الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

جوانب من قصة مسيلمة الكذَّاب، وبنو حنيفة... معارك فاصلة، وبطولات نادرة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة : الثلاثون

 

أولا: تحرُّك خالد بن الوليد بجيشه إِلى مسيلمة الكذَّاب باليمامة:

كان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ قد أمر خالداً إِذا فرغ من أسد، وغطفان، ومالك ابن نويرة أن يقصد اليمامة، وأكَّد عليه في ذلك، قال شريكٌ الفزاريُّ)): كنت ممَّن حضر بُزاخة، فجئت أبا بكرٍ، فأمرني بالمسير إِلى خالدٍ، وكتب معي إِليه: أمَّا بعد: فقد جاءني في كتابك مع رسولك تذكر ما أظفرك الله بأهل بُزاخة، وما فعلت بأسدٍ، وغطفان، وأنَّك سائر إِلى اليمامة، وذلك عهدي إِليك، فاتَّق الله وحده لا شريك له، وعليك بالرِّفق بمن معك من المسلمين، كن لهم كالوالد، وإِيَّاك يا خالد بن الوليد! ونخوة بني المغيرة، فإِنِّي قد عصيت فيك من لم أعصه في شيءٍ قطُّ، فانظر إِلى بني حنيفة إِذا لقيتهم ـ إِن شاء الله ـ فإِنَّك لم تلقَ قوماً يشبهون بني حنيفة، كلُّهم عليك، ولهم بلادٌ واسعةٌ، فإذا قدمت فباشر الأمر بنفسك، واجعل على ميمنتك رجلاً، وعلى ميسرتك رجلاً، واجعل على خيلك رجلاً، واستشر مَنْ معك من الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين، والأنصار، واعرف لهم فضلهم، فإِذا لقيت القوم، وهم على صفوفهم فالقهم ـ إِن شاء الله ـ وقد أعددت للأمور أقرانها، فالسَّهم للسَّهم، والرُّمح للرُّمح، والسَّيف للسَّيف، واحمل أسيرهم على السَّيف، وهوِّل فيهم القتل، وأحرقهم بالنَّار، وإِيَّاك أن تخالف أمري! والسَّلام عليك. فلما انتهى الكتاب إِلى خالدٍ، وقرأه؛ قال: سمعاً، وطاعة.

سار خالد إِلى قتال بني حنيفة باليمامة، وعبَّى معه المسلمين، وكان على الأنصار ثابتُ بن قيس بن شمَّاس، فسار لا يمرُّ بأحد من المرتدِّين إِلا نكَّل به، وسيَّر الصِّدِّيق جيشاً كثيفاً مجهَّزاً بأحدث سلاحٍ ليحمي ظهر خالد حتَّى لا يوقع به أحدٌ من خلفه، وكان خالد في طريقه إِلى اليمامة قد لقي أحياءً من الأعراب قد ارتدَّت، فغزاها، وردَّها إِلى الإِسلام، ولقي مؤخَّرة جيش سجاح، ففتك به، ونكبه، ثمَّ زحف إِلى اليمامة.

ولمَّا سمع مسيلمة بقدوم خالدٍ؛ عسكر بمكانٍ يقال له: عقرباء في طرف اليمامة، وندب النَّاس، وحثَّهم على لقاء خالدٍ، فأتاه أهل اليمامة، وجعل على مجنَّبتي جيشه: المحكم بن الطفيل، والرَّجَّال بن عنفوه(شاهد زور) .

والتقى خالد بعكرمة وشرحبيل فتقدَّم، وقد جعل على مقدِّمة الجيش شرحبيل ابن حسنة، وعلى المجنَّبتين زيد بن الخطَّاب، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة.

أـ مُجَّاعة بن مرارة الحنفي يقع في أسر المسلمين:

مرَّت مقدِّمة جيش خالد بنحو من أربعين ـ وقيل: ستِّين ـ فارساً عليهم مُجَّاعة ابن مرارة الحنفيُّ، وكان قد ذهب لأخذ ثأرٍ له في بني تميم، وبني عامر، وفي طريق عودته إِلى قومه أسرهم المسلمون، فلمَّا جيء بهم إِلى خالدٍ؛ قال لهم: ماذا تقولون يا بني حنيفة؟! قالوا: نقول منَّا نبيٌّ، ومنكم نبيٌّ، فقتلهم. وفي روايةٍ: سألهم خالد: متى شعرتم بنا؟ قالوا: ما شعرنا بك! إِنَّما خرجنا لنثأر فيمن حولنا من بني عامرٍ، وتميم. فلم يصدِّقهم خالد بل حسبهم جواسيس عليه لمسيلمة الكذَّاب، فأمر بقتلهم جميعاً، فقالوا له: إِنْ ترِدْ بأهل اليمامة غداً شرّاً أو خيراً؛ فاستبق هذا، وأشاروا إِلى رئيسهم مُجَّاعة، فاستبقى مجَّاعة، وقتل الآخرين.

وكان مُجَّاعة بن مرارة سيِّداً في بني حنيفة شريفاً مطاعاً، فكان خالد كلَّما نزل منزلاً واستقرَّ به دعا مُجَّاعة فأكل معه، وحدَّثه، فقال له ذات يوم: أخبرني عن صاحبك ـ يعني: مسيلمة ـ ما الَّذي يُقرئكم؟ هل تحفظ منه شيئاً؟ قال: نعم، فذكر له شيئاً من رجزه، فقام خالدٌ، وضرب بإِحدى يديه على الأخرى، وقال: يا معشر المسلمين! اسمعوا إِلى عدوِّ الله كيف يعارض القران، ثمَّ قال: ويحك يا مُجَّاعة! أراك رجلاً سيِّداً عاقلاً اسمع إِلى كتاب الله عزَّ وجل، ثمَّ انظر كيف عارضه عدوُّ الله، فقرأ عليه خالد: فقال {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}: أما إِنَّ رجلاً من أهل البحرين كان يكتب، أدناه مسيلمة، وقرَّبه حتَّى لم يكن يَعْدِلُهُ في القُرب عنده أحدٌ، فكان يخرج إِلينا، فيقول: ويحكم يا أهل اليمامة! صاحبكم والله كذَّاب، وما أظنُّكم تتَّهموني عليه، إِنَّكم لترون منزلتي عنده، وحالي، هو والله يكذبكم، وبايعكم على الباطل. قال خالد: فما فعل ذلك البحرانيُّ؟ قال: هرب منه، كان لا يزال يقول هذا القول حتَّى بلغه، فخافه على نفسه، فهرب، فلحق بالبحرين، قال خالد: هات زدنا من كذب الخبيث! فقال مُجَّاعة بعضَ رجز مسيلمة، فقال خالد: وهذا كان عندكم حقّاً، وكنتم تصدِّقونه؟ قال مُجَّاعة: لو لم يكن عندنا حقَّاً؛ لما لَقِيَتْكَ غداً أكثرُ من عشرة الاف سيفٍ يضاربونك فيه حتَّى يموت الأعجل، قال خالد: إِذاً يكفيانكم الله، ويعزُّ دينه، ففي سبيله يقاتلون، ودينه يريدون.

فهذا ردٌّ يدلُّ على عظمة إِيمان خالدٍ، وثقته بالله، فقد كان إِيمانه بالله، وثقته المطلقة في نصر الله لدينه هما اللَّذين فجَّرا في شخصيته كنوز المواهب الحربيَّة، وفنون المهارات القياديَّة، لقد قاتل يوم بُزاخة بسيفين حتَّى قطعهما، فقد كان يملأ الإِيمانُ قلبَه، ويعتزُّ بالله وحده، وكان ذلك كفيلاً بإِسقاط هيبة عدوِّه من نفسه، وغرس هيبته في قلب عدوِّه، وذلك أوَّل الطَّريق لإِحراز النَّصر الحاسم عليه، وإِلحاق الهزيمة السَّاحقة به.

ب ـ شنُّ الحرب النفسيَّة قبل المعركة:

وضع خالد بن الوليد خطَّته على أساس استخدام الحرب النفسيَّة، ثمَّ تحكيم السَّيف، فبعث زياد بن لبيد، وكان صديقاً لمحكم بن طفيل سيِّد أهل اليمامة بقصد أن يكسبه إِلى جانبه، فقال خالدٌ لزياد: لو لقيت إِلى محكمٍ شيئاً تكسره به، فكتب زياد إِليه أبياتاً من الشِّعر، جاء فيها:

ويلُ اليَمامة ويلاً لا فِراقَ له إِنْ جالت الخَيْلُ فيها بالقَنا الصادي

والله لا تنثني عنكم أعنَّتُها حتَّى تكونوا كأهل الحِجْرِ أَوْ عادِ

واتَّجه خالدٌ كذلك إِلى عمير بن صالح اليشكري، وكان قد أسلم، وكتم إِسلامه على قومه، وكان قويَّ العقيدة راسخ الإِيمان، وقال له: تقدَّم إِلى قومك، فأتاهم، وقال: أظلَّكم خالد في المهاجرين، والأنصار، إِنِّي رأيت قوماً إِن غالبتموهم بالصَّبر؛ غلبوكم بالنَّصر، وإِن غلبتموهم بالعدد؛ غلبوكم بالمَدَد، ولستم والقوم سواءً، الإِسلام مقبلٌ، والشرك مدبرٌ، وصاحبُهم نبيٌّ، وصاحبكم كذَّاب، ومعهم السُّرور، ومعكم الغرور، فالآن والسَّيفُ في غمده، والنَّبل في جفيره، قبل أن يسلَّ السَّيف، ويرمى بالسَّهم.

ثمَّ باشر خالد المهمَّة مع ثمامة بن أُثال الحنفيِّ، فمشى إِلى قومه يدعوهم إِلى الاستسلام، ويحطِّم عندهم روح القتال:(إِنَّه لا يجتمع نبيان بأمرٍ واحد، إِنَّ محَمَّداً صلى الله عليه وسلم لا نبيَّ بعده، ولا نبيَّ مرسلٌ معه، لقد بَعَثَ إِليكم(يقصد أبا بكر) رجلاً لا يسمَّى باسمه، ولا باسم أبيه، يقال له:(سيف الله) ومعه سيوفٌ كثيرةٌ، فانظروا في أمركم). واهتمَّ خالدٌ بتدبير الخطط المحكمة، وكان رضي الله عنه لا يستخفُّ بعدوِّه، وكان في ميدان المعركة على أهبةٍ، وحذرٍ دائمين؛ مخافة أن يفقأه عدوُّه بغارةٍ غادرةٍ، والتفاف مكرٍ.وقد وُصِفَ ـ رضي الله عنه ـ بأنه: كان لا ينام، ولا يبيت إِلا على تعبيةٍ، ولا يخفى عليه من أمر عدوِّه شيءٌ.

وفي محاربته لمسيلمة ـ قبل معركة عقرباء ـ جعل طليعته مكنف بن زيد على الخيل، وأخاه حريثاً لجمع المعلومات اللاَّزمة للمعركة، وقد حان ترتيب أمور جيشه فالموقف شديد الخطورة، ولا بدَّ من أخذ التَّرتيبات اللاَّزمة فقد كان حامل الرَّاية في هذه المعركة عبد الله بن حفص بن غانم، ومن ثَمَّ تحوَّلت إِلى سالم مولى أبي حذيفة، ومعلومٌ: أنَّ الناس براياتهم ـ كما قالت العرب ـ فإِذا زالت زالوا، وقد قدَّم خالدٌ في هذه المعركة شرحبيل بن حسنة، وقسَّم الجيش أخماساً، على المقدِّمة خالد المخزوميُّ، وعلى الميمنة أبو حذيفة، وعلى الميسرة شجاعٌ، وفي القلب زيد بن الخطَّاب، وجعل أسامة بن زيدٍ على الخيَّالة، ووضع الظَّعن في المؤخرة، وفيها الخيام، والنِّساء، وهذا الترتيب الأخير قبل المعركة .

ثانيا: المعركة الفاصلة:

ولمَّا توجَّه الجيشان قال مسيلمة لأتباعه وقومه قبيل المعركة الفاصلة: اليوم يوم الغيرة، اليوم إِنْ هزمتم؛ تستنكح النِّساء سببيات، وينكحن غير حظريات، فقاتلوا على أحسابكم وامنعوا نساءكم!

وتقدَّم خالدٌ ـ رضي الله عنه ـ بالمسلمين حتَّى نزل بهم على كثيبٍ يشرف على اليمامة، فضرب به عسكره، واصطدم المسلمون والكفَّار، فكانت جولةٌ، وانهزمت الأعراب حتَّى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد، وهمُّوا بقتل أمِّ تميم حتَّى أجارها مُجَّاعة، وقال: نعمت الحرَّة هذه، وقد قُتل الرَّجَّال بن عنفوه ـ لعنه الله ـ في هذه الجولة، وقتل زيد بن الخطَّاب، ثمَّ تذامر الصَّحابة بينهم، وقال ثابت ابن قيس بن شمَّاس: لبئس ما عودتم أقرانكم، ونادوا من كلِّ جانبٍ: أخلصنا يا خالد! فخلصت ثلَّةٌ من المهاجرين والأنصار وحَميَ، وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يعهد مثلُه، وجعلت الصَّحابة يتواصون بينهم، ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة! بطل السِّحر اليوم، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إِلى أنصاف ساقيه وهو حاملٌ لواء الأنصار بعدما تحنَّط، ونكفَّن فلم يزل ثابتاً حتَّى قُتِل هناك، وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نؤتى مِنْ قبلك؟ فقال: بئس حامل القران أنا إِذاً، وقال زيد بن الخطَّاب: أيها الناس! عضُّوا على أضراسكم، واضربوا في عدوِّكم، وامضوا قدماً، وقال: والله لا أتكلَّم حتى يهزمهم الله، أو ألقى الله فأكلِّمه بحجَّتي، فقتل شهيداً ـ رضي الله عنه ـ وقال أبو حذيفة: يا أهل القران! زيِّنوا القران بالفعال، وحمل فيهم حتَّى أبعدهم، وأصيب ـ رضي الله عنه ـ.

وحمل خالد بن الوليد حتَّى جاوزهم، وسار لقتال مسيلمة، وجعل يترقَّب أن يصل إِليه، فيقتله، ثمَّ رجع، ثم وقف بين الصَّفَّين، ودعا البراز، وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر، وزيد، ثمَّ نادى بشعار المسلمين ـ وكان شعارهم يومئذٍ: يا محمداه! ـ وجعل لا يبرز له أحدٌ إِلا قتله ولا يدنو منه شيءٌ إِلا أكله، وقد ميَّز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكلُّ بني أب على رايتهم يقاتلون تحتها، حتَّى يعرف الناس من أين يؤتون، وصبر الصَّحابة في هذا الموطن صبراً لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدَّمون إِلى نحور عدوِّهم حتَّى فتح الله عليهم، وولَّى الكفارُ الأدبار واتَّبعوهم يقتلون في أقفائهم، ويضعون السُّيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتَّى ألجأوهم إِلى حديقة الموت وقد أشار عليهم مُحكَّم اليمامة ـ وهو مُحَكَّم بن الطُّفيل ـ لعنه الله ـ بدخولها، فدخلوها وفيها عدوُّ الله مسيلمة ـ لعنه الله ـ وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكرٍ مُحَكَّم بن الطُّفيل، فرماه بسهمٍ في عنقه وهو يخطب، فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم وأحاط بهم الصَّحابة.

ثالثا: بطولاتٌ نادرة:

1ـ قال البراء بن مالكٍ:

يا معشر المسلمين! ألقوني عليهم في الحديقة، فاحتملوه فوق الجَحَف، ورفعوها بالرِّماح حتَّى ألقوه عليهم، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتَّى فتحه ودخل المسلمون الحديقة من الباب الَّذي فتحه البراء، وفتح الَّذين دخلوا الأبواب الأخرى وحوصر المرتدُّون وأدركوا أنَّها القاضية، وأنَّ الحق جاء، وزهق باطلهم.

2ـ مصرع مسيلمة الكذاب:

وخلص المسلمون إِلى مسيلمة ـ لعنه الله ـ وإِذا هو واقف في ثلمة جدار كأنَّه جملٌ أورق، وهو يريد يتساند لا يعقل من الغيظ، وكان إِذا اعتراه شيطانه أزبد حتَّى يخرج الزَّبد من شدقيه، فتقدَّم إِليه وحشيُّ بن حربٍ مولى جبير بن مطعم ـ قاتل حمزة ـ فرماه بحربته فأصابه، وخرجت من الجانب الآخر وسارع إِليه أبو دُجانة سِمَاك بن خرشه فضربه بالسَّيف، فسقط، فنادت امرأة من القصر: وأ أمير الوضاءة قتله العبد الأسود، فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة قريباً من عشرة الاف مقاتل، وقيل: إِحدى وعشرون ألفاً، وَقُتِل من المسلمين ستُّمئة وقيل: خمسمئة، فالله أعلم، وفيهم من سادات الصَّحابة، وأعيان الناس مَنْ يذكر بعد، وخرج خالد وتبعه مُجَّاعة بن مرارة يرسف في قيوده، فجعل يريه القتلى ليعرِّفه بمسيلمة، فلمَّا مروا بالرَّجال ابن عنفوه قال له خالد: أهذا هو؟ قال: لا والله هذا خير منه هذا الرَّجال بن عنفوه . ثمَّ مرُّوا برجلٍ أصفر أخنس فقال: هذا صاحبكم، فقال خالد: قبحكم الله على اتِّباعكم هذا! ثمَّ بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مالٍ، وسبيٍّ.

3ـ أبو عقيل: عبد الرَّحمن بن عبد الله البلوي الأنصاريُّ الأوسيُّ:

كان أبو عقيلٍ من أوَّل من جُرح يوم اليمامة رُمي بسهمٍ، فوقع بين منكبيه، وفؤاده، فجُرح في غير مقتل، فأُخرج السَّهم، ووهن شقُّه الأيسر، فأُخذ إِلى معسكر المسلمين، فلمَّا حمي القتال، وتراجع المسلمون إِلى رحالهم، ومعسكرهم، وأبو عقيلٍ واهنٌ من جرحه سمع معن بن عديٍّ يصيح: يا للأنصار! الله الله، والكرَّة على عدوِّكم، وتقدَّم معنٌ القوم، ونهض أبو عقيل يريد قومه، فقال له بعض المسلمين: يا أبا عقيل! ما فيك قتال، قال: قد نوَّه المنادي باسمي، فقيل له: إِنَّما يقول يا للأنصار، لا يعني الجرحى، فقال أبو عقيل: فأنا من الأنصار، وأنا أُجيب، ولو حبواً، فتحزَّم أبو عقيل وأخذ السَّيف بيده اليمنى مجرداً ثمَّ جعل ينادي: يا للأنصار! كرَّة كيوم حُنين، فاجتمعوا جميعاً، وتقدَّموا بروحٍ معنويَّةٍ عاليةٍ يطلبون الشَّهادة أو النَّصر حتَّى أقحموا عدوَّهم الحديقة.

وفي هذا الهجوم قطعت يد أبي عقيل من المنكب، ووجدت به أربعة عشر جُرحاً كلُّها قد خلصت إِلى مقتلٍ، ومرَّ ابن عمر بأبي عقيل، وهو صريعٌ باخر رمق، فقال: يا أبا عقيل! فقال: لبيك! بلسانٍ ثقيل، ثمَّ قال: لمن الدَّبرة؟ فقال ابن عمر: أبشر، قد قُتِل عدوُّ الله! فرفع أبو عقيل إِصبعه إِلى السَّماء بحمد الله، قال عنه عمر ـ رضي الله عنه ـ: رحمه الله ما زال ينال الشَّهادة، ويطلبها، وإِنَّه لمن خيار أصحاب نبيِّنا.

4ـ نسيبة بنت كعب المازنيَّة الأنصاريَّة:

خرجت في جيوش خالد الذَّاهبة لليمامة، وباشرت القتال بنفسها، وأقسمت ألا تضع السلاح حتَّى يُقْتَل دجَّال بني حنيفة، وبرَّت بفضل الله بقسمها، وقتل مسيلمة، ورجعت إِلى المدينة، وبها اثنا عشر جرحاً ما بين طعنةٍ برمحٍ، وضربةٍ بسيفٍ، وكلُّها أوسمة شرف لهذه الصَّحابيَّة المجاهدة الَّتي ضربت لبنات جنسها مثلاً رائعاً في الدِّفاع عن الدِّين، والعقيدة، ولو أدَّى ذلك لأن تتحمَّل ما لا يتحمَّله في العادة مثيلاتها من ربَّات الخدور، وقد قام خالد بن الوليد بعد هذه المعركة برعايتها . فقد قالت نسيبة ـ رضي الله عنها ـ: فلمَّا انقطعت الحرب، ورجعت إِلى منزلي جاءني خالد بن الوليد بطبيبٍ فداواني بالزَّيت المغلي، وكان والله أشدَّ علي من القطع! وكان خالد كثير التَّعهُّد لي، حسن الصُّحبة لنا، يعرف لنا حقَّنا، ويحفظ فينا وصية نبيِّنا صلى الله عليه وسلم .

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022