القضاء على الأسود العنسي ... من مهارات الصديق في فن التخطيط العسكري:
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الرابعة والعشرون
اسمه: عبلة بن كعب، ويكنى بذي الخمار؛ لأنَّه كان دائماً معتمّاً متخمِّراً بخمارٍ، ويعرف بالأسود العنس لاسودادٍ في وجهه، وتكمن قوَّة الأسود في ضخامة جسمه، وقوَّته، وشجاعته، واستخدام الكهانة، والسِّحر، والخطابة البليغة، فقد كان كاهناً مشعوذاً، يُري قومه الأعاجيب، ويسبي قلوب مَنْ سمع منطقه، واستخدام الأموال للتَّأثير على النَّاس.
أـ الأسود العنس في عهد الرَّسول(ﷺ).
وما أن انتشر خبر مرض رسول الله(ﷺ) بعد مقدمه من حجَّة الوداع حتَّى ادَّعى الأسود العنس النُّبوَّة، وقيل: إِنَّه أطلق على نفسه (رحمان اليمن) كما تَسمَّى(مسيلمة)(رحمان اليمامة)، وأنَّه كان يدَّعي النبوة، ولا ينكر نبوَّة محمد ـ عليه الصَّلاة والسلام ـ وكان يزعم أنَّ ملكين يأتيانه بالوحي وهما: سحيق، وشقيق ـ أو شريقـ وكان قبل أن يظهر مخفياً أمره، يجمع حوله مَنْ يراه مناسباً؛ حتَّى فاجأ النَّاسَ بظهوره وكان أوَّل من تبعه: أبناء قبيلته، وهم(عنس)، ثمَّ كاتب زعماء قبيلة(مَذحِج) فتبعه العوامُّ منهم، وبعض زعمائهم من طالبي الزَّعامة، وقد عمل على إِثارة العصبيَّة القبليَّة؛ لأنَّه من(عنس) وهي بطنٌ من بطون قبيلة(مذحج)، وقد راسله بنو الحارث بن كعب من أهل نجران، وهم يومئذ ـ مسلمون ـ فطلبوا منه أن يأتيهم في بلادهم، فجاءهم، فاتَّبعوهُ لكونهم لم يسلموا رغبةً، وتبعه أناسٌ من(زبيد) و(أود) و(مَسْلِيَة) و(حكم بني سعد العشيرة) ثمَّ أقام بنجران بعض الوقت، وقوي أمره بعد أن انضمَّ إِليه عمرو بن معد يكرب الزَّبيدي، وقيس بن مكشوح المرادي . وتمكَّن من طرد فروة بن مسيك من مراد، وعمرو بن حزم من نجران، واستهوته فكرة السَّيطرة على صنعاء، فخرج إِليها بستِّمئة ـ أو سبعمئة ـ فارسٍ معظمهم من بني الحارث بن كعب و(عنس).
فتقابل مع أهل صنعاء، وعليهم(شهر بن باذان الفارسي)، وكان قد أسلم مع أبيه في منطقة خارج صنعاء تسمَّى منطقة(شعوب)، فتقاتلوا قتالاً شديداً فقُتِل(شهر بن باذان) وانهزم أهل صنعاء أمام الأسود العنس، فغلب عليها، ونزل قصر(غمدان) بعد خمسةٍ وعشرين يوماً من ظهوره.
وكان له مواقف بشعة في تعذيب المستمسكين بالإِسلام، فقد أخذ أحد المسلمين ويسمَّى ـ النُّعمان ـ فقطعه عضواً عضواً، ولهذا تعامل معه المسلمون الذين كانوا في المناطق التي يديرها بالتَّقيَّة.
أمَّا بقيَّة المسلمين خارج نطاق سيطرته فقد حاولوا التجمُّع وإِعادة الانتظام إِلى صفوفهم، فكان فروة بن مسيك المرادي قد انحاز إِلى مكان يسمَّى(الأحسية)، وانضمَّ إِليه من انضمَّ من المسلمين، وكتب إِلى رسول الله(ﷺ) بخبر الأسود العسي، فكان أوَّل مَنْ أبلغ الرَّسول(ﷺ) بذلك، وانحاز كلٌّ من أبي موسى الأشعريِّ، ومعاذ بن جبل إِلى حضرموت في جوار(السكاك والسَّكون).
وقد راسل رسول الله(ﷺ) الثابتين على الإِسلام لمواجهة ردَّة الأسود، وأمرهم بالسَّعي للقضاء عليه إِمَّا مصادمةً، أو غيلة، ووجه كتبه ورسله إِلى بعض زعماء(حمير) و(همدان) بأن يتكاتفوا، ويتوحَّدوا، ويساعدوا(الأبناء) ضد(الأسود العسي) فأرسل(وبر بن يخنس) إِلى(فيروز الديلمين، وجُشَيْش الديلمين، وداويه الصخري) وبعث(جرير البجلي) إِلى(ذي الكلاع، وذي ظليم) الحميريين، وبعث(الأقرع بن عبد الله الحميري) إِلى(ذي زود، وذي مران) الهمدانيين، وكذلك كتب إِلى أهل نجران من الأعراب، وساكني الأرض من غيرهم، وبعث(الحارث بن عبد الله الجهني) إِلى اليمن قبيل وفاته، فبلغته وفاة الرسول(ﷺ) وهو في اليمن، ولم تبيِّن المصادر إِلى أين بُعث، إِلا أنَّه من الممكن أنَّه بعث إِلى(معاذ بن جبل) لأنَّه تلقَّى كتاباً من رسول الله(ﷺ) يأمره فيه بأن يبعث الرِّجال لمقاولة ومصاولة(الأسود العسي) للقضاء عليه، كما تلقَّى(أبو موسى الأشعريُّ) و(الطَّاهر بن أبي هالة) كتاباً من رسول الله ليواجهوا(الأسود) بالغَيْلَة، أو المصادمة .
وكان لهذا العمل من جانب الرَّسول(ﷺ) أثرٌ كبير، فقد تماسك مَنْ بعث إِليهم في حياته، وبعد موته، فلم يُعْهَد عنهم أنَّهم ارتدُّوا، أو تزلزلوا، فقد كتب زعماء(حمير) وزعماء(همدان) إِلى الأبناء باذلين لهم العون، والمساعدة، وفي الوقت نفسه تجمَّع أهل(نجران) في مكانٍ واحدٍ للتصدِّي لأيِّ حركة من جانب(الأسود العسي)، وحينئذٍ أيقن هذا أنَّه إِلى هلاك.
وظلت المكاتبات تتوالى بين(الهمدانيين) و(الحميريين) وبين (معاذ بن جبل) وبعض الزُّعماء اليمنيِّين، ومن المحتمل أنَّ بعض المكاتبات تمَّت بين(الأبناء) وبين (فروة بن مُسَيك) لأنَّه كان له دورٌ في قتل(الأسود العسي)، ولكن كان أوَّل من اعترض على(العسي) هو(عامر بن شهر الهمداني) .
وهكذا تجمَّعت كلُّ قوى الإِسلام في اليمن للقضاء على (الأسود العسي)، ويظهر أنَّهم كانوا مجمعين على أن يقوموا بمقتله، لعلمهم أنَّه بمجرد أن يقتل لن يبقى لأتباعه أيُّ كيانٍ، فيسهل التَّخلُّص منهم حينئذٍ، ولهذا وافقوا على خطَّة(الأبناء) بأن لا يقوموا بأيِّ شيءٍ حتَّى يبرموا الأمر من داخلهم.
واستطاع(الأبناء) فيروز، وداويه أن يتَّفقا مع(قيس بن مكشوح المرادي) ـ وكان قائد جند العسي ـ للتخلُّص من(الأسود العسي) لأنَّه كان على خلافٍ معه، ويخشى أن يتغيَّر عليه، وقد ضمُّوا إِلى صفهم زوجة(الأسود العسي)(ازاد الفارسيَّة) والَّتي كانت زوج شهر بن باذان، وابنة عم فيروز الفارسي، فقد اغتصبها كذَّاب اليمن بعد أن قتل زوجها، فهبَّت لإِنقاذ دينها من براثن وحوش الجاهليَّة بكلِّ عزمٍ وتصميمٍ، فدبَّرت مع المسلمين المناوئين للأسود خطَّةَ اغتيال هذا الطَّاغية المتأهل))، ومهَّدت لهم السَّبيل لقتله على فراش نومه، وحينما قتل(الأسود) أُلقِي برأسه بين أصحابه، فانتابهم الرَّهبة، وعمَّهم الخوف، ففرُّوا هاربين.
وأتى الخبر النَّبيَّ(ﷺ) من السَّماء اللَّيلة الَّتي قتل فيها العسي ليبشِّرنا، فقال: « قُتل العسي البارحة، قتله رجلٌ مباركٌ من أهل بيتٍ مباركين » قيل: ومن هو؟ قال: « فيروز ».
وقد فصَّل خطَّة اغتيال الأسود العسي الدكتور صلاح الخالدي في كتابه: «صور من جهاد الصَّحابة.. عملياتٌ جهاديةٌ خاصَّة، تنفذها مجموعةٌ خاصَّةٌ من الصَّحابة».
وظلَّ أمر(صنعاء) مشتركاً بين(فيروز، وداويه، وقيس بن مكشوح) إِلى أن جاء معاذ بن جبل إِلى(صنعاء)، فارتضوا أن يكون هو الأمير عليهم، ولكنَّه لم يمكث إِلا ثلاثة أيام يُصلِّي بهم حتَّى بلغهم خبر وفاة رسول الله(ﷺ)، وكانت تفاصيل مقتل(العسي) قد خرجت من صنعاء، فوصلت إِلى الصِّدِّيق بعد أن خرج جيش أسامة، وكان هذا أوَّل فتحٍ أتى أبا بكرٍ وهو في المدينة.
ب ـ وعيَّن أبو بكر(فيروز الديلمين) والياً على صنعاء، وكتب إِليه بذلك، ولم يولِّ أبو بكرٍ(قيساً) لأنَّه كان ممَّن مالا الأسود العسي، وتابعه مخلصاً ـ عصبية لمذحي، أو رغبةً في الزَّعامة ـ وكان مبدأ أبي بكرٍ عدم الاستعانة بمن ارتدَّ، وجعل كلاًّ مِنْ داويه، وجشيش، وقيس بن مكشوح مساعدين لفيروز، فتغيَّرت نفس قيس بن مكشوح المرادي فعمل على قتل زعماء الأبناء الثلاثة، وقد تمكَّن من قتل(داويه) سواءٌ بنفسه أو بإِيعازٍ منه، فتنبَّه لذلك(فيروز) فهرب إِلى أخواله في(خولان)، فما كان من قيس إِلا أن أثارها عصبيةً جنسيَّةً فحاول جمع زعماء بعض القبائل ضدَّ(الأبناء) مدَّعياً أنَّهم متحكِّمون فيهم، وأنَّه يرى قتل رؤسائهم، وإِجلاء بقيَّتهم ولكن أولئك الزُّعماء وقفوا على الحياد، فلم ينحازوا إِليه، ولا إِلى الأبناء، وقالوا له: أنت صاحبهم، وهم أصحابك، فلمَّا يئس منهم؛ عاد، فكاتب فلول(الأسود العسي) سواءٌ الَّذين بقوا متذبذبين بين صنعاء ونجران، أو ممَّن انحاز إِلى لحج، فطلب منهم الالتقاء بهم؛ ليكونوا ـ جميعاً ـ على أمرٍ واحدٍ، وهو نفي(الأبناء)، فلم يشعر أهل صنعاء إِلا وهم محاطون بتلك الفلول، ثمَّ حرص(قيس) على تجميع(الأبناء) تمهيداً لنفيهم.
وعندما وصل فيروز الديلمين إِلى خولان؛ كتب من هناك إِلى أبي بكرٍ يخبره بما حصل من قيس، فما كان منه إِلا أن كتب إِلى الزُّعماء الَّذين كتب إِليهم رسول الله(ﷺ)، وكانت صيغة الكتاب واضحةً صريحةً، وهي:(أعينوا الأبناء على مَنْ ناوأهم، وحوطوهم، واسمعوا من فيروز، وجدُّوا معه، فإِنِّي قد ولَّيته).
كان الصِّدِّيق في نهجه هذا يستهدف أمرين متلازمين:
• أنَّه جعله خطَّة حربيَّة حيث كان جيش أسامة بن زيد قد خرج إِلى الشَّام، وكان الخليفة ينتظر عودته حتى يتسنَّى له مواجهة أعنف موجات الردَّة في اليمامة، والبحرين، وعمان، وتميم، وهي أشدُّ، وأعنف من موجات الردَّة في اليمن الَّتي اكتفى بمعالجة بعضها بالرَّسائل، والرُّسل.
• وأمَّا الهدف الآخر فهو إِعطاء الفرصة لمن ثبت على الإِسلام لكي يبرهن على صدق إِسلامه، ولكي يزداد ثباتاً واستمساك بدينه ما دام هو صاحب المسؤوليَّة والمتحمِّل لأمانة إِقرار الإِسلام فيمن حوله، خاصَّةً أنَّ من راسلهم أبو بكر كانوا هم الذين راسلهم رسول الله(ﷺ) من قبل، وقد ثبتوا، وقاموا بما طُلب منهم، وقام فيروز بالاتِّصال ببعض القبائل، يستدمهم، وستنصرهم، وعلى رأس هؤلاء(بنو عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة) ثمَّ أرسل إِلى قبيلة(عك) للغرض نفسه، وكان أبو بكر قد أرسل إِلى الطَّاهر بن أبي هالة))، وإِلى مسروق العكيس ـ وكانا بين عكٍّ والأشعريين ـ أن يمدَّا الأبناء بالمعونة، فخرج كلٌّ من جهته، وعملوا جميعاً للحيلولة دون تنفيذ مخطَّط قيس، وهو طرد الأبناء وإِخراجهم من اليمن، فأنقذوهم، ثمَّ تكتَّلوا، وتوجَّهوا نحو صنعاء جميعاً، فاصطدموا به حتَّى اضطر إِلى ترك صنعاء، وعاد إِلى ما كان عليه أصحاب الأسود العسي، وهو التذبذب بين نجران، وصنعاء، ولحج، إِلا أنَّه انضمَّ إِلى عمرو بن معد يكرب الزَّبيدي، وبهذا عادت صنعاء للمرَّة الثَّانية إِلى الهدوء والاستقرار عن طريق الرُّسل، والكتب.
ج ـ واستمرَّ الصِّدِّيق يتابع سياسة الإِحباط من الدَّاخل وهي ما يعبِّر عنها المؤرِّخون بقولهم:(ركوب من ارتدَّ بمن لم يرتدَّ، وثبت على الإِسلام) .
ففي ردَّة(تهامة اليمن) تمَّ القضاء عليها بدون مجهودٍ يذكر من قبل الخليفة، فقد تولاها المسلمون من أبناء تهامة مثل(مسروق العكيس) الَّذي قاتل المرتدِّين بقومه من عكٍّ، وكان على رأس من قضى على ردَّة تهامة(الطَّاهر بن أبي هالة) الَّذي كان والياً للرَّسول(ﷺ) على جزءٍ من تهامة، وهي موطن(عكٍّ، والأشعريِّين) ثمَّ أمر أبو بكرٍ(عكاشة بن ثور) أن يقيم في(تهامة) ليجمع حوله أهلها حتَّى يأتيه أمره، وأمَّا بجيلة فإِن أبا بكرٍ ردَّ جرير بن عبد الله، وأمره أن يستنفر من قومه مَنْ ثبت على الإِسلام، ويقاتل بهم من ارتدَّ عن الإِسلام، وأن يأتي خثعم، فيقاتل من ارتدَّ منهم، فخرج جرير، وفعل ما أمره به الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فلم يقم له أحدٌ إِلا نفرٌ يسيرٌ، فقتلهم، وتتبَّعهم.
وكان بعض(بني الحارث بن كعب) بنجران قد تابعوا الأسود العسي، وبعد وفاة رسول الله(ﷺ) بقوا متردِّدين، فخرج إِليهم(مسروق العكيس) وهو يزمع مقاتلتهم، فدعاهم إِلى الإِسلام، فأسلموا من غير قتالٍ، فأقام فيهم ليعمل على استتباب الأمور، فلم يأته(المهاجر بن أبي أميَّة) إِلا وقد ضبط نجران. وقد نجحت سياسة الإِحباط من الدَّاخل، وتوجَّه الصِّدِّيق بإِرسال الجيوش بعد عودة جيش أسامة.
د ـ جيش عكرمة:
بعد أن شارك في القضاء على ردَّة أهل عمان توجَّه نحو مهرة حسب أمر أبي بكرٍ، وكان معه سبعمئة فارسٍ، فوق ما جمع حوله من قبائل عمان، وحينما دخل مهرة؛ وجدها مقسَّمة بين زعيمين متناحرين: أحدهما يسمَّى شخرت، ويتمركز في السَّهل السَّاحليِّ، وهو أقل الجمعين عدداً وعدَّةً، والآخر يسمَّى المصبح، ونفوذه على المناطق المرتفعة وهو أكبر الجمعين، فدعاهما عكرمة إِلى الإِسلام فاستجاب صاحب السَّهل السَّاحلي، وأمَّا الآخر؛ فقد اغترَّ بجموعه، فأبى فصادمه عكرمة ومعه(شخرت) فلحقته الهزيمة، وقُتِل ومعه الكثير من أصحابه، ثمَّ أقام عكرمة فيهم يجمعهم، ويقيم شؤونهم حتَّى جمعهم على الَّذي يحبُّ، حيث بايعوا على الإِسلام، وأمنوا، واستقرُّوا .
وكان قد تلقَّى كتاباً من أبي بكرٍ يأمره بالاجتماع مع المهاجر بن أبي أميَّة القادم من(صنعاء) ليتوجها معاً إلى كندة، فخرج من مهرة حتَّى نزل أبين، وبقي هناك ينتظر المهاجر، وعمل وهو هناك على جمع(النَّخع) وحمير، وتثبيتهم على الإِسلام، وكان لوصول عكرمة إِلى أبين أثرٌ على بقيَّة فلول الأسود العسي، وعلى رأسهم قيس بن المكشوح، وعمرو بن معد يكرب، فبعد هروب قيس من صنعاء بقي متردِّداً بينها، وبين نجران، وكان(عمرو بن معد يكرب) قد انضوى إِلى فلول العسي الَّتي أطلق عليها الفلول الحجية؛ لأنَّ وجهتهم كانت إلى لحج، فلمَّا جاء عكرمة؛ انضمَّ قيس إلى عمرو، وقد اجتمعا، للقتال ولكن ما لبث أن نشب الخلاف بينهما، فتعايرا ففارق كلُّ واحد الآخر، فلمَّا جاء المهاجر بن أبي أميَّة؛ أسرع عمرو لتسليم نفسه، ولحقه قيس، فأوثقهما المهاجر، وبعث بهم إِلى أبي بكرٍ، وبعد أن عاتبهما؛ اعتذر كلُّ واحدٍ منهما عن فعله، فأطلقهما، ورجعا بعد أن تابا، وأصلحا.
وهكذا كان لقدوم عكرمة من الشَّرق دورٌ في القضاء على فلول المرتدِّين الموجودين في لحجٍ سواءٌ بالمواجهة، أو الخوف من هذا الجيش القادم، بينما هم يواجهون جيشاً اخر في الشَّمال بقيادة المهاجر.
هـ جيش المهاجر بن أبي أميَّة للقضاء على ردَّة حضرموت، وكندة:
كان اخر مَنْ خرج من المدينة من الجيوش الأحد عشر جيش المهاجر بن أبي أميَّة، وكان معه سريَّةٌ من المهاجرين، والأنصار، فمرَّ على مكَّة فانضمَّ إِليه (خالد ابن أسيد) أخو (عتَّاب ابن أسيد) أمير مكَّة، ومرَّ على الطَّائف، فلحقه عبد الرحمن بن أبي العاص وَمَنْ معه، ولمَّا التقى بجرير بن عبد الله البجليِّ بنجران ضمَّه إِليه، وضم عكَّاشة بن ثور الَّذي جمع بعض أهل تهامة. ثمَّ دخل في جموعه(فروةُ ابن مسيك المرادي) الَّذي كان في أطراف بلاد مذحج، ومرَّ على بني الحارث بن كعب بنجران، فوجد عليهم مسروقاً العكيس فضمَّه إِليه.
وفي نجران قسم جيشه إِلى فرقتين: فرقةٍ تولَّت القضاء على فلول(الأسود العنسيِّ) المتناثرة بين نجران، وصنعاء، وكان المهاجر نفسه على هذه الفرقة، أمَّا الفرقة الأخرى؛ فكان عليها أخوه(عبد الله) وكانت مهمَّتها تطهير منطقة تهامة اليمن من بقيَّة المرتدِّين.
وحينما استقرَّ المهاجر في صنعاء كتب إِلى أبي بكرٍ بما قام به، وبما استقرَّ عليه، وبقي ينتظر الردَّ منه، وفي الوقت نفسه كتب معاذ بن جبل، وبقيَّة عمال اليمن الذين كانوا على عهد رسول الله(ﷺ) ـ ما عدا زياد بن لبيد ـ إِلى أبي بكرٍ يستأذنونه بالعودة إِلى المدينة، فجاءت كتب أبي بكرٍ مُطلِقةً حقَّ الاختيار لمعاذ، ومن معه من العمال بالبقاء، أو العودة والاستخلاف على عمل كلِّ مَنْ رجع، فرجعوا جميعاً، وأمَّا المهاجر فقد تلقَّى الأمر بالتوجُّه لملاقاة عكرمة، وأنْ يسيرا معاً إِلى حضرموت لمعاونة زياد بن لبيد، وإقراره على ما هو عليه، وأمره أن يأذن لمن معه من الَّذين قاتلوا بين مكَّة واليمن في العودة إِلا أن يؤثر قومٌ الجهاد.
كان زياد بن لبيد الأنصاريُّ والياً لرسول الله على كندة بحضرموت، وأقرَّه الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على ذلك، وكان حازماً شديداً، وكان لحزمه وشدَّته سببٌ كبير في أن يتمرَّد عليه حارثة بن سراقة، وخلاصة ذلك كما يذكر الكلاعي: أن زياداً أُعطي من ضمن الصَّدقة ناقةً معيَّنةً لفتى من كندة على سبيل الخطأ، فلمَّا أراد صاحبها استبدالها بأخرى لم يقبل منه ذلك زياد، فاستنجد الفتى بزعيمٍ لهم، هو حارثة بن سراقة، وعندما طلب ابن سراقة من زياد استبدال النَّاقة؛ أصرَّ زياد على موقفه، فغضب ابن سراقة، وأطلق النَّاقة عنوةً، فوقعت الفتنة بين أنصار زياد، وأنصار ابن سراقة، ودارت الحرب، وانهزم ابن سراقة وقتل ملوك كندة الأربعة، وأسر زيادٌ عدداً من جماعة ابن سراقة، واستنجد الأسرى، وهم في طريقهم إِلى المدينة بالأشعث بن قيس فنجدهم، حميَّة، وعبيَّةً، واتَّسعت رقعتها وتكاثر جمع الأشعث، وحصروا المسلمين، فأرسل زياد إِلى المهاجر وعكرمة يستعجلهما النَّجدة، وكانا قد التقيا بمأرب، فما كان من المهاجر إِلا أن ترك(عكرمة) إِلى الجيش، وأخذ أسرع النَّاس ـ وغالباً من الفرسان ـ ليكون بجانب زياد، وقد استطاع أن يفكَّ الحصار عنه، فهربت كندة إِلى حصنٍ من حصونها يسمَّى النُّجَيْر.
وكان لهذا الحصن ثلاث طرقٍ، لا رابع لها، فنزل زياد على إِحداها والمهاجر على الثَّانية وبقيت الثالثة تحت تصرف كندة، حتَّى قدم عكرمة فنزل عليها، فحاصروهم من جميع الجهات، ثم بعث(المهاجر) الطَّلائع إِلى قبائل كندة، المتفرقة في السَّهل والجبل؛ يدعوهم إِلى الإِسلام، ومن أبى قاتلوه، ولم يبق إِلا مَنْ في الحصن المحاصر.
وكان جيشا زياد والمهاجر يزيدان على خمسة الاف رجلٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم من القبائل، وقد عملا على التَّضييق على من في الحصن حتَّى ضجُّوا بالشَّكوى إِلى زعمائهم متبرِّمين من الجوع، وفضَّلوا الموت بالسَّيف بدلاً من ذلك، فاتَّفق زعماؤهم على أن يقوم الأشعث بن قيس بطلب الأمان، والنُّزول على حكم المسلمين، وبعد أن فُوِّض الأشعث من قومه لمفاوضة المسلمين لم يوفَّق؛ لأنَّ الرِّوايات تضافرت على أنَّه لم يطلب الأمان لجميع من في الحصن، أو أنَّه لم يصرَّ على ذلك، ولم يطلبه إِلا لعددٍ تراوح حسب الرِّوايات بين السَّبعة والعشرة، وكان الشرط هو فتح أبواب حصن(النُّجَيْر)، وكان من جراء ذلك أن قتل من(كندة) في الحصن سبعمئة قتيل، فأشبه موقفهم موقف يهود بني قريظة.
وتمَّ القضاء على ردَّة كندة، وعاد عكرمة بن أبي جهل ومعه السبايا والأخماس، وبرفقتهم الأشعث بن قيس الَّذي صار مبغضاً إِلى قومه، ولا سيَّما نساؤهم؛ لأنَّهم عدُّوه سبب ذلَّتهم، ولأنَّه عندما صالح المسلمين كان أوَّل ما بدأ به اسمه، فكانت نساء قومه يسمينه: عُرف النَّار؛ ومعناه بلغتهم: الغادر، ولما قدم الأشعث على أبي بكرٍ قال: ماذا تراني أصنع بك، فإِنَّك قد فعلت ما علمت! قال: تمنُّ عليَّ فتفكَّني من الحديد، وتزوِّجني أختك، فإِنِّي قد راجعت، وأسلمت . فقال أبو بكر: قد فعلت، فزوَّجه أم فروة ابنة أبي قحافة، فكان بالمدينة حتَّى فتح العراق.
وفي روايةٍ جاء فيها: فلمَّا خشي أن يقع به؛ قال: أو تحتسب فيَّ خيراً، فتطلق إِساري، وتقيلني عثرتي، وتقبل إِسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي، وترد عليَّ زوجتي ـ وقد كان خطب أم فروة بنت أبي قحافة مقدمه على رسول الله(ﷺ) فزوَّجه، وأخَّرها إِلى أن يقدم الثَّانية، فمات رسول الله(ﷺ)، وفعل الأشعث ما فعل، فخشي ألا ترد عليه ـ تجدني خير أهل بلادي لدين الله! فتجافى له عن دمه، وقبل منه، وردَّ عليه أهله، وقال: انطلق فليبلغني عنك خيرٌ، وخلَّى عن القوم، فذهبوا وقسم أبو بكر في الناس الخمس.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي