قضاء الصديق على الأسود العنسي وردَّة اليمن الثانية... معاني روحية ودروس تربوية:
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الخامسة والعشرون
-المرأة بين الهدم والبناء:
في حروب الردَّة باليمن تظهر صورتان مختلفتان للنِّساء: صورة المرأة الطَّاهرة العفيفة؛ التي تقف مع الإِسلام، وتحارب الرَّذيلة، وتقف مع المسلمين لكبح جماح شياطين الإِنس والجنِّ، فهذه(ازاد) الفارسيَّة زوج شهر بن باذان، وابنة عمِّ فيروز الفارسي تقف مع الصَّفِّ الإِسلامي بكلِّ عزمٍ وتصميمٍ، وتدبِّر مع المسلمين خطَّةً محكمةً لاغتيال الأسود العنسيِّ كذَّاب اليمن.
فالمسلم في كلِّ عصرٍ يُكبر في ازاد المسلمة غيرتها على دينها، وينظر باستهجانٍ إلى ما مجَّه قلم الدُّكتور محمد حسين هيكل عندما تحدَّث عن موقف ازاد من كذَّاب اليمن، وحاول أن يُرجع ما قامت به المرأة المسلمة ازاد الفارسيَّة إِلى عصبيةٍ شهوانيَّةٍ، وذلك في قوله عن الأسود: ولمَّا استغلظ أمره، وأثخن في الأرض استخفَّ بقيسٍ، وبفيروز، وجعل يرى في الأخيرين وفي سائر الفرس مَنْ تنطوي أضالعهم على المكر به، وعرفت زوجتُه الفارسية ذلك منه، فثار في عروقها دم قومها، وتحرَّكت في نفسها عوامل الحقد على الكاهن القبيح قاتل زوجها الشَّابِّ الفارسيِّ؛ الذي كانت تحبُّه من أعماق قلبها، ولقد استطاعت بسجيَّتها النِّسوية أن تخفي ذلك عنه، وأن تسخو في البذل له من أنوثتها سخاءً جعله يركن إِليها، ويطمع في وفائها.
إِنَّه أسلوب فيه لمزٌ بالفارسيَّة المؤمنة ازاد، وكأنَّه يتَّهمها بالغدر لفارستيها بالأسود العربيِّ، ويأخذ عليها هذا الصَّنيع الذي كانت تظهر له فيه ما لا تخفي، إِنَّه توجيهٌ لحدث في غير محلِّه، وهذه المرأة الصَّالحة المسلمة، قتل الأسود زوجها المسلم، وتزوَّجها غصباً، وهي الَّتي وصفت الأسود الكذَّاب بقولها: والله ما خلق الله شخصاً أبغض إِليَّ منه، ما يقوم لله على حقٍّ، ولا ينتهي عن محرَّمٍ، وهي الَّتي جعلها الله تعالى سبباً لهلاك الطَّاغية الأسود العنسيِّ، فلولا الله، ثمَّ جهودها الميمونة ما استطاع فيروز، وأصحابه قتل الأسود، فالَّذي حرَّكها لذلك العمل العظيم؛ الذي فيه حتفها وموتها، هو حبُّها لدينها، وعقيدتها، وإِسلامها، وبغضها للأسود العنسي الكذَّاب؛ الَّذي أراد أن يقضي على الإِسلام في اليمن، فهذه صورةٌ مشرقةٌ مضيئةٌ لما قامت به المرأة المسلمة في اليمن من الجهاد من أجل دينها .
أمَّا الصورة الكالحة المظلمة الَّتي قامت بها بعض بنات اليمن من يهود، أو مَنْ لفَّ لفَّهُنَّ في حضرموت، فقد طرن فرحاً بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقمن الليالي الحمراء مع المجَّان، والفسَّاق، يشجعن على الرَّذيلة، ويزرين بالفضيلة، فقد رقص الشَّيطان فيها معهنَّ وأتباعه طرباً لنكوص النَّاس عن الإِسلام، والدَّعوة إِلى التمرُّد عليه، وحرب أهله.
لقد حنَّت تلك البغايا إِلى الجاهليَّة، وما فيها من المنكرات، وانجذبن إِليها انجذاب الذُّباب إِلى أكوامٍ من الأقذار، فقد تعودن على الفاحشة في حياتهنَّ الجاهليَّة، فلمَّا جاء الإِسلام؛ حجزتهنَّ نظافته عنها، فشعرْن وكأنهنَّ بسجنٍ ضيِّقٍ يكدْنَ يختنقْنَ فيه، ولذا ما إِن سمعْنَ بموته صلى الله عليه وسلم، حتَّى أظهرن الشَّماتة، فخضَّبن أيديهنَّ بالحناء، وقمن يضربن بالدُّفوف، ويغنِّين فرحتهن، فقد تحقَّق لهنَّ ما كنَّ يتمنَّينه على السُّلطة الجديدة، وكان معظمهنَّ من علية القوم هناك وبعضهنَّ يهوديَّات.
وقد كان لكلا الطَّرفين: أشراف القوم من العرب واليهود مصلحةٌ في الانتقاض على مبادى الإِسلام، والانقضاض على كيانه، لقد عرفت هذه الحركة في التَّاريخ بحركة البغايا، وكن نيفاً وعشرين بغيّاً متفرِّقات في قرى حضرموت، وأشهرهنَّ هرُّ بنتُ يامن اليهوديَّة الَّتي ضرب المثل بها في الزِّنى، فقيل: أزنى من هرٍّ، ويذكر التَّاريخ: أنَّ الفسَّاق كانوا يتناوبونها لهذا الغرض في الجاهلية، ولكنَّ هؤلاء السَّواقط لم يُتركن وشأنهنَّ يفسدن في المجتمع كما يحلو لهنَّ، فقد وصل الخبر إِلى الصِّدِّيق، وأرسل رجلٌ من أهل اليمن إِليه هذه الأبيات:
أبلغْ أبا بكرٍ إِذا ما جِئْتَهُ أنَّ البَغَايا رُمنَ أيَّ مرام
أظهرن مِنْ مَوْتِ النَّبيِّ شَمَاتةً وخضَبْنَ أَيْدِيَهُنَّ بالعُلاَّم
فاقْطَعْ هُديت أكُفَّهُنَّ بِصَارمٍ كالبَرْقِ أمضى مِنْ مُتونِ غَمامِ
فكتب أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ إِلى عامله هناك المهاجر بن أبي أميَّة كتاباً في منتهى الحزم والصَّرامة، جاء فيه:(فإِذا جاءك كتابي هذا؛ فسر إِليهنَّ بخيلك ورجلك حتَّى تقطع أيديهنَّ، فإِنْ دفعك عنهنَّ دافعٌ، فأعذر إِليه باتخاذ الحجَّة عليه، وأعلمه عظيم ما دخل فيه من الإِثم والعدوان، فإِن رجع؛ فاقبل منه، وإِن أبى؛ فنابذه على سواءٍ إِنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين ....).
فلمَّا قرأ المهاجر الكتاب جمع خيله، ورجله وسار إِليهنَّ، فحال بينه وبينهن رجالٌ من كندة، وحضرموت، فأعذر إِليهم، فأبوا إِلا قتاله، ثمَّ رجع عنه عامَّتهم، فقاتلهم فهزمهم، وأخذ النِّسوة فقطع أيديهنَّ فمات عامَّتهنَّ، وهاجر بعضهن إِلى الكوفة)). لقد نلن جزاءهنَّ في محكمة الإِسلام العادلة؛ إِذ أخذهنَّ عامل أبي بكر على تلك البلاد، وطبَّق عليهنَّ حدَّ الحرابة .
ونُقِلَتِ الأخبار للخليفة في امرأتين من بلاد حضرموت تغنتا بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكان قد عاقبهما المهاجر بن أبي أميَّة والي تلك البلاد بقطع يديهما، ونزع ثانيتيهما، فلم يرضَ أبو بكر، وعدَّها عقوبةً خفيفةً في حقِّ هاتين المجرمتين، وقد وجَّه إِليه كتاباً بهذا الخصوص قال فيه بحقِّ الناعفة بشتم صاحب الرِّسالة: بلغني الَّذي سرت به في المرأة الَّتي تغنَّت، وزمرت بشتيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا ما قد سبقتني فيها؛ لأمرتك بقتلها؛ لأنَّ حدَّ الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلمٍ فهو مرتدٌّ، أو معاهد فهو محاربٌ غادرٌ.
وقال في الأخرى: بلغني أَنَّك قطعت يد امرأة في أن تغنَّت بهجاء المسلمين، ونزعْتَ ثنيَّتها، فإِن كانت ممَّن تدَّعي الإِسلام فأدبٌ وتقدمةٌ دون المثلة، وإِن كانت ذميه لعمري لما صفحتَ عنه من الشِّرك أعظم! ولو كنتُ تقدَّمتُ إِليك في مثل هذا؛ لبلغت مكروهاً، فاقبل الدَّعة، وإِيَّاك والمثلة في الناس فإِنَّها مأثمٌ، ومنفرةٌ إِلاَّ في قصاصٍ .
-من خطباء الإِيمان:
كان بعض أهل اليمن لهم مواقفُ عظيمةٌ في الثَّبات على الحقِّ، والدَّعوة إِلى الإِسلام، وتحذير قومهم من خطورة الردَّة، ومن هؤلاء كان مران بن ذي عمير الهمدانيُّ أحد ملوك اليمن الَّذي كان قد أسلم ممَّن أسلم من أهل اليمن، فلمَّا ارتدَّ الناس هناك، وتكلَّم سفاؤهم بما لا يليق؛ وقف فيهم خطيباً، وقال لهم: يا معشر همدان! إِنَّكم لم تقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقاتلكم، فأصبتم بذلك الحظَّ، ولبستم به العافية، ولم يعمَّكم بلعنة تفضح أوائلكم، وتقطع دابرهم، وقد سبقكم قومٌ إِلى الإِسلام، وسبقتم قوماً، فإِن تمسَّكتم لحقتم مَنْ سبقكم، وإِن أضعتموه لحقكم مَنْ سبقتموه، فأجابوا إِلى ما أحبَّ، وأنشد أبياتاً رثى فيها النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول فيها:
إِنَّ حُزني على الرَّسول طويلُ ذاكَ منِّي على الرَّسول قليل
بكت الأرضُ والسَّماءُ عَلَيْهِ وبكاهُ خديهم جِبْرِيل
وقام عبد الله بن مالك الأرحبية، وكان من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم له هجرةٌ، وفضلٌ في دينه، فاجتمع إِليه همدان، فقال: يا معشر همدان! إِنَّكم لم تعبدوا محمَّداً إِنَّما عبدتم ربَّ محمَّدٍ، وهو الحيُّ الَّذي لا يموت، غير أنَّكم أطعتم رسوله بطاعة الله، واعلموا أنَّه استنقاذكم من النَّار، ولم يكن الله ليجمع أصحابه على ضلالةٍ، وذُكِرَ له خطبةٌ طويلةٌ يقول فيها:
لعمري لئن مات النَّبيُّ محمَّدٌ لما ماتَ يا بن القَيْلِ ربُّ محمد
دعاةُ إِليْهِ ربُّه فَأجابَه فيا خَيْرَ غَوْرِيٍّ وياء خَيْرَ مُنْجِدِ
ووقف شرحبيل بن السِّمط، وابنُه في بني معاوية من كندة عندما أطبقوا كلُّهم على منع الصَّدقة، وقالا لبني معاوية: إِنَّه لقبيح بالأحرار التنقُّل، إِنَّ الكرام يلزمون الشُّبْهَة، فيتكرَّمون أن يتنقَّلوا إِلى أوضح منها مخافة العار، فكيف الانتقال من الأمر الحسن الجميل والحقِّ إِلى الباطل القبيح؟ الّلهمَّ إِنا لا نمالىء قومنا على ذلك. وانتقل، ونزل مع زيدٍ، ومعهما امرؤ القيس بن عابسٍ، وقالا له: بَيِّت القوم فإِنَّ أقواماً من السَّكاسك والسَّكون قد انضمُّوا إِليهم، وكذلك شُذاذ من حضرموت، فإِن لم تفعل خشينا أن تتفرَّق النَّاس عنَّا إِليهم، فأجابهم إِلى تبييت القوم، فاجتمعوا، وطرقوهم في محاجرهم، فوجدوهم جلوساً حول نيرانهم، فأكبُّوا على بني عمرٍو، وبني معاوية، وفيهم العدد، والشَّوكة من خمسة أوجهٍ، فأصابوا الملوك الأربعة من كندة، وأختهم العمدة، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، وعاد زياد بن لبيد بالأموال، والسَّبْي.
فهذه بعض النَّماذج من أهل الإِيمان الَّذين كانت لهم مواقف تدلُّ على عمق إِيمانهم، وشدَّة انتمائهم إِلى الإِسلام، فكانوا من خطباء الإِيمان.
-كرامات الأولياء:
عندما تمكَّن الأسود العنسيُّ باليمن، وتنبَّأ بالنُّبوَّة؛ بعث إِلى أبي مسلم الخولانين، فلمَّا جاء، قال له: أتشهد أنِّي رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله؟ قال: نعم. فردَّد ذلك عليه، وفي كلِّه يقول مثل قوله الأوَّل. قال: فأمر به فألقي في نارٍ عظيمةٍ، فلم تضرَّه، فقيل له: انفه عنك، وإِلا أفسد عليك من اتَّبعك، قال: فأمره بالرَّحيل، فأتى المدينة، وقد قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، ودخل المسجد فقام يصلِّي إِلى ساريةٍ، وبصر به عمر بن الخطاب، فقام إِليه، فقال: ممَّن الرَّجل؟ قال: من أهل اليمن، قال: ما فعل الرَّجل الَّذي أحرقه الكذَّاب بالنَّار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب، قال: أنشدك اللهَ! أنت هو؟ قال: اللَّهُمَّ نعم! فاعتنقه عمر، وبكى، ثمَّ ذهب به فأجلسه فيما بينه وبين أبي بكر وقال: الحمد لله الَّذي لم يمتني حتَّى أراني في أمَّة محمَّد من فُعِل به ما فُعِل بإِبراهيم خليل الله.
فهذه كرامةٌ لهذا العبد الصَّالح الَّذي التزم بحدود الله، وأحبَّ في الله، وأبغض في الله، وتوكَّل على الله في كلِّ شيءٍ، وبذلك وفقه الله في القول، والعمل، ورزقه الأمن والطُّمأنينة، وأجرى الله على يديه هذه الكرامة، قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *} [يونس: 62 ـ 64].
- العفو عند الصِّدِّيق:
كان لأبي بكر بُعْدُ نظرٍ، وبصيرةٌ نافذةٌ، ونظرٌ بعواقب الأمور، ولذلك كان يستعمل الحزم في محلِّه، والعفو عندما تقتضي إِليه الحاجة، فقد كان حريصاً على جمع شتات القبائل تحت راية الإِسلام، فكان من سياسته الحكيمة عفوه عن زعماء القبائل المعاندة بعد رجوعهم إِلى الحقِّ، فإِنه لما التخضع قبائل اليمن المرتدَّة، وأراهم سطوة دولة المسلمين، وقوَّة شكيمتهم، ومضاء عزيمتهم، واعترفت القبائل بما أنكرت، واستكانت لحكم الإِسلام، وأطاعوا خليفة رسول الله؛ رأى أبو بكر أنَّه من تأليف القلوب ترك استعمال القوَّة مع زعماء هذه القبائل، بل اللِّين هنا والرِّفق أوفق، فرفع العقوبة عنهم، وألان القول لهم، ووظَّف نفوذهم في قبائلهم لصالح الإِسلام، والمسلمين، فعفا عن زلَّتهم، وأحسن إِليهم، فقد فعل ذلك مع قيس بن يغوث المرادي، وعمرو بن معد يكرب، فقد كانا من صناديد العرب، وفرسانهم، وأكثرهم شجاعةً، فعزَّ على أبي بكر أن يخسرهما، وحرص على أن يستخلصهما للإِسلام، وستنقذهما من التردُّد بين الإِسلام والردَّة، فقد قال أبو بكر لعمرو: أما تخزى أنَّك كلَّ يوم مهزومٌ، أو مأسور؟ لو نصرت هذا الدِّين؛ لرفعك الله، فقال عمرو: لا جرم لأقعلن، ولن أعود. فأطلقه الصِّدِّيق، ولم يرتدَّ عمرو بعدها قطُّ، بل أسلم، وحسن إِسلامه، ونصره الله، وأصبح له بلاءٌ عظيمٌ في الفتوحات.
وندم قيس على ما فعل، فعفا عنه الصِّدِّيق، وكان للعفو عن هذين البطلين من أبطال عرب اليمن اثاره العميقة، والعريضة، فقد تألَّف به الصِّدِّيق قلوب أقوامٍ قد عادوا إِلى الإِسلام بعد الردَّة خوفاً، أو طمعاً، وعفا عن الأشعث بن قيس، وبذلك أسر الصِّدِّيق قلوبهم، وامتلك أفئدتهم، فكانوا في مستقبل الأيَّام نصراً للإِسلام، وقوَّةً للمسلمين، وأصبحت لهم يدٌ عظيمةٌ في هذا المجال.
- وصية الصِّدِّيق لعكرمة، ومحاسبته لمعاذ:
كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ حين بعث عكرمة بن أبي جهلٍ إِلى مُسيلمة، وأتبعه شرحبيل بن حسنة؛ عجَّل عكرمة، فوافته بنو حنيفة، فنكبوه، فكتب عكرمة إِلى أبي بكرٍ بالَّذي كان من أمره، فكتب إِليه أبو بكر: يا بن أمِّ عكرمة! لا أرينَّك، ولا تراني على حالها، لا ترع فتوهنَ النَّاس، امض على وجهك حتَّى تساند حذيفة، وعرفجة، فقاتل معهما أهل عُمان، ومَهرة، وإِن شغلا؛ فامضِ أنت ثمَّ تسير، وتُسيِّر جندك تستبرئون ممَّن مررتم به، حتى تلتقوا أنتم والمهاجر بن أبي أميَّة باليمن، وحضرموت.
ونلحظ: أنَّ الصِّدِّيق حينما وجَّه الجيوش لقتال المرتدِّين وجَّه إِلى مسيلمة الكذاب جيشين أحدهما بقيادة عكرمة بن أبي جهل، والثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة، وهذا دليلٌ على خبرة أبي بكر الدَّقيقة بدرجات القوَّة عند الأعداء، ومقدار مقدرتهم على الصُّمود، وحينما تعجل عكرمة لحرب مسيلمة، فنُكب هو وجيشه؛ أرسل إِليه أبو بكر يقول له:(لا أريَنّك، ولا تراني على حالها، ولا ترجع فتوهنَ النَّاس).
وهذا أيضاً من خبرة أبي بكرٍ الحربيَّة، فإِنَّ الرُّوح المعنوية لها أثرٌ كبيرٌ في نتائج المعارك، فإِذا قدم هؤلاء المنهزمون فقابلوا الجيش المتوجِّه لقتال الأعداء، فإِنَّ نفوس أفراد هذا الجيش سيكون فيها شيءٌ من التخوُّف، والضَّعف، خصوصاً فيما إِذا رَوَى لهم المنهزمون شيئاً عن ضخامة جيش الأعداء، وقوَّته، وقد كان البعد الحربيُّ عند الصِّدِّيق واضحاً، فأرسل عكرمة، وجيشه إِلى مناطق أخرى، وحقَّق نجاحاً باهراً، فارتفعت معنويَّات جيشه .
وعندما رجع معاذ من اليمن إِلى المدينة، واستقبله الصِّدِّيق، وكان من عادته مراقبة عماله، ومحاسبتهم بعد فراغهم من عملهم، قال الصِّدِّيق لمعاذ: ارفع حسابك، فقال معاذ: أحسابنا: حسابُ الله، وحسابٌ منكم؟ والله لا ألِي لكم عملاً أبداً!
-توحيد اليمن، ووضوح الإِسلام عند أهله، وطاعتهم للخليفة:
وبعد انتهاء حروب الردَّة تجمَّعت اليمن تحت قيادةٍ مركزيةٍ عاصمتها المدينة المنوَّرة، وقُسم اليمن إِلى أقسامٍ إِداريةٍ، لا وحداتٍ قبليَّة، فقد قُسِّم إِلى ثلاثة أقسامٍ إِداريَّة: صنعاء، والجند، وحضرموت، ولم تعد العصبيَّة القبلية أساساً في الزَّعامة، أو في التَّولية، ولم تعد القبيلة سوى وحدةٍ عسكريَّةٍ، لا سياسيَّةٍ، وأصبحت المقاييس المعتبرة هي المقاييس الإِيمانيَّة؛ التَّقوى، والإِخلاص، والعمل الصَّالح.
وتخلَّصت اليمن من بقايا الشِّرك، ومن جميع مظاهره ـ شركٍ في الاعتقاد، أو شركٍ في القول، أو شركٍ في الفعل: تركاً، أو إِتياناً ـ وأدركوا: أنَّ النُّبوَّة أرفع من أن يدَّعيها مدَّعٍ عابث، ويتَّخذها وسيلةً إِلى غرضه، ورغبته، وأيقنوا: أنَّ الإِيمان لا يلتقي مع المطامع، وأنَّ الإِسلام لا يتَّفق مع الجاهلية، عرفوا ذلك بالدِّماء، والألم، والحسرات، فقتل من كلا الطرفين الكثير، وتعلَّم منهم الكثير، ورجع من كان قد ارتدَّ إِلى الإِسلام يرجو التَّكفير عمَّا بدر، وأُذِن لهم بالجهاد في عصر الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ .
وقد برزت قياداتٌ يمنيَّةٌ إِسلاميَّةٌ في الفتوحات، قد تربَّت وانصهرت في أحداث الردَّة، وكانوا من الثابتين على الإِسلام كجرير بن عبد الله البجليِّ، وذو الكلاع الحميريِّ، ومسعود بن العكيس، وجرير بن عبد الله الحميريِّ، وغيرهم، وكان لهذه القيادات أدوارٌ بارزةٌ في الفتوحات الإِسلاميَّة، وفي عمران مدنٍ جديدةٍ في الكوفة، والبصرة، والعراق، والفسطاط بمصر، وبرزت ـ أيضاً ـ شخصياتٌ يمنيَّة عُيِّنت في اليمن، وغير اليمن قضاةً، وولاةً، مثل: حشك عبد الحميد، وسعيد بن عبد الله الأعرج، وشرحبيل بن السَّمط الكنديِّ، وغيرهم.
والتحم أهل اليمن بالدَّولة الإِسلاميَّة وبقيادتها سواءٌ الَّتي عليهم مباشرةً، أو القيادة العامَّة(الخليفة) في المدينة، ولهذا حينما دعاهم الخليفة للجهاد؛ سارعوا طواعيةً، ورغبةً في الجهاد ـ كما سيأتي تفصيله بإِذن الله تعالى.
لقد تربَّوا في أحداث الردَّة تربيةً كافيةً، جعلتهم موصولين بالقيادة، واثقين بها، ولذا ساد الهدوء، والاستقرار، وأصبحوا خير مددٍ للإِسلام، والمسلمين.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf