الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

قضاء الصِّدِّيق على فتنة طليحة الأسدي...أحداثٌ ملهمةٌ وقِصصٌ معبِّرة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة السادسة والعشرون

محرم 1441ه/ سبتمبر 2019م

 

طليحة الأسدي هو المتنبئ الثالث من المتنبئة الَّذين ظهروا في الإِسلام أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة، وطليحة هذا هو: طليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة الأسدي، ولقد قدم مع وفد قومه أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الوفود سنة تسع للهجرة، فسلَّموا عليه، وقالوا له ممتنِّين: جئناك نشهدُ أن لا إِلـه إِلا الله، وأنك عبده ورسوله، ولم تبعث إِلينا، ونحن لمن وراءنا، فأنزل الله عز وجل قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [الحجرات: 17] . ولمَّا عادوا ارتدَّ طليحة، وتنبَّأ، وعسكر في سميراء(منطقة في بلادهم)، واتَّبعه العوامُّ، واستكشف أمره(وأوَّل ما صدر عنه ـ وكان سبباً لضلال الناس ـ: أنَّه كان مع بعض قومه في سفرٍ فأعوزهم الماء، وغلب العطش على النَّاس فقال: اركبوا أعلالاً(اسم فرسه) واضربوا أميالاً؛ تجدوا بلالاً . ففعلوا، فوجدوا الماء، فكان ذلك سبب وقوع الأعراب في الفتنة).

ومن خزعبلاته: أنَّه رفع السُّجود من الصَّلاة، وكان يزعم: أنَّ الوحي يأتيه من السَّماء، ومن أسجاعه الَّتي ادَّعى أنَّه يوحى له بها قوله: والحمَام، واليَمام، والصُّرد الصَّوام قد صُمْنَ قبلكم بأعوامٍ؛ ليبلغن ملكنا العراق، والشام) وغرَّته نفسه، واشتدَّ أمره، وقويت شوكته، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرار بن الأزور الأسدي لمقاتلته؛ لما سمع من أمره، ولكنَّ ضراراً لم يكن له به قبل، وذلك لتعاظم قوَّته مع الزَّمن، ولا سيَّما بعد أن امن به الحليفان: أسد، وغطفان، وتقول عنه دائرة المعارف الإِسلاميَّة: ويروى عنه أنَّه كان يرتجل الشِّعر، ويخطب عفو السَّاعة في ميدان القتال . . ويبدو أنَّه كان مثالاً ـ حقّاً ـ للزَّعيم القبليِّ الجاهليِّ.وقد اجتمعت فيه صفات: العرَّاف، والشَّاعر، والخطيب، والمقاتل.

وَيُشَمُّ من هذا النَّص رائحة المدح المبطن لطليحة من قبل هذه الموسوعة الشَّهيرة، فهو في نظرها الزَّعيم القبلي المثال، يرتجل الشِّعر، والخطابة، وهما أهمُّ ما كان يحرص عليه العربيُّ آنذاك، ولا يستغرب هذا الاتجاه من هذه الموسوعة الَّتي جعلت من اللَّمز في الإِسلام ديدنها، سواء أعرفت: أنَّ طليحة عاد فأسلم، وحسن إِسلامه، أم لم تعرف.

وتوفِّي رسول الله، ولم يُحسم أمر طُليحة وتولَّى الخلافة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وعقد الألوية للجيوش، والأمراء للقضاء على المرتدِّين، وكان من ضمنهم طليحة، ووجَّه إِليه الصِّديق جيشاً بقيادة خالد بن الوليد، روى الإِمام أحمد: ... أنَّ أبا بكر الصديق لما عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردَّة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « نِعْمَ عبد الله، وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيفٌ من سيوف الله سَلَّه الله على الكفَّار، والمنافقين ».

ولمَّا توجَّه خالد من ذي القصَّة، وفارقه الصِّدِّيق، واعده أنَّه سيلقاه من ناحية خيبر بمن معه من الأمراء، وأظهروا ذلك ليرعبوا الأعراب، وأمره أن يذهب أولاً إِلى طليحة الأسدي، ثمَّ يذهب بعده إِلى بني تميم، وكان طليحة بن خويلد في قومه بني أسد، وفي غطفان، وانضمَّ إِليهم بنو عبس، وذبيان، وبعث إِلى بني جَدِيلة، والغوث من طياي يستدعيهم إِليه، فبعثوا أقواماً منهم بين أيديهم ليلحقوهم على أثرهم سريعاً، وكان الصِّدِّيق قد بعث عديَّ بن حاتم قبل خالد بن الوليد، وقال له: أدرك قومك لا يلحقوا بطليحة، فيكون دمارهم. فذهب عديٌّ إِلى قومه بني طياي فأمرهم أن يبايعوا الصِّدِّيق، وأن يراجعوا أمر الله، فقالوا: لا نبايع أبا الفَصِيل أبداً ـ يعنون: أبا بكرٍ رضي الله عنه ـ فقال: والله ليأتينكم جيشه فلا يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا: أنَّه أبو الفحل الأكبر! ولم يزل عدي يَفتِل لهم في الذِّروة والغارب حتَّى لانوا، وجاء خالد في الجنود، وعلى مقدَّمة الأنصار الَّذين معه ثابتُ بن قيس بن شمَّاس، وبعث بين يديه ثابت بن أقرم، وعكَّاشة بن محصن طليعة، فتلقَّاهما حِيَال ـ ابن أخي طليحة ـ فقتلاه، فبلغ خبره طليحة، فخرج هو وأخوه سلمة، فلمَّا وجدا ثابتاً، وعُكَّاشة تبارزوا؛ وحمل طليحة على عُكَّاشة فقتله، وقتل سلمة ثابت بن أقرم، وجاء خالد بمن معه فوجدوهما صريعين، فشقَّ ذلك على المسلمين، ومال خالد إِلى بني طياي فخرج إِليه عديُّ بن حاتم، فقال: أنظرني ثلاثة أيام، فإِنهم قد استنظروني حتى يبعثوا إِلى مَنْ تعجَّل منهم إِلى طليحة حتَّى يرجعوا إِليهم، فإِنهم يخشون إِن تابعوك أن يقتل طليحة من سار إِليه منهم، وهذا أحبُّ إِليك من أن يعجلهم إِلى النَّار، فلمَّا كان بعد ثلاث جاءه عدي في خمسمئة مقاتل ممَّن راجع الحق، فانضافوا إِلى جيش خالد، وقصد خالد بني جَدِيلة، فقال له: يا خالد! أجِّلني أياماً حتَّى اتيهم، فلعلَّ الله أن ينقذهم كما أنقذ الغوث فأتاهم عديٌّ، فلم يزل بهم حتَّى بايعوه، فجاء بإِسلامهم، ولحقَ بالمسلمين منهم ألف راكبٍ، فكان عديٌّ خير مولود، وأعظمه بركةً على قومه رضي الله عنه.

أـ معركة بازخة والقضاء على بني أسد:

ثمَّ سار خالد حتَّى نزل باجا، وسلمى، وعَبَّى جيشه هنالك، والتقى مع طليحة الأسدي بمكانٍ يقال له: «بازخة» ووقفت أحياء كثيرةٌ من الأعراب ينظرون على مَنْ تكون الدَّائرة، وجاء طُليحة فيمن معه من قومه، ومن التفَّ معهم، وانضاف إِليهم، وقد حضر معه عينة بن حِصْن في سبعمئةٍ من قومه بني فزارة، واصطفَّ النَّاس، وجلس طليحة ملتفّاً في كساءٍ له يتنبَّأ لهم، ينظر ما يوحى إِليه فيما يزعم، وجعل عينة يقاتل حتَّى إِذا ضجر من القتال جاء إِلى طليحة، وهو ملتفٌّ في كسائه، وقال له: أجاءك جبريل؟ فيقول: لا، فيرجع، فيقاتل، ثمَّ يرجع، فيقول له مثل ذلك ويردُّ عليه مثل ذلك، فلمَّا كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟ قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: قال لي: إِنَّ لك رحاً كرحاه، وحديثاً لا تنساه، قال:

يقول عينة: أظنُّ أنَّه قد علم الله سيكون لك حديثٌ لا تنساه، ثمَّ قال: يا بني فزارة! انصرفوا، وانهزم، وانهزم النَّاس عن طليحة، فلمَّا جاءه المسلمون ركب على فرسٍ كان قد أعدَّها له، وأركب امرأته النَّوَّار على بعيرٍ له، ثمَّ انهزم بها إِلى الشَّام، وتفرَّق جمعه، وقد قتل الله طائفةً ممَّن كان معه.

وقد كتب أبو بكر الصِّديق إِلى خالد بن الوليد حين جاءه: أنَّه كسر طليحة ومن كان في صفِّه، وقام بنصره، فكتب إِليه ليزودك ما أنعم الله به خيراً! واتَّق الله في أمرك، فإِنَّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جدَّ في أمرك، ولا تلن، ولا تظفر بأحدٍ من المشركين قتل من المسلمين إِلا نَكَّلْتَ به، فأقام خالد ببازخة شهراً يُصَعِّد عنها، ويصوِّب، ويرجع إِليها في طلب الَّذي وصاة الصديق، فجعل يتردَّد في طلب هؤلاء شهراً يأخذ بثأر مَنْ قتلوا من المسلمين الَّذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدُّوا، فمنهم من حرَّقه بالنَّار، ومنهم مَنْ رَضَخه بالحجارة، ومنهم من رَمَى به من شواهق الجبال، كلُّ هذا ليعتبر بهم مَنْ يسمع بخبرهم من مرتدَّة العرب.

ب ـ وفد بني أسد وغطفان إِلى الصِّدِّيق، وحكمه عليهم:

لمَّا قدم وفد بازخة ـ أسد، وغطفان ـ على أبي بكر يسألونه الصُّلح؛ خيَّرهم أبو بكر بين حرب مُجليةٍ، أو خطَّة مخزيةٍ. فقالوا: يا خليفة رسول الله! أما الحرب المجلية فقد عرفناها، فما الخطَّة المخزية؟ قال: تؤخذ منكم الحلقة، والكُرَاع، وتتركون أقواماً تتبعون أذناب الإِبل حتَّى يُرِيَ الله خليفة نبيِّه، والمؤمنين أمراً يعذرونكم به، وتودون ما أصبتم منَّا، ولا نودي ما أصبنا منكم، وتشهدون أنَّ قتلانا في الجنَّة، وأن قتلاكم في النَّار، وتدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم. فقال عمر: أمَّا قولك تَدُوْنَ قتلانا؛ فإِنَّ قتلانا قُتِلوا على أمر الله، لا ديات لهم، فامتنع أبو بكر، وقال عمر في الثاني: نِعْمَ ما رأيت.

ج ـ قصَّة أمِّ زِمل:

كان قد اجتمع طائفةٌ كثيرةٌ من الضُّلاَّل من أصحاب طليحة من بني غطفان إِلى امرأةٍ يقال لها: أمُّ زِمل ـ سلمى بنت مالك بن حذيفة ـ في مكان يسمَّى ظَفَر، وكانت من سيدات العرب كأمِّها أم قِرْفة، وكان يُضرب بأمِّها المثل في الشَّرف؛ لكثرة أولادها، وعزَّة قبيلتها، وبيتها، فلمَّا اجتمعوا إِليها، ذمتهم لقتال خالد، فهاجوا لذلك، وناشب إِليهم اخرون من بني سُلَيم، وطياي، وهوازن، وأسد، فصاروا جيشاً كثيفاً، وتفحَّل أمر هذه المرأة، فلمَّا سمع بهم خالد بن الوليد؛ سار إِليهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، وهي راكبةٌ على جمل أمِّها؛ الذي كان يقال له: مَنْ نخسه فله مئةٌ من الإِبل، وذلك لعزِّها، فهزمهم خالد وعقر جملها، وقتلها، وبعث بالفتح إِلى الصِّدِّيق.

د ـ دروسٌ، وعبرٌ، وفوائد:

ثقة الصِّدِّيق بالله، وخبرته الحربيَّة:

قول الصديق لعديِّ بن حاتم: أدرك قومك، لا يلحقوا بطليحة، فيكون دمارهم. فيه مثالٌ على قوَّة يقين أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وثقته بنصر الله، فقد حكم على نتيجة المعركة مع طياي قبل الدُّخول فيها، وفي أمر أبي بكرٍ خالداً ـ رضي الله عنهما ـ بأن يبدأ بحرب قبيلة طياي مع أنَّها أبعد من تجمع طليحة خطةٌ حربيَّةٌ ناجحةٌ، وذلك ليحول دون انضمام طياي إلى طليحة، وليضطر من انضمَّ إِليه منهم إِلى التخلِّي عنه للدِّفاع عن قبيلتهم، ثمَّ في إِظهار أبي بكرٍ: أنَّه خارجٌ جهة خيبر ليلاقي خالداً ببلاد طيأىٍ تخطيطٌ حربيٌّ بارعٌ، وذلك لإِرهاب تلك القبيلة، والقبائل المجاورة، وتظهر براعة الصِّديق في اختيار الرِّجال أن اختار لهذه المهمَّة الَّتي لها ما بعدها أبا سليمانَ خالد بن الوليد الَّذي لم تنتكس له راية.

وفي خطاب الصِّدِّيق لخالدٍ بعد انتهاء معركة بزاخة فوائد منها:

الدُّعاء لخالد الذي يُفهم منه الثَّناء عليه بإِحسانٍ، كما يتضمَّن أمره بتقوى الله، وذلك فيه العصمة من الوقوع في الزَّلل، واتِّباع الهوى، كما أمره بالجدِّ، والحزم مع الأعداء لأنَّهم مازالوا في فورة طغيانهم.

وهذا موقفٌ قويٌّ يدلُّ على حزم الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وبصيرته النافذة، فهناك قبائل لا تزال متحيِّرةً، ومتردِّدةً بين الحقِّ والباطل، والهدى والضَّلال، والخير والشَّرِّ، والإِيمان والكفر؛ بحاجةٍ إِلى تأديبٍ وردْعٍ، حتَّى يزول طغيانهم، فالموقف من أبي بكرٍ يقتضي أعلى درجات القوَّة، والحزم، والسُّرعة، فكانت منه القوَّة في محلِّ القوَّة، كما كان منه اللِّين في محلِّ اللِّين.

قال الشاعر:

ووضعُ النَّدَى في موضعِ السَّيف للنَّدى مُضرٌّ كوضعِ السَّيف في موضعِ النَّدى

وفي موقف الصِّديق في عدم قبول استسلام هؤلاء المحاربين، وعدم قبول الصُّلح إِلا بحربٍ مجليةٍ، أو خطَّة مخزيةٍ إِظهار عزَّة الإِسلام، وهيبة دولته، فكانت شروطه في الصُّلح قويةً، وكان من أشدِّها عليهم مصادرة أسلحتهم، وخيولهم، وكان هذا الشَّرط مؤقَّتاً بظهور صدق توبتهم، وخضوعهم لدولة الإِسلام، وقد كان لا بدَّ منه لضمان عدم عودتهم إِلى التمرُّد مرَّةً أخرى.

نصح عديِّ بن حاتم لقومه، والحرب النفسيَّة الَّتي شنَّها عليهم:

قدم عديٌّ على قومه طيِّأىٍ فدعاهم للرُّجوع للإِسلام، فقالوا: لا نبايع أبا الفصيل أبداً، فقال: لقد أتاكم قوم ليبجحن حريمكم، ولتَكْنُنَّهُ بالفحل الأكبر، فشأنكم به . فقالوا له: فاستقبل الجيش فنهنههعنَّا حتى نستخرج من لحق بالبازخة منَّا فإِنَّا إِن خالفنا طليحة، وهم في يديه قتلهم، أو ارتهانهم . فاستقبل عديٌّ خالداً وهو بالسُّنْح، فقال: يا خالد أمسك عنِّي ثلاثاً يجتمع لك خمسمئة مقاتلٍ، تضرب بهم عدوَّك، وذلك خير من أن تُعْجلهم إِلى النَّار، وتتشاغل بهم، ففعل، فعاد عديٌّ بإِسلامهم إِلى خالدٍ.

فهذا موقفٌ استطاع فيه عديٌّ أن يقنع قبيلته بفرعيها بني الغوث، وبني جديلة بالتَّخلِّي عن معسكر طليحة، والانضمام إِلى جيش خالد بن الوليد، وهذا تحوُّل مهمٌّ في تقرير نتائج معركة بزاخة الحاسمة، فهذا موقفٌ عظيمٌ يسجل لعديٍّ ـ رضي الله عنه ـ إِلى جانب موقفه الأوَّل حينما قدم على الصِّدِّيق بصدقات قومه، وكان المسلمون بأمسِّ الحاجة إِلى المال آنذاك، ولقد كان إِسلامه من أوَّل يومٍ إِسلام رجلِ العلم، والفهم، فكان عن قناعة واختيارٍ، وكان واثقاً من انتصار الإِسلام والمسلمين في النهاية، كما بشَّره بذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم إِسلامه، فكان لإِيمانه القوي أثرٌ في إِقناع قومه في العدول عمَّا توجَّهوا إِليه من مناصرة أعداء الإِسلام، ولم تكن قناعتهم إِلى حدِّ الحياد والانتظار حتَّى يروا لمن تكون الدَّائرة، بل انضمَّ منهم ألفٌ وخمسمئةٍ إِلى جيش المسلمين، ممَّا يدلُّ على مبلغ أثره فيهم. وجاء في روايةٍ: أنَّ قومه طلبوا من خالد بأن يقاتلوا قيساً؛ لأنَّ بني أسد حلفاؤهم، فقال لهم خالد: والله ما قيس بأوهن الشوكتين، اصمدوا إِلى أي القبيلتين أحببتم، فقال عديٌّ: لو ترك هذا الدِّين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي؛ لجاهدتهم عليه، فأنا أمتنع من جهاد بني أسد لحلفهم! لا لعمر الله لا أفعل! فقال له خالد: إِنَّ جهاد الفريقين جميعاً جهادٌ، لا تخالفْ رأي أصحابك، امضِ إِلى أحد الفريقين وامضِ بهم إِلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط.

وفي إِنكار عديٍّ على قومه دليلٌ على قوة إِيمانه، وغزارة علمه، حيث والى أولياء الله؛ وإِن كانوا بعيدين عنه في النَّسب، وتبرَّأ من أعداء الله؛ وإِن كانوا من أقاربه، كما تظهر خبرة خالد بن الوليد الحربيَّة حينما أمر عديّاً بأن لا يخالف قومه في تمنُّعهم في مواجهة حلفائهم بني أسد، وأن يوجههم إِلى الوجه الجهاديِّ الَّذي يكونون فيه أنشط على القتال.

لقد كان الدَّور الَّذي قام به عديٌّ في دعوة قبيلته إِلى الانضمام إِلى جيش المسلمين عظيماً، فكان دخول طيِّأىٍ في جيش خالد أوَّل وهنٍ أصيب به الأعداء؛ لأنَّ قبيلة طيِّأىٍ من أقوى قبائل جزيرة العرب، وممَّن كانت القبائل تحسب لها حساباً، وتنظر إِليها باعتبارها على درجةٍ من القوَّة بحيث كانت مرهوبة الجانب، عزيزةً في بلادها، تتقرَّب إِليها جاراتها بالتَّحالف معها. لقد التقى الجمعان بعد أن دبَّ الوهن في نفوس الأعداء، فكتب الله النَّصر لجيش المسلمين، فسرعان ما طفقوا يقتلون، ويأسرون؛ حتَّى أبادوا جميع أعدائهم وهرب قائدهم طليحة على فرسه، ولم يسلم منهم إِلا من استسلم، أو هرب، وبعد هذه الوقعة انتشر الضَّعْف في نفوس المرتدِّين من قبائل الجزيرة، فأصبح الجيش الإِسلامي لا يجد عناءً في هزيمة مَنْ تجمَّع منهم في أماكن أخرى.

أسباب هزيمة طليحة بن خويلد الأسديِّ:

كانت هناك مجموعةٌ من الأسباب ساهمت في هزيمة طليحة الأسديِّ منها:

إِنَّ المسلمين كانوا يقاتلون مدفوعين بعقيدةٍ راسخةٍ، ويقينٍ بنصر الله، وحبٍّ في الشَّهادة، فكان حبُّ الموت في سبيل الله تعالى سلاحاً معنوياً فتَّاكاً، فكان خالد يرسل للمرتدِّين هذه الكلمات القلائل: لقد جئتكم بقومٍ يحبُّون الموت كما تحبُّون الحياة، ولقد عرف العدوُّ نفسه من خلال تعامله مع قوَّات المسلمين في المعارك الَّتي خاضوها معه صدقهم في تنفيذ هذا المبدأ، فقد سأل طليحة الأسديُّ قومه لمَّا انهزموا في موقعة بزاخة مع جيش خالد بشيءٍ كبير من الحنق والتعجُّب:(ويلكم ما يهزمكم؟!) فقال رجلٌ منهم: أنا أخبركم؛ إِنَّه ليس رجل(منَّا) إِلا وهو يحبُّ أن يموت قبله صاحبه، وإِنا نلقى أقواماً كلُّهم يحب أن يموت قبل صاحبه.

كان لانضمام طيِّأىٍ أثره في تقوية المسلمين، وإِضعاف أعدائهم، كما كان مقتل الصَّحابيَّيْن عكَّاشة بن محصن وثابت بن أقرم قد زاد من غيظ المسلمين ودفعهم إِلى قتال أعدائهم، كما كان لتورية أبي بكرٍ الصِّدِّيق تأثيرٌ على طيِّأىٍ في عدم التَّعاون مع حلفائها، وبقائها في مواضعها الأصلية، وأما التَّورية المشار إليها فإنَّ الصِّدِّيق أوهم الناس أنه متوجِّه إلى خيبر بدلاً من الجهة الأصلية الَّتي حُدِّدت للجيش، كما كان لإِفساح المجال لطيا كي تقاتل قيساً كما أرادت شجَّعها على الاستقلال في الحرب؛ إِذ لو أمر خالد على أن يقاتلوا حلفاءهم من بني أسدٍ، كما أراد عديُّ بن حاتمٍ؛ لقصرت طيي في حربها أيَّما تقصيرٍ، وغير ذلك من الأسباب .

من نتائج معركة بزاخة:

القضاء على قوَّة أحد الأدعياء الأقوياء، وعودة فريقٍ كبيرٍ من العرب إِلى حظيرة الإِسلام، فقد أقبلت بنو عامر بعد هزيمة بزاخة يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، فبايعهم خالدٌ على ما بايع عليه أهل بزاخة من أسدٍ وغطفان وطياي قبلهم، وأعطوه بأيديهم على الإِسلام، ولم يقبل أحدٌ من أسدٍ، ولا غطفان، ولا هوازن، ولا سليم، ولا طيِّأىٍ إِلا أن يأتوه بالَّذين حرقوا، ومثَّلوا، وعَدَوْا على أهل الإِسلام في حال ردَّتهم. فأتوه بهم . . . فمثَّل خالد بن الوليد بالَّذين عدوا على الإِسلام، فأحرقهم بالنِّيران، ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم في الجبال، ونكَّسهم في الآبار، وخَرَّقَهم بالنِّبال، وبعث بقرَّة بن هبيرة، والأسارى، وكتب إِلى أبي بكرٍ: إِنَّ بني عامرٍ أقبلت بعد إِعراضٍ، ودخلت في الإِسلام بعد تربُّصٍ، وإِنِّي لم أقبل من أحد قاتلني، أو سالمني شيئاً حتَّى يجيئوني بمن عدا على المسلمين، فقتلتهم كلَّ قتلةٍ، وبعثت إِليك بقرَّة، وأصحابه، وكان عينة بن حصن من بين الأسرى فأمر خالد بشدِّ وثاقه تنكيلاً به، وبعثه إِلى المدينة ويداه إِلى عنقه إِزراءً عليه وإِرهاباً لسواه، فلمَّا دخل المدينة على هيئته تلقَّاه صبيان المدينة مستهزئين، وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصَّغيرة قائلين:(أي عدو الله! ارتددتَ عن الإِسلام!!) فيقول: والله ما كنت امنت قطُّ، وجيء به إِلى خليفة رسول الله، ولقي من الخليفة سماحةً لم يصدِّقها، وأمر بفكِّ يديه، ثم استتابة، فأعلن عينة توبةً نصوحاً، واعتذر عمَّا كان منه، وأسلم، وحسن إِسلامه

ومضى طليحة، حتَّى نزل كلب على النَّقع، فأسلم، ولم يزل مقيماً في كلبٍ حتَّى مات أبو بكر، وكان إِسلامه هنالك حين بلغه: أنَّ أسداً، وغطفان، وعامراً قد أسلموا، ثمَّ خرج نحو مكَّة معتمراً في إِمارة أبي بكرٍ، ومرَّ بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكرٍ: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به! خلُّوا عنه، فقد هداه الله للإِسلام.

وقد جاء عند ابن كثيرٍ: وأمَّا طليحة فإِنَّه راجع الإِسلام بعد ذلك أيضاً، ذهب إِلى مكَّة معتمراً أيَّام الصِّدِّيق، واستحيا أن يواجه مدَّة حياته، وقد منع الصِّدِّيق المرتدِّين من المشاركة في فتوحاته بالعراق، والشَّام، ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاحتياط لأمر الأمَّة؛ لأنَّ من كان له سوابق في الضَّلال والكيد للمسلمين لا يُؤمن أن يكون رجوعه من باب الاستسلام لقوَّة المسلمين، فأبو بكرٍ رضي الله عنه من الأئمَّة الذين يرسمون للنَّاس خطَّ سيرهم، ويتأَسَّى بهم النَّاس بأقوالهم، وأفعالهم، فهو لذلك يأخذ بمبدأ الاحتياط لما فيه صالح الأمَّة وإِن كان في ذلك وضع من شأن بعض الأفراد.

وهذا درسٌ عظيمٌ تتعلَّمه الأمَّة في عدم وضع الثِّقة بمن كانت لهم سوابق في الإِلحاد، ثمَّ ظهر منهم العودة إِلى الالتزام بالدِّين.

إِنَّ وضع الثِّقة الكاملة بهؤلاء، وإِسناد الأعمال القياديَّة لهم قد جرَّ على الأمَّة أحياناً ويلاتٍ كثيرة، وأوصلها إِلى مازق خطيرة، على أنَّ أخذ الحذر من مثل هؤلاء لا يعني اتهامهم في دينهم، ولا نزع الثِّقة منهم بالكلِّيَّة، وهذا معلمٌ من سياسة الصِّدِّيق في التَّعامل مع أمثال هؤلاء.

هذا وقد حسن إِسلام طليحة، وأتى عمر إِلى البيعة حين استخلف، وقال له عمر: أنت قاتل عكَّاشة، وثابت، والله لا أحبُّك أبداً، فقال: يا أمير المؤمنين! ما تهتمُّ من رجلين أكرمهما الله بيدي، ولم يُهِنِّي بأيديهما! فبايعه عمر، ثمَّ قال له: يا خُدَع! ما بقي من كهانتك؟ قال: نفخةٌ أو نفختان بالكير، ثمَّ رجع إِلى دار قومه، فأقام بها حتَّى خرج إِلى العراق، وقد كان إِسلامه صحيحاً، ولم يُغْمضعليه فيه، وقال يعتذر، ويذكر ما كان منه:

نَدِمْتُ على ما كانَ من قَتْلِ ثابتٍ وعُكَّاشة الغنمين ثمَّ ابن معبد

وأعظم مِنْ هاتينِ عندي مصيبةً رجوعي عن الإِسلام فِعْلَ التعمد

وتركي بلادي والحوادث جَمَّةٌ طريداً وقِدْماً كنتُ غَيْرَ مطرد

فهل يقبل الصِّدِّيقُ أنِّي مراجعٌ ومُعطٍ بما أحدثتُ مِنْ حَدَثٍ يدي

واني مِنْ بَعْدِ الضَّلالة شاهدٌ شهادةَ حقٍّ لَسْتُ فيها بملحد

بأن إِله النَّاس ربِّي وأنَّني ذليلٌ وأنَّ الدِّينَ دينُ مُحَمَّدِ

هـ قصَّة الفجاءة:

واسمه إِياس بن عبد الله بن عبد يلايل بن عمير بن خُفَاف من بني سُليم، قال ابن إِسحاق: وقد كان الصِّدِّيق حرَّق الفجاءة بالبقيع في المدينة، وكان سببه: أنَّه قدم عليه، فزعم: أنَّه أسلم، وسأل منه أن يجهِّز معه جيشاً يقاتل به أهل الردَّة، فجهَّز معه جيشاً، فلمَّا سار جعل لا يمرُّ بمسلمٍ ولا مرتدٍّ إِلا قتله، وأخذ ماله، فلمَّا سمع الصِّدِّيق بعث وراءه جيشاً فردَّه، فلمَّا أمكنه الله منه بعث به إِلى البقيع، فجمعت يداه إِلى قفاه وألقي في النَّار، فحرَّقه، وهو مقموطٌ، وكان الَّذي ألقى القبض عليه طريفة بن حاجز، وهذا يظهر لنا دور مسلمي سليم في محاربة المفسدين في الأرض والمرتدِّين.

وهذه العقوبة بسبب غدر الفجاءة، أو لأنَّه قد يكون ارتكب في ضحاياه من المسلمين جريمة الإِحراق مرَّةً، أو مرَّات.

و- ما قاله حسَّان فيمن قال: لا نطيع أبا الفصيل، يعنون: أبا بَكْرٍ:

ما البَكْرُ إِلا كالفَصيلِ وقد ترى أنَّ الفَصيْل عليه لَيْسَ بعار

انا وما حجَّ الحَجِيْجُ لِبَيْتِه ركبانُ مكَّة معشرَ الأنصار

نفري جَمَاجِمَكُم بكلِّ مُهَنَّدٍ ضَرْبَ القُدار مبادئ الأيسار

حتَّى تقنوه بفحلِ هنيدةٍ يحمي الطَّروقةَ بازلٍ هدَّارِ

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022