الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

قضاء الصِّدِّيق على فتنة سجاح، وبنو تميم، ومقتل مالك بن نويرة اليربوعي...فصول من تاريخ حروب الردة...حقائق وعبر:

بقلم د. علي محمد الصلابي

الحلقة السابعة والعشرون

محرم 1441 ه/ سبتمبر 2019

 

كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيَّام الردَّة، منهم من ارتدَّ ومنع الزكاة، ومنهم من بعث بأموال الصَّدقات إِلى الصِّدِّيق، ومنهم من توقَّف لينظر في أمره، فبينما هم كذلك؛ إِذ أقبلت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عُقفان التغلبي من الجزيرة، وهي من نصارى العرب، وقد ادَّعت النُّبوَّة ومعها جنودٌ من قومها، ومن التفَّ بهم، وقد عزموا على غزو أبي بكرٍ الصِّدِّيق، فلمَّا مرت ببلاد بني تميم؛ دعتهم إِلى أمرها، فاستجاب لها عامَّتهم، وكان ممَّن استجاب لها مالك بن نويرة التَّميمي، وعطارد بن حاجب، وجماعةٌ من سادات وأمراء بني تميم، وتخلَّف اخرون منهم عنها، ثمَّ اصطلحوا على أن لا حرب بينهم، إِلا أنَّ مالك بن نويرة لمَّا وادعها؛ ثناءها عن عزمها، وحرَّضها على بني يربوع، ثمَّ اتَّفق الجميع على قتال النَّاس، وقالوا: بمن نبدأ؟ فقالت لهم فيما تسجعه: أعدُّوا الرِّكاب، واستعدُّوا للنِّهاب، ثمَّ أغيروا على الرَّباب فليس دونها حجاب، ثمَّ استطاع بنو تميم إقناعها بقصد اليمامة لتأخذها من مسيلمة بن حبيب الكذَّاب، فهابه قومها، وقالوا: إِنَّه قد استفحل أمره، وعظم، فقالت لهم فيما تقوله: عليكم باليمامة، دفُّوا دفيف الحمامة، فإِنَّها غزوةٌ صرَّامة، لا تلحقكم بعدها ملامة .

فعمدوا لحرب مسيلمة، فلمَّا سمع بمسيرها إِليه خافها على بلاده، وذلك أنَّه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال، وقد ساعده عكرمة بن أبي جهل لجنود المسلمين وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالدٍ، فبعث إِليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الَّذي كان لقريش لو عدلت، فقد ردَّه الله عليكِ فحباك به، وراسلها ليجتمع بها في طائفةٍ من قومه، فركب إِليها في أربعين من قومه، وجاء إِليها فاجتمعا في خيمةٍ فلمَّا خلا بها، وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض، وقبلت ذلك، قال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إِذا طمع، ولا يزال أمره في كلِّ ما يسرُّ مجتمع، ثمَّ قال لها: هل لك أن أتزوجك، واكل بقومي وقومك العرب؟ قالت: نعم، وأقامت عنده ثلاثة أيام، ثمَّ رجعت إِلى قومها، فقالوا: أصدقك؟ فقالت: لم يصدقني شيئاً، فقالوا: إِنَّه قبيح على مثلك أن تتزوَّج بغير صداقٍ، فبعثت إِليه تسأله صداقاً، فقال: أرسلي إِليَّ مؤذنك، فبعثته إِليه، وهو شبث بن ربعي الرياحي ـ فقال:

ناد في قومك: أنَّ مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين ممَّا أتاكم به محمَّد ـ يعني صلاة الفجر، وصلاة العشاء الآخرة ـ فكان هذا صداقها عليه.

ثمَّ انثنت سجاح راجعةً إِلى بلادها، وذلك حين بلغها دنوُّ خالدٍ من أرض اليمامة، فكرَّت راجعةً إِلى الجزيرة بعدما قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه، فأقامت في قومها بني تغلب إِلى زمان معاوية، فأجلاهم منها عام الجماعة.

كان مالكٌ قد صانَعَ سجاح حين قدمت أرض الجزيرة، فلما اتَّصلت بمسيلمة، ثمَّ ترحَّلت إِلى بلادها؛ ندم مالك بن نويرة على ما كان من أمره، وتلوَّم في شأنه، وهو نازلٌ بمكان يقال له: البُطاح، فقصده خالد بجنوده، وتأخرت عنه الأنصار، وقالوا: إِنا قد قضينا ما أمرنا به الصِّدِّيق، فقال لهم خالد: إِنَّ هذا أمرٌ لا بدَّ من فعله، وفرصةٌ لا بدَّ من انتهازها، وإِنَّه لم يأتني فيها كتاب، وأنا الأمير وإِليَّ ترد الأخبار، ولست بالَّذي أجبركم على المسير، وأنا قاصد البُطاح، فسار يومين، ثمَّ لحقه رسول الأنصار يطلبون منه الانتظار، فلحقوا به .

فلمَّا وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة بَثَّ خالدٌ السَّرايا في البُطاح يدعون النَّاس، فاستقبله أمراء بني تميم بالسَّمع والطَّاعة، وبذلوا الكوات إِلا ما كان من مالك بن نويرة، فإِنَّه متحيِّرٌ في أمره متنحٍّ عن النَّاس فجاءته السَّرايا فأسروه، وأسروا معه أصحابه، واختلفت السَّريَّة فيهم، فشهد أبو قتادة ـ الحارث بن ربعي الأنصاريُّ ـ أنهم أقاموا الصَّلاة، وقال اخرون: إِنَّهم لم يؤذِّنوا، ولا صلَّوا، فيقال: إِنَّ الأسارى باتوا في كبولهم في ليلةٍ شديدة البرد، فنادى منادي خالدٍ: أن أدفئوا أسراكم، فظنَّ القوم أنَّه أراد القتل، فقتلوهم، وقتل ضرار بن الأزور مالكَ ابن نويرة، فلمَّا سمع خالد الواعية خرج، وقد فرغوا منهم . فقال: إِذا أراد الله أمراً أصابه، ويقال: بل استدعى خالدٌ مالك بن نويرة فأَنَّبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزَّكاة، وقال: ألم تعلم أنَّها قرينة الصَّلاة؟ فقال مالك: إِنَّ صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال: أهو صاحبنا، وليس بصاحبك؟ يا ضرار اضرب عنقه، فضُرِبتْ عنقُه.

وقد تكلم أبو قتادة مع خالدٍ فيما صنع، وتقاولا في ذلك، حتَّى ذهب أبو قتادة، فشكاه إِلى الصِّدِّيق، وتكلَّم عمر مع أبي قتادة في خالدٍ، وقال للصِّدِّيق: اعزله، فإِنَّ في سيفه رَهقاً، فقال أبو بكر: لا أشيم سيفاً سلَّه الله على الكفَّار، وجاء متمِّم بن نويرة، فجعل يشكو إِلى الصِّدِّيق خالداً، وعمر يساعده، وينشد الصديق ما قال في أخيه من المراث، فوداه الصِّديق من عنده.

دروسٌ، وعبر، وفوائد:

أـ من ثبت على الإِسلام من بني تميم:

لم يرتدَّ عن الإِسلام كلُّ قبائل، أو كلُّ أفراد، أو كلُّ رؤساء بني تميم، كما حاول أن يصوِّر ذلك بعضٌ من المؤرخين المحدثين، والحقيقة أنَّه لقوَّة إِسلام وثبات بعض بطون وأفراد ورؤساء بني تميم، فقد استطاع مالكُ بن نويرة إِقناع سجاح التَّميمية بقتالهم قبل قتالها أبا بكرٍ الصِّديق، وعندما واجهت مسلمي تميمٍ تلقَّت على أيديهم هزيمةً نكراء، فعدلت بعدها عن الذَّهاب إِلى المدينة، وتوجَّهت إِلى اليمامة، وقد تضافرت الرِّوايات التَّاريخيَّة لتؤكِّد هذه الحقيقة الَّتي ذكرناها، بل إِنَّ التَّدقيق في الرِّوايات يبيِّن: أنَّ من ثبت على الإِسلام من بني تميم كان أكثر من المتردِّدين، والمرتدِّين، وتعكس بعض الرِّوايات دور قبيلة الرَّباب بصفةٍ خاصَّة في الوقوف في وجه المرتدِّين، ولذلك استحقَّت من سجاح، وجماعتها الحرب .

وتشير بعض الرِّوايات إِلى المواجهة العظيمة الَّتي وقعت بين الرَّباب، وسجاح، وانتهت أخيراً بالصُّلح عندما فشلت سجاح في إِخضاع مسلمي تميم، وإِلى ندم قيس بن عاصمٍ على متابعة المرتدِّين، وسوقه صدقات قومه إِلى المدينة وكانت الدَّائرة على سجاح، وجماعتها.

ب ـ خالد ومقتل مالك بن نويرة:

اختلفت الآراء في مقتل مالك بن نويرة اختلافاً كثيراً: أقتل مظلوماً أم مستحقّاً؛ أي: أكافراً قتل، أم مسلماً؟ وقام الدُّكتور علي العتوم بتحقيق هذه المسألة في كتابه « حركة الردَّة » وتعرَّض الشيخ محمد الطَّاهر ابن عاشور في كتابه « نقدٌ علمي لكتاب الإِسلام وأصول الحكم» لهذه القضيَّة.

وقام الشَّيخ محمد زاهد الكوثريُّ بالدِّفاع عن خالد في كتابه مقالات الكوثري، وغير ذلك من الباحثين .واخترت من بين مَنْ بحث هذا الموضوع ما ذهب إِليه الدُّكتور علي العتوم؛ لأنَّه حقَّق المسألة تحقيقاً علميّاً متميِّزاً، واهتمَّ بأحداث الردَّة اهتماماً لم أجده ـ على حسب اطلاعي ـ عند أحدٍ من الباحثين المعاصرين، وخرج بنتيجةٍ أوافق عليها: أنَّ الذي أردى مالكاً: كِبْرُه، وتردُّده، فقد بقي للجاهليَّة في نفسه نصيبٌ وإِلا لما ماطل هذه المماطلة في التَّبعيَّة للقائم بأمر الإِسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي تأدية حقِّ بيت مال المسلمين عليه المتمثِّل بالزَّكاة، وفي تصوُّري: أنَّ الرجل كان يحرص على زعامته، ويناكف ـ في الوقت نفسه ـ بعض أقربائه من زعماء بني تميمٍ الَّذين وضعوا عصا الطَّاعة للدَّولة الإِسلاميَّة، وأدَّوا ما عليهم لها من واجباتٍ، ولقد كانت أفعاله وأقواله على السَّواء تؤيد هذا التصوُّر، فارتداده، ووقوفه بجانب سجاح وتفريقه إِبل الصَّدقة على قومه، بل ومنعهم من أدائها لأبي بكرٍ، وعدم إِصاخته لنصائح أقربائه المسلمين في تمرُّده، كلُّ ذلك يدينه ويجعل منه رجلاً أقرب إِلى الكفر منه إِلى الإِسلام .

ولو لم يكن ممَّا يحتجُّ به على مالك إِلا منعه للزَّكاة؛ لكفى ذلك مُسَوِّغاً لإِدانته، وهذا المنع مؤكَّدٌ عند الأقدمين، فقد جاء في « طبقات فحول الشُّعراء » لابن سلاَّم قوله: والمجمع عليه: أنَّ خالداً حاوره ورادَّه، وأَنَّ مالكاً سمح بالصَّلاة، والتوى بالزَّكاة، جاء في « شرح النَّووي لصحيح مسلمٍ » قوله عن المرتدِّين: كان في ضمن هؤلاء مَنْ يسمح بالزَّكاة ولا يمنعها، إِلا أنَّ رؤساءهم صدُّوهم عن ذلك، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع؛ فإِنَّهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوها إِلى أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك، وفرَّقها.

ج ـ زواج خالد بأمِّ تميم:

أمُّ تميم هي: ليلى بنت سنان المنهال زوج مالك بن نويرة، وهذا الزَّواج حدث حوله جدلٌ كثيرٌ واتَّهم من لهم أغراضٌ خالداً بعدَّة تهم لا تصحُّ، ولا تثبت أمام البحث العلميِّ النَّزيه، وخلاصة القصَّة فهناك من اتَّهم خالداً بأنَّه تزوج أم تميم فور وقوعها في يده لعدم صبره على جمالها، ولهواه السَّابق فيها، وبذلك يكون زواجه منها ـ حاشا لله ـ سفاحاً، فهذا القول مستحدثٌ لا يعتدُّ به؛ إِذ خلت المصادر القديمة من الإِشارة إِليه، بل هي على خلافه في نصوصها الصَّريحة، يذكر الماورديُّ: أنَّ الذي جعل خالداً يقوم على قتل مالك هو منعه للصَّدقة الَّتي استحلَّ بها دمه، وبذلك فسد عقد المناقحة بينه وبين أمِّ تميم، وحُكْمُ نساء المرتدِّين إِذا لحقن بدار الحرب أن يسبين ولا يُقتلن، كما يشير إِلى ذلك الإِمام السَّرخسي،

فلمَّا صارت أمُّ تميم في السَّبي اصطفاها خالدٌ لنفسه، فلمَّا حلَّت بنى بها، ويعلِّق الشيخ أحمد شاكر على هذه المسألة بقوله: إِنَّ خالداً أخذها هي وابنها ملك يمين بوصفها سبيةً؛ إِذ إِنَّ السَّبية لا عدَّة عليها، وإِنَّما يحرم حرمةً قطعيَّةً أن يقربها مالكها إِن كانت حاملاً قبل أن تضع حملها، وإِن كانت غير حاملٍ حتى تحيض حيضةً واحدةً، ثمَّ دخل بها، وهو عملٌ مشروعٌ جائزٌ لا مغمز فيه ولا مطعن، إِلا أنَّ أعداءه والمخالفين عليه رأوا في هذا العمل فرصتهم، فانتهزوها، وذهبوا يزعمون: أنَّ مالك بن نويرة مسلمٌ، وأنَّ خالداً قتله من أجل امرأته، وقد اتُّهم خالدٌ بأنَّه في زواجه هذا خالف تقاليد العرب، فقد قال العقاد: قتل خالدٌ مالك بن نويرة، وبنى بامرأته في ميدان القتال على غير ما تألفه العرب في جاهليةٍ وإِسلام، وعلى غير ما يألفه المسلمون، وتأمر به الشَّريعة.

فهذا القول بعيدٌ عن الصِّحَّة، فقد كان يحصل كثيراً في حياة العرب قبل الإِسلام إِثر حروبهم وانتصاراتهم على أعدائهم أن يتزوَّجوا من السَّبايا، وكانوا يفخرون بذلك، ولذلك كثير فيهم أولاد السَّبايا، وهذا حاتم الطائي يقول:

وما أنْكحونا طائِعِين بناتِهِمْ ولكنْ خطبناهَا بأسيافِنَا قسرا

وكائن ترى فينا من ابنِ سَبِيَّةٍ إِذا لقي الأبطالَ يطعنُهُمْ شزرا

ويأخذ راياتِ الطِّعان بكفِّه فيوردُها بيضاً ويصدُرها حُمْرا

وأمَّا من النَّاحية الشَّرعية، فقد أتى خالد أمراً مباحاً، وسلك إِليه سبيلاً مشروعةً أتاه من هو أفضل منه، فإِذا كان قد أخذ عليه زواجه إِبَّان الحرب، أو في أعقابها، فإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوَّج بجويرية بنت الحارث المستلقية إِثر غزوة المريسية، وقد كانت في سبايا بني المصطلق، فقضى عنها كتابتها، وتزوَّجها، وكان بها طابع يمنٍ وبركةٍ على قومها، إِذ أعتق لهذا الزَّواج مئة رجل من أسراهم لأنَّهم أصبحوا أصهاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من اثاره المباركة كذلك إِسلام أبيها الحارث بن ضرار، كما أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ تزوج بصفيَّة بنت حيي بن أخطب اليهوديِّ إِثر غزوة خيبر، وبنى بها في خيبر، أو ببعض الطَّريق، وإِذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة؛ فقد توارى العتاب، وانقطع الملام، ودفاع الدُّكتور محمد حسين هيكل عن خالدٍ اتبع فيه منهجيَّةً غير مقبولةٍ؛ لأنَّه ينبغي لنا ألا نغضَّ الطرف عن مخالفات خالدٍ على حساب الإِسلام، فخالدٌ وغيره محكومٌ بالشَّرع الَّذي يعلو، ولا يُعلى عليه، وإِن تنزيه الأشخاص لا يساوي تشويه المنهج بأيَّة حال، فقد قال الدكتور هيكل: وما التزوُّج من امرأةٍ على خلاف تقاليد العرب بل ما الدُّخول بها قبل أن يتمَّ تطهيرها، إِذا وقع ذلك من فاتح غزا فحقَّ له بحق الغزو أن تكون له سبايا يصبحن ملك يمينه!!

إِنَّ التَّزمُّت في تطبيق التَّشريع لا ينبغي أن يتناول النَّوابغ العظماء من أمثال خالدٍ، وبخاصَّةٍ إِذا كان ذلك يضرُّ بالدَّولة، أو يعرِّضها للخطر.

وردَّ الشيخ أحمد شاكر بهذا الخصوص، فقال: لشدَّ ما أخشى أن يكون المؤلف تأثر بما قرأ من أخبار نابليون، وغيره من ملوك أوربة في مباذلهم، وإِسفافهم، وبما كتب الكاتبون من الإِفرنج في الاعتذار عنهم لتخفيف آثامهم بما كان لهم من عظمةٍ، وبما أسدوا إِلى أممهم من فتوحٍ وأيادٍ، حتَّى يُظنَّ بالمسلمين الأوَّلين أنَّهم أمثال هؤلاء، فيقول: إِنَّ التَّزمُّت في تطبيق التَّشريع لا يجب أن يتناول النَّوابغ العظماء من أمثال خالدٍ، وهذا قولٌ يهدم كلَّ دينٍ، وخلقٍ.

د ـ دعم الصِّدِّيق للقيادة الميدانيَّة:

كان بعض رجالٍ من جيش خالدٍ قد شهدوا: أنَّ القوم أذَّنوا حين سمعوا أذان المسلمين، وأنَّهم بذلك قد حقنوا دماءهم، وأنَّ قتلهم لا يحلُّ، ومن أولئك القوم أبو قتادة ـ رضي الله عنه ـ فأكبر الأمر، وزاد ذلك عنده: أنَّه رأى خالد بن الوليد قد تزوَّج امرأة مالك بن نويرة، ففارق أبو قتادة خالداً، وقدم على أبي بكرٍ ليشكو إِليه خالداً فيما خالف فيه، فرأى أبو بكر: أنَّ فراق أبي قتادة لخالدٍ خطأٌ لا ينبغي أن يرخَّص فيه له، ولا لغيره، لأنَّه يكون سبباً للفشل والجيش في أرض العدوِّ، فاشتدَّ على أبي قتادة وردَّه إِلى خالد، ولم يرض منه إِلا أن يعود، فينخرط تحت لوائه، وعملُ أبي بكر من أحكم السِّياسات الحربيَّة .

وقد قام الصِّدِّيق بالتَّحقيق في مقتل ابن نويرة، وانتهى إِلى براءة ساحة خالدٍ من تهمة قتل مالك بن نويرة، وأبو بكر في هذا الشَّأن أكثر اطلاعاً على حقائق الأمور، وأبعد نظراً في تصريفها من بقيَّة الصَّحابة؛ لأنَّه الخليفة، وإِليه تصل الأخبار، كما أنَّه أرجح إِيماناً منهم، وهو في معاملته لخالد يحتذي على سنن رسول الله؛ إِذ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يعزل خالداً عمَّا ولاه في الوقت الذي كان يقع منه ما قد لا يرتاح له، وكان يعذره إِذ يعتذر، ويقول: « لا تؤذوا خالداً، فإِنَّه سيف من سيوف الله صبَّه الله على الكفار».

إِن من كمال الصِّدِّيق توليته لخالدٍ، واستعانته به؛ لأنَّه كان شديداً؛ ليعتدل به أمره، ويخلط الشِّدَّة باللين، فإِنَّ مجرَّد اللِّين يفسده، ومجرَّد الشدة تفسده، فكان يقوم باستشارة عمر، وباستنابة خالدٍ، وهذا من كماله؛ الذي صار به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا اشتد في قتال أهل الردَّة شدَّةً برَّز بها على عمر، وغيره، فجعل الله فيه الشدَّة ما لم يكن فيه قبل ذلك، وأمَّا عمر فكان شديداً في نفسه، فكان من كماله ـ في خلافته ـ استعانته باللِّين؛ ليعتدل أمره ـ فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجرَّاح، وسعد بن أبي وقَّاص، وأبي عبيد الثَّقفي، والنُّعمان بن مقرِّن، وسعيد بن عامر، وأمثال هؤلاء من أهل الصَّلاح والزُّهد الَّذين هم أعظم زهداً وعبادةً من خالد بن الوليد، وأمثاله، وقد جعل الله في عمر من الرَّأفة ـ بعد الخلافة ـ ما لم يكن فيه قبل ذلك تكميلاً له؛ حتَّى صار أمير المؤمنين.

وقد ذكر ابن تيميَّة كلاماً نفيساً عن ذلك، فقال: . . .. وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يستعمل خالداً في حرب أهل الردَّة، وفي فتوح العراق، والشام، وبدت منه هفواتٌ كان له فيها تأويلٌ، وقد ذكر له عنه: أنَّه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها بل عاتبه عليها، لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه؛ لأن المتولِّي الكبير إِذا كان خلقه يميل إِلى اللِّين؛ فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إِلى الشِّدَّة، وإِذا كان خلقه يميل إِلى الشِّدَّة، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إِلى اللِّين ليعتدل الأمر، ولهذا كان أبو بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يؤثر استنابة خالدٍ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤثر عزل خالدٍ، واستنابة أبي عبيدة بن الجرَّاح ـ رضي الله عنه ـ لأنَّ خالداً كان شديداً كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان ليِّناً كأبي بكرٍ، وكان الأصلح لكلٍّ منهما أن يولِّي مَنْ ولاه ليكون أمره معتدلاً، ويكون بذلك من خلفاء رسول الله الَّذي هو معتدلٌ، حتَّى قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: « أنا نبيُّ الرَّحمة، أنا نبيُّ الملحمة ».

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022