جوانب من قصة مسيلمة الكذَّاب وبنو حنيفة...الظروف العامة والمقدمات الأولية لفتنته
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة التاسعة والعشرون
محرم 1441ه/ سبتمبر 2019
أولاً: التَّعريف به، ومقدمةٌ عنه:
هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفيُّ أبو شامة، متنبئ من المعمَّرين، وفي الأمثال: أكذب من مسيلمة، ولد ونشأ باليمامة في القرية المسمَّاة اليوم بالجبليَّة بقرب العينة بوادي حنيفة في نجد، وتلقَّب في الجاهلية بالرَّحمان، وعرف برحمان اليمامة، وأخذ يطوف في ديار العرب والعجم يتعلَّم الأساليب الَّتي يستطيع بها استغفال النَّاس واستجرارهم لجانبه، كجبل السَّدنة، والحوَّاء، وأصحاب الزَّجر، والخطِّ، ومذاهب الكهَّان، والعيَّاف، والسَّحرة، وأصحاب الجنِّ الذين يزعمون: أنَّ لهم تابعاتٍ إِلى غيرها من الخزعبلات .
ومن هذه المشعوذات: أنَّه كان يصل جناح الطَّائر المقصوص في الظَّاهر، وأدخل البيضة في القارورة.
وكان مسيلمة يدَّعي النُّبوَّة ورسول الله بمكَّة، وكان يبعث بأناس إِليها ليسمعوا القران، ويجرؤوه على مسامعه، فينسج على منواله، أو يسمعه هو نفسه للنَّاس زاعماً أنَّه كلامه.
وفي العام التَّاسع للهجرة؛ الَّذي عمَّ فيه الإِسلام ربوع الجزيرة العربية، أقبل وفد بني حنيفة على مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم يعلنون إِسلامهم، وكان مسيلمة معهم، فقد ذكر ابن إِسحاق: أنَّ مسيلمة كان ضمن المجموعة الَّتي قابلت الرسول صلى الله عليه وسلم ، من وفد بني حنيفة جاؤوا به يسترونه بالثِّياب، فلمَّا قابله؛ كلَّمه، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عسيب من سعف النَّخل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتك » ويبدو: أنَّه سأله الشَّركة في النُّبوَّة، أو الخلافة من بعده .
وفي روايةٍ: إِنَّ مسيلمة لم يكن في الوفد الَّذي قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه تخلَّف يحرس رحال القوم، فلمَّا قسم صلى الله عليه وسلم الأعطيات؛ أخرج له نصيباً مثل أنصبائهم، وقال لهم: « إِنَّه ليس بشرِّكم مكاناً » وذلك لقيامه على حراسة متاعهم.
وفي الرِّواية الأولى يبدو مسيلمة الكذَّاب شخصاً مريباً ممَّا استدعى ستره بهذه الثِّياب، وكأنَّه يخفي في نفسه، وتقاطيع وجهه شيئاً مدخولاً. وقد كان الرَّجل كذلك في حياته، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : «ليس بشرِّكم». لا تعني أنَّه خيرهم بل قد تعني أنَّهم أشرار، وليس هو بأكثر شرّاً منهم، بل هو شرِّير مثلهم، والحقيقة الَّتي كشفتها الأيام أَنَّ بني حنيفة كان جلُّهم أشراراً، وكان هو الذي يتولَّى كِبْرَ هذا الشرِّ فيهم.
1ـ رجوع وفد بني حنيفة:
ولمَّا رجع وفد بني حنيفة إِلى اليمامة حيث ديارهم؛ ادَّعى مسيلمة النُّبوَّة، وأعلن شركته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيها اعتماداً على قوله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّه ليس بشرِّكم». وطفق يتنبأ لقومه ويسجع، ويحلِّل، ويحرِّم كما يشتهي، فكان ممَّا زعم: أنَّه قرانٌ يأتيه: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمةً تسعى، من بين صفاقٍ وحشى، فمنهم من يموت ويُدَسُّ إلى الثَّرى، ومنهم من يبقى إِلى أجلٍ مسمَّى، والله يعلم السِّرَّ وأخفى.
وممَّا قاله مسيلمة: يا ضفدع بنت ضفدعين! نقِّي ما تنقِّين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطِّين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدِّرين. وقد حاول مسيلمة الكذَّاب أن يسرق أساليب القران مع إِحالة معانيه بحيث تخرج شوهاء ممسوخةً مثل قوله: فسبحان الله إِذا جاء الحياة كيف تحيون؟ وإِلى ملك السَّماء ترقون، فلو أنَّها حبَّة خردلةٍ، لقام عليها شهيدٌ يعلم ما في الصدور، ولأكثر النَّاس فيها ثبور.
لقد كان هذا الهراءُ غيرَ خافٍ على أحدٍ بمن فيهم هم أنفسهم قبل غيرهم، وقد ذكر ابن كثير: أنَّ عمرو بن العاص ـ قبل إِسلامه ـ قابل مسيلمة الكذاب، فسأله هذا ماذا أنزل على محمَّد من القران؟ فقال له عمرو: إِنَّ الله أنزل عليه سورة العصر، فقال مسيلمة: وقد أنزل الله عليَّ مثلها، وهو قوله: يا وبر، يا وبر! إِنَّما أنت أذنان، وصدر، وسائر حفر نقر. فقال له عمرو بن العاص: والله إِنَّك تعلم أنِّي أعلم: أنَّك تكذب! وعلَّق ابن كثيرٍ ـ رحمه الله ـ على قول عمرٍو هذا من قران مسيلمة المزعوم: فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القران، فلم يَرُجْ ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزَّمان.
وقال أبو بكر الباقلانيُّ ـ رحمه الله ـ: فأمَّا كلام مسيلمة الكذاب، وما زعم: أنَّه قران؛ فهو أخسُّ من أن ننشغل به، وأسخف من أن نفكِّر فيه، وإِنَّما نقلنا منه طرفاً ليتعجَّب القارئ، وليتبصَّر النَّاظر، فإِنَّه على سخافته قد أضلَّ، وعلى ركاكته قد أزلَّ، وميدان الجهل واسعٌ.
2ـ كتاب مسيلمة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب عنه:
وفي العام العاشر للهجرة عندما أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرض موته، تجرَّأ الخبيث، فكتب رسالة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعم لنفسه فيها الشَّركة معه في النُّبوَّة، كتبها له عمرو بن الجارود الحنفيُّ، وبعثها إِليه مع عبادة بن الحارث الحنفيِّ المعروف بابن النَّواحة، هذا نصُّها: من مسيلمة رسول الله(كَذَبَ) إِلى محمَّد رسول الله: أمَّا بعد: فإِنَّ لنا نصف الأرض، ولقريشٍ نصفها، ولكنَّ قريشاً لا يُنصفون. فردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة كتبها به أبي بن كعبٍ ـ رضي الله عنه ـ نصُّها: « بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من محمَّد النَّبيِّ إِلى مسيلمة الكذَّاب، أمَّا بعد: فإِنَّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتَّقين، والسَّلام على من اتبع الهدى ».
وكان مسيلمة قد بعث برسالته إِلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع رجلين أحدهما ابن النَّواحة المذكور، فلمَّا اطَّلع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: وماذا تقولان أنتما؟ فقالا: نقول كما قال. فقال صلى الله عليه وسلم : أما والله لولا أن الرسل لا تقتل؛ لضربت أعناقكم!
3ـ موقف حبيب بن زيد الأنصاري حامل رسالة رسول الله إِلى مسيلمة:
حمل حبيب بن زيدٍ الأنصاريُّ ابن أمِّ عمارة نسيبة بنت كعب المازنيَّة ـ رضي الله عنهما ـ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى مُسيلمة الكذَّاب، فعندما سلَّمه الرِّسالة؛ قال له مسيلمة الكذَّاب: أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله فيقول: نعم، فيقول له: أو تشهد أنِّي رسول الله؟ فيقول: أنا أصمُّ لا أسمع، ففعل ذلك مراراً، وكان في كلِّ مرَّة لا يجيبه فيها حبيب إِلى طلبه يقتطع من جسمه عضواً، ويبقى حبيب محتسباً صابراً إِلى أنْ قطَّعه إِرْباً إِرْباً، فاستشهد رضي الله عنه بين يديه، ولننظر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت سيرته، فلا يقتل الرُّسل، ولو كانوا من قبل أعدائه الألدَّاء الكفَّار، وحتَّى ولو كفروا أمامه، ما دام لهم هذه الحصانة .
أمَّا مسيلمة فيتعامى عن العهود، والمواثيق، فيقتل السُّفراء لا قتلاً عادياً بل قتل تشويهٍ، وتمثيلٍ، وتَشَفٍّ. إِنَّه الفارق بين الإِسلام الَّذي يحترم الكلمة، ويحترم الإِنسان ويخاصم بشرفٍ، ورجولةٍ، وبين الجاهليَّة الَّتي لا تعرف إِلا الفساد في الأرض، وتحكيم الهوى.
4ـ الرَّجَّال بن عنفوه الحنفيُّ:
استفحل أمر مسيلمة الكذَّاب في بني حنيفة، ويبدو أنَّهم كانوا على استعدادٍ للتجاوب مع زيفه، وخداعة، وافتتن به الرَّجَّال بن عنفوه الَّذي هاجر إِلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأسلم، وقرأ القران، وحفظ بعض سوره، كان قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى مسيلمة ليخذل عنه الأتباع، وليوضِّح جلية الأمر للنَّاس في هذه الفتنة الغاشية، فما كان منه عندما وصل إِليه إِلا أن انقلب على وجهه، وأخذ يشهد لمسيلمة أمام النَّاس: أنَّ رسول الله أشركه معه في النُّبوَّة، فكان هذا الشَّقيُّ أشدَّ فتنةً على النَّاس من مسيلمة نفسه.
وقد ألمح رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته إِلى منقلب الرَّجَّال، فقد روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: جلست مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في رهطٍ معنا الرَّجَّال بن عنفوه، فقال: «إِنَّ فيكم لرجلاً ضِرْسُه في النَّار أعظم من أحدٍ». فهلك القوم، وبقيتُ أنا والرَّجال، فكنت متخوِّفاً لها، حتَّى خرج الرَّجَّال مع مسيلمة، فشهد له بالنُّبوَّة، فكانت فتنة الرَّجَّال أعظم من فتنة مسيلمة.
ثانياً: الثَّابتون على الإِسلام من بني حنيفة:
طغت أخبار ردَّة مسيلمة الكذَّاب باليمامة على غيرها من أخبار ثبات جماعاتٍ من المسلمين الصَّادقين باليمامة بصفةٍ عامَّة، وفي بني حنيفة ـ قوم مسيلمة بصفَّةٍ خاصَّة ـ ولم يتعرَّض كثيرٌ من الكتَّاب المحدثين لذكر المسلمين الَّذين تمسَّكوا بإِسلامهم في فتنة مسيلمة، ووقفوا في وجهه، وساندوا جيوش الخلافة للقضاء على فتنته، وقد وجدت رواياتٍ معتبرةً تلقي الضَّوء على هذه الحقيقة الَّتي غابت عن الكثيرين.
يذكر ابن أعثم: أنَّ ممَّن ثبت على الإِسلام في اليمامة ثمامة بن أُثال، الَّذي كان من مشاهير بني حنيفة، ولذا اجتمعت إِليه عندما علموا بمسير خالدٍ إِليهم؛ لأنَّه كان واحداً من أكابرهم، وكان ذا عقلٍ، وفهمٍ، ورأي، وكان مخالفاً لمسيلمة على ما هو عليه من الردَّة، وكان ممَّا قاله لمن تابع مسيلمة: . . . ويحكم يا بني حنيفة! اسمعوا قولي؛ تهتدوا! وأطيعوا أمري؛ ترشدوا! واعلموا: أنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم كان نبيّاً مرسلاً، لا شكَّ في نبوَّته، ومسيلمة رجلٌ كذَّاب، لا تغترُّوا بكلامه، وكذبه، فإِنَّكم قد سمعتم القران الذي أتى به محمَّد صلى الله عليه وسلم واله عن ربِّه إِذ يقول: {حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ *} [غافر: 1 ـ 3].
فأين هذا الكلام من كلام مسيلمة الكذَّاب؟ فانظروا في أموركم، ولا يذهبنَّ هذا عنكم، ألا وإِنِّي خارجٌ إِلى خالد بن الوليد في ليلتي هذه طالباً منه الأمان على نفسي، ومالي، وأهلي، وولدي.
وكان جواب من هُدي إِليه من قومه:(نحن معك يا أبا عامر! فكن من ذلك على علمٍ). ثمَّ خرج ثمامة بن أُثال في جوف اللَّيل في نفرٍ من بني حنيفة حتَّى لحق بخالد بن الوليد، واستأمن إِليه، فأمَّنه، وأمَّن أصحابه.
وجاء في رواية الكلاعي قولُه لهم: بأن لا نبيَّ مع محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولا بعده، وتذكرُ طرفاً من قران مسيلمة للتَّدليل على سخفه، وتروي شعراً ينسب إِلى ثمامة منه قوله:
مُسَيْلَمَةُ ارجعْ، وَلا تَمَحَّكِ فَإِنَّك في الأَمْرِ لَمْ تشرك
كذبت على الله في وَحْيِه فكان هَوَاك هوى الأنْوَكِ
ومنَّاكَ قومُك أَنْ يَمْنعُوك وإِن يأتِهِمْ خالدٌ تترك
فما لَكَ مِنْ مَصْعَدٍ في السَّماءِ وَلاَ لَكَ في الأَرْض مِنْ مَسْلَكِ
وقد جاء في روايةٍ دورُ ثمامة في حرب مسيلمة، ومساعدة عكرمة بن أبي جهلٍ له في هذه المهمَّة.
وقد ساهم ثمامة بن أُثال في مساعدة العلاء بن الحضرميِّ في حربه للمرتدِّين بالبحرين، وكان معه مسلمو بني حنيفة من بين سُحيم، ومن أهل القرى من سائر بني حنيفة، وكان ثمامة من أهل البلاء في قتال المرتدِّين مع العلاء الحضرميِّ.
وممَّن ثبت على الإِسلام في اليمامة معمر بن كلاب الرُّماني، فقد وعظ مسيلمة، وبني حنيفة الَّذين تابعوه، ونهاهم عن الردَّة، وكان جاراً لثمامة بن أُثال، وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد. ومن سادات اليمامة الَّذين كانوا يكتمون إِسلامهم: ابن عمرو اليشكري الَّذي كان من أصدقاء الرَّجَّال بن عنفوه، وقال شعراً فشا في اليمامة، وأنشده النَّاس، ومن هذا الشِّعر قوله:
إِنَّ ديني دينُ النَّبيِّ وفي القو مِ رِجَالٌ على الهدى أمثالي
أهلك القومَ مُحكمُ بن طُفيلٍ ورجالٌ لَيْسُوا لَـنَا برجال
انا تَكُنْ مِيْتَتِي عَلَى فِطْرَةِ الله حنيفاً فَإِنَّني لا أبالي
فبلغ ذلك مسيلمة، ومحكماً، وأشراف أهل اليمامة، فطلبوه، ولكنَّه فاتهم، ولحق بخالد بن الوليد، وأخبره بحال أهل اليمامة، ودلَّه على عرواتهم. وممَّن ثبت على الإِسلام في اليمامة أيضاً: عامر بن مَسْلَمَة، ورهطُه.
ولقد أكرم أبو بكر الثَّابتين من بني حنيفة، وذلك في أشخاص ذوي قرابتهم، ومن ذلك تعيينه لمطرف بن النُّعمان بن مسلمة ابن أخي كلٍّ من ثمامة بن أُثال، وعامر بن مسلمة اللَّذين كان لهما ثباتٌ في فتنة الردَّة، عينه والياً على اليمامة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي