالد، فخرج يوماً بالعشيِّ ومعه نفرٌ من المهاجرين والأنصار إِلى ظهر الحرَّة، فلقي أبا خيثمة النجارين قد أرسله خالد فلمَّا راه أبو بكر قال له: ما وراءك يا أبا خيثمة؟! قال: خيرٌ يا خليفة رسول الله! قد فتح الله علينا اليمامة، وهذا كتاب خالد، فسجد الصِّدِّيق شكراً لله، وقال: أخبرني عن الوقعة؛ كيف كانت؟ فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع خالدٌ، وكيف صفَّ أصحابه، ومن استشهد من الصَّحابة، وقال أبو خيثمة: يا خليفة رسول الله! أُتينا من قبل الأعراب انهزموا بنا، وعوَّدونا ما لم نكن نُحْسِن.

ولما علم الصِّدِّيق بزواج خالدٍ؛ كتب إِليه: يا بن أمِّ خالد إِنَّك لفارغٌ تنكح النِّساء وبفناء بيتك دم ألفٍ ومئتي رجلٍ من المسلمين لم يجفَّ بعدُ، ثمَّ خدعك مُجَّاعة عن رأيك، فصالحك عن قومه، وقد أمكن الله منهم، وإِزاء هذا التَّعنيف الذي وصل إِلى خالد من الخليفة بسبب مصالحته لمجَّاعة، وزواجه بابنته؛ بعث خالدٌ إِليه كتاباً جوابياً مع أبي برزة الأسلميِّ يدافع فيه عن موقفه دفاعاً يتَّسم بوضوح الحجَّة، وقوَّة المنطق، يقول فيه:

أمَّا بعد: فلعمري ما تزوَّجت النِّساء حتَّى تمَّ لي السُّرور، وقرَّت بي الدَّار، وما تزوَّجت إِلا إِلى المرأى، لو عملت إِليه من المدينة خاطباً لم أبل، دع أني استثرت خطبتي إِليه من تحت قدمي، فإِنْ كنت قد كرهت لي ذلك لدينٍ، أو لدنيا؛ أعتبتك، وأمَّا حسن عزائي عن قتلى المسلمين فوالله لو كان الحزن يبقي حيّاً، أو يردُّ ميتاً؛ لأبقى حزني الحيَّ، وردَّ الميت، ولقد اقتحمت حتَّى أيست من الحياة، وأيقنت بالموت، وأمَّا خدعة مُجَّاعة إِياي عن رأيي فإِنِّي لم أخطأ رأيي يومي، ولم يكن لي علمٌ بالغيب، وقد صنع الله للمسلمين خيراً: أورثهم الأرض، والعاقبة للمتَّقين.

فلمَّا قدم الكتاب على أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ رقَّ بعض الرِّقَّة، وقام رهطٌ من قريش فيهم أبو برزة الأسلمي، فعذروا خالداً، وقال أبو برزة: يا خليفة رسول الله! ما يوصف خالد بجبنٍ، ولا خيانةٍ، ولقد أقحم في طلب الشَّهادة حتَّى أُعذر، وصبر حتَّى ظفر، وما صالح القوم إِلا على رضاه، وما أخطأ رأيه بصلح القوم؛ إِذ هو لا يرى النِّساء في الحصون إِلا رجالاً. فقال أبو بكر: صدقت! لَكلامُك هذا أولى بعذر خالدٍ من كتابه إِليَّ.

ونلحظ في رسالة خالدٍ إِلى أبي بكر بعض النُّقاط الَّتي دافع بها عن نفسه، والتي تمثَّلت بما يلي:

1ـ إِنه لم يتزوج إِلا بعد أن كسب النَّصر، واطمأنَّ به المقام.

2ـ إِنَّه أصهر إِلى رجلٍ من زعماء قومه، وأشرافهم.

3ـ إِنَّه لم يتكلَّف أدنى مشقَّةٍ في هذا الإِصهار.

4ـ إِنَّ هذا الزَّواج ليس فيه مخالفة دينيَّة، أو دنيويَّة.

5ـ إِنَّ الامتناع بسبب الحزن على قتلى المسلمين تصرُّف غير مجدٍ؛ لأنَّ الحزن لا يُبقي حيّاً ولا يردُّ ميتاً.

6ـ إِنَّه لم يكن يقدِّم على الجهاد أيَّ أمرٍ اخر، ولقد أبلى فيه بلاءً لم يعد ـ بسببه ـ بينه وبين الموت أي حاجز.

7ـ إِنَّه في مصالحته لمجَّاعة لم يال جهداً في تحقيق الخير للمسلمين، وإِذا كان مُجَّاعة لم ينقل له الصُّورة عن قومه على حقيقتها، فعذره أَنَّه إِنسان لا يدري من أمر الغيب شيئاً، وعلى كلٍّ فالعاقبة كانت في صالح المسلمين؛ إِذ استولوا على أرض بني حنيفة ومن ثمَّ فاءت بقيَّتهم إِلى الإِسلام دون قتالٍ، وعلى هذا فإِنَّ الزَّواج ببنت مُجَّاعة كان أمراً طبيعياً، لا على خالدٍ فيه بأس، وليس صحيحاً أنَّه كان ناشئاً عن إِعجابه بمُجَّاعة لغيرته على قومه، ولذا: أحبَّ أن يصهر إِليه ويوثق الصِّلة بينه وبينه، وطاب له أن يعزِّز صلة الدِّين بصلة البيت والنَّسب، كما يقول العقَّاد ذلك؛ لأنَّ خالداً لم يكن ليقدِّم على رابطة الدِّين، أو يجمع إِليها في التَّعامل مع النَّاس رابطةً أخرى.

وأمَّا أسلوب الدُّكتور محمد حسين هيكل في الاعتذار لخالدٍ؛ فإِنَّه مرفوضٌ؛ لأنَّه يتنافى مع أحكام الإِسلام، فقد قال هيكل: ومن تكون بنت مُجَّاعة في أعياد النَّصر الَّتي يجب أن تقام لخالد؟! إِنَّها لن تزيد على قربانٍ يُطرح على قدمي هذا العبقري الفاتح؛ الَّذي روَّى أرض اليمامة بالدِّماء لعلَّها تَطَّهَّرُ من رجسها.

فهذه الكلمات تُصوِّر خالداً ـ الصَّحابيَّ الكريم ـ وكأنَّه أخيل، أو هكتو، أو أغا ممنون من قادة حرب طروادة الوثنييِّن، الَّذين لا يحارب الواحد منهم إِلا إِذا أشير إِليه بالبنان أو أمطر بالقبلات، والتوسُّلات؛ لأنَّه لا يحارب إِلا للزَّعامة، والوجاهة، أو كأنَّه أحد أصنام العرب الَّذين تسفح على جنباتهم دماء القرابين تقرُّباً، وتذلُّلاً، أو كأنَّه إِله النِّيل الَّذي كان يعتقد المصريون: أنَّه لن يفيض عليهم بالخير إِلا إِذا قذفوا في بحره أجمل بنات مصر، فحاشا أبا سليمان، ثمَّ حاشاه من قبلُ ومن بعدُ من مثل هذه الروح، وتلك النَّفسيَّة! فخالدٌ مؤمنٌ موحِّدٌ لا يحارب إلا لإِعلاء كلمة الله، لا يبغي عليها جزاءً، ولا شكوراً من أحدٍ من خلق الله. ومرفوضٌ أيضاً ما ذهب إِليه الجنرال أكرم في تعليله لما وقع فيه خالد من ملامات من جرَّاء قصص زواجه في حروب الردَّة؛ إِذ يعيدها إِلى لياقته البدنيَّة: التي سبَّبت له كثيراً من المشاكل بين حسناوات شبه الجزيرة العربيَّة، على حدِّ زعمه، وكأنَّ خالداً تحوَّل إِلى زير نساءٍ، أو دون جوان غوان، وهو الذي لم يكن يهوى شيئاً هواه الجهاد في سبيل الله، ولكنَّها التَّوجيهات الباطلة الَّتي تفسر الأمور بعيداً عن طبيعة الظُّروف، ومعطيات المبادئ، وشواهد الأخبار.

إِنَّ خالداً ـ رضي الله عنه ـ كان يقاتل عن دينٍ، ويحتسب الأجر عند الله تعالى، وكان يقتحم المعامع بنفسه، وقد وصف بأنَّه له أناة القطَّة، ووثوب الأسد، وما كان يوماً بالَّذي يؤثر نفسه عن جنده، بل كانوا يجدونه أمامهم في كلِّ معتركٍ، ففي معركة بُزاخة: ضرَّس في القتال، فجعل يقحم فرسه، ويقولون له: الله الله! فإِنَّك أمير القوم، ولا ينبغي لك أن تقدم، فيقول: والله إِنِّي لأعرف ما تقولون، ولكن ما رأيتني أصبر، وأخاف هزيمة المسلمين!

وفي معركة اليمامة لمَّا اشتدَّ القتال، ولم يزد بني حنيفة ما قتل منهم إِلا عنفاً، وضراوةً، برز حتَّى إِذا كان أمام الصَّف دعا إِلى المبارزة، ونادى النَّاس بشعارهم يومئذ، وكان: يا محمداه! فجعل لا يبرز له أحدٌ إِلا قتله، ولا شيء إِلا أكله، فقد كان يرغب في النَّصر ويتحرَّى الشَّهادة .

ولنترك لخالد يصف لنا جولة من المصارعة بينه وبين أحد جنود مسيلمة داخل حديقة الموت، قال: ولقد رأيتني في الحديقة، وعانقني رجلٌ منهم وأنا فارسٌ وهو فارسٌ فوقعنا عن فرسينا ثمَّ تعانقنا بالأرض، فأجبؤه بخنجرٍ في سيفي وجعل يجني بمعولٍ في سيفه فجرحني سبع جراحاتٍ، وقد جرحته جرحاً أثبتُّه به فاسترخى في يدي، وما بي حركة من الجراح، وقد نزفت من الدَّم إِلا أَنَّه سبقني بالأجل، فالحمد لله على ذلك!

وقد شهد خالدٌ لبني حنيفة على قوَّتهم، وشدَّة بأسهم فقال: شهدت عشرين زحفاً، فلم أر قوماً أصبر لوقع السُّيوف، ولا أضرب بها، ولا أثبت أقداماً من بني حنيفة يوم اليمامة.. وما بي حركةٌ من الجراح، ولقد أقحمت حتَّى أيست من الحياة، وتيقنت الموت.

ثانيا: محاولة قتل خالد بن الوليد، وقدوم وفد بني حنيفة للصِّدِّيق رضي الله عنه:

1ـ محاولة قتل خالد بن الوليد:

على الرغم من وضوح باطل الجاهليَّة وزيفه، فإِنَّها لا تتخلَّى عنه بسهولةٍ؛ لأنَّ به ديمومة حياتها، ولذا ما إِن تُواجَه بالحقيقة حتَّى تأخذ في الدفاع عن نفسها بشراسةٍ، ولا تلقي سيف القتال من يدها إِلا بعد أن يسقط بالقوَّة، وبعد ذلك تحاول الغدر ما استطاعت إِلى ذلك سبيلاً، فهذا سلمة بن عمير الحنفيُّ يدلِّل بفعله على صحَّة ما ذهبتُ إِليه، فقد حاول اغتيال خالد بن الوليد بعد الصُّلح الَّذي أجراه خالد مع بني حنيفة بشكلٍ عامٍّ، إِلاَّ أنَّه من حقده النَّاقع للمسلمين فقد دبَّر خطة اغتيال خالد بن الوليد كجزء من سياسته في رفض التَّصالح معهم، ولمَّا قبض عليه أوَّل مرَّةٍ، وعاهد بني حنيفة ألا يعود لمثلها؛ نكث بعهده؛ إِذ أفلت ليلاً من وثاقه الَّذي أوثقوه به مخافة غدره، فعمد إِلى عسكر خالد فصاح به الحرس، وفزعت بنو حنيفة، فاتَّبعوه، فأدركوه في بعض الحائط(الحدائق)، فشدَّ عليهم بالسَّيف، فاكتنفوه بالحجارة، وأجال السَّيف على حلقه فقطع أوداجه(عروق رقبته)، فسقط في بئرٍ فمات، فهذا مثالٌ على عناد الجاهليَّة في الدِّفاع عن باطلها.

2ـ قدوم وفد بني حنيفة على الصِّدِّيق:

ولمَّا قدمت وفود بني حنيفة على الصِّدِّيق؛ قال لهم: أسمعونا شيئاً من قران مسيلمة! فقالوا: أو تعفينا يا خليفة رسول الله؟! فقال: لا بدَّ من ذلك. فقالوا: كان يقول: يا ضفدع بنت الضِّفدعين نقِّي لكم تنقِّين، لا الماء تكدِّرين ولا الشَّارب تمنعين، رأسك في الماء وذنبك في الطِّين. وكان يقول: والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذَّاريات قمحاً، والطَّاحنات طحناً، والخبازات خبزاً، والثارات ثرداً، واللاقطات لقماً إِهالةً وسمناً . يقول: لقد فُضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعترَّ فأووه، والناعي فواسوه. وذكروا أشياء من هذه الخرافات الَّتي يأنف من قولها الصِّبيان، وهم يلعبون، فيقال: إِنَّ الصديق قال لهم: ويحكم أين كان يذهب بعقولكم؟! إِنَّ هذا الكلام لم يخرج من إِلٍّ ولا برٍّ .

وذكر علماء التَّاريخ: أنَّه كان يتشبَّه بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وبلغه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق في بئرٍ فغاض ماؤه بالكلِّيَّة، وفي أخرى فصار ماؤه أجاجاً، وتوضَّأ، فسقى بوضوئه نخلاً فيبست، وهلكت، وأتي بولدان يبرِّك عليهم، فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قُرِع رأسُه، ومنهم مَنْ لثغ لسانه، ويقال: إِنَّه دعا لرجلٍ أصابه وجع في عينيه فمسحهما، فعمي.

ثالثا: جمع القران الكريم:

كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثيرٌ من حفظة القران، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بمشورة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بجمع القران حيث جمع من الرِّقاع، والعظام، والسَّعف، ومن صدور الرِّجال، وأسند الصِّدِّيق هذا العمل العظيم إِلى الصَّحابيِّ الجليل زيد بن ثابت الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ يروي زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ فيقول: بعث إِليَّ أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لمقتل أهل اليمامة، فإِذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: إِنَّ عمر أتاني فقال: إِنَّ القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقرَّاء القران، وإِنِّي أخشى أن يستحرَّ القتل بالقرَّاء في المواطن كلِّها فيذهب كثيرٌ من القران، وإِنِّي أرى أن تأمر بجمع القران، قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!! فقال عمر: هذا والله خير! فلم يزل عمر يراجعني حتَّى شرح الله صدري لِلَّذي شرح له صدر عمر، ورأيتُ في ذلك الَّذي رأى عمر.

قال زيدٌ: قال أبو بكر: وإِنَّك رجلٌ شابٌّ عاقلٌ لا نتَّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبَّع القران، فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبلٍ من الجبال ما كان بأثقل عليَّ ممَّا كلفني به من جمع القران! فتتبَّعت القران من العَسَب، واللِّخاف، وصدور الرِّجال، والرِّقاع، والأكتاف قال: حتَّى وجدت اخر سورة التَّوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحدٍ غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [التوبة: 128] حتَّى خاتمة براءة.وكانت الصُّحف عند أبي بكرٍ حياته؛ حتَّى توفَّاه الله، ثمَّ عند عمر حياته؛ حتَّى توفَّاه الله، ثمَّ عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم.

وعلَّق البغي على هذا الحديث، فقال: فيه البيان الواضح، فالصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ جمعوا بين الدَّفتين القران الَّذي أنزله الله ـ سبحانه وتعالى ـ على رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن يزيدوا فيه، أو ينقصوا منه شيئاً، والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث، وهو أنَّه كان مفرقاً في العسب، واللِّخاف، وصدور الرِّجال؛ فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حَفَظته، ففزعوا فيه إِلى خليفة رسول الله، ودعوه إِلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم، فأمر بجمعه في موضع واحدٍ باتِّفاقٍ من جميعهم، فكتبوه كما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يكونوا قدموا شيئاً أو أخروا، أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى أصحابه، ويعلِّمهم ما ينزل عليه من القران على التَّرتيب الَّذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل ـ صلوات الله عليه ـ إِيَّاه على ذلك، وإِعلامه عند نزول كلِّ ايةٍ أنَّ هذه الآية تكتب عقيب اية كذا في السُّورة التي يذكر فيها كذا، وهكذا يتَّضح للقارئ الكريم: أنَّ من أوليات أبي بكرٍ الصِّديق ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه أوَّل مَن جمع القران الكريم، يقول صعصعة بن صوحان ـ رحمه الله ـ: أوَّل من جمع بين اللَّوحين، وورَّث الكلالة، أبو بكرٍ.وقال عليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ: يرحم الله أبا بكر! هو أوَّل من جمع بين اللَّوحين.

وقد اختار أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ زيد بن ثابت لهذه المهمَّة العظيمة، وذلك لأنَّه رأى فيه المقوِّمات الأساسيَّة للقيام بها، وهي:

1ـ كونه شاباً حيث كان عمره (21) سنة فيكون أنشط لما يطلب منه.

2ـ كونه أكثر تأهيلاً، فيكون أوعى له؛ إِذ مَنْ وهبه الله عقلاً راجحاً؛ فقد يسَّر له سبيل الخير.

3ـ كونه ثقةً، فليس هو موضعاً للتُّهمة، فيكون عمله مقبولاً، وتركن إِليه النَّفس، ويطمئنُّ إِليه القلب.

4ـ كونه كاتباً للوحي، فهو بذلك ذو خبرةٍ سابقةٍ في هذا الأمر، وممارسةٍ عمليَّةٍ له، فليس غريباً عن هذا العمل، ولا دخيلاً عليه.

هذه الصِّفات الجليلة جعلت الصِّدِّيق يُرَشِّح زيداً لجمع القران، فكان به جديراً، وبالقيام به خبيراً.

5ـ ويضاف لذلك أنَّه أحد الأربعة الذين جمعوا القران على عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم . فعن قتادة، قال: سألت أنس بن مالكٍ ـ رضي الله عنه ـ: من جمع القران على عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أربعة كلُّهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.

وأمَّا الطريقة الَّتي اتبعها زيدٌ في جمع القران فكان لا يثبت شيئاً من القران إِلا إِذا كان مكتوباً بين يدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ومحفوظاً من الصَّحابة، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة خشية أن يكون في الحفظ خطأٌ، أو وهمٌ، وأيضاً لم يقبل من أحدٍ شيئاً جاء به إِلا إِذا أتى معه شاهدان يشهدان: أنَّ ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنَّه من الوجوه الَّتي نزل بها القران، وعلى هذا المنهج استمرَّ زيدٌ ـ رضي الله عنه ـ في جمع القران حذِراً، متثبِّتاً، مبالغاً في الدِّقَّة والتَّحرِّي .كما كان زيد في طليعة من وَحَّدَ المصاحف في زمن عثمان بن عفَّان ـ رضي الله عنهـ وسيأتي تفصيل ذلك ـ بإِذن الله ـ في موضعه .

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022