الخميس

1446-03-16

|

2024-9-19

(أطياف موسم الحج)

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 282

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1444ه/ مايو 2023م

.

- طيف إبراهيم الخليل - عليه السلام- وهو يودع البيت فلذة كبده إسماعيل وأمه، ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
- طيف هاجر - عليها السّلام - وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرارة الملتهبة حول البيت وهي تهرول بين الصفا والمروة، وقد نهكها العطش وهدّها الجهد وأضناها الإشفاق على الطفل، ثم ترجع في الجولة السابعة، وقد حطمها اليأس لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع الوضيء، وإذا زمزم، ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب.
- طيف إبراهيم - عليه السلام- وهو يرى الرؤيا، فلا يتردد في التضحية بفلذة كبده، ويمضي في الطاعة المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، فتجيبه الطاعة الراضية في إسماعيل عليه السلام: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، وإذا رحمة الله تتجلى في الفداء: { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}.
- طيف إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام- وهما يرفعان القواعد من البيت في إنابة وخشوع: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} .(1)
وتظل هذه الأطياف وتلك الذكريات ترف وتتابع حتى يلوح طيف عبد المطلب وهو ينذر دم ابنه العاشر إن رزقه الله عشرة أبناء وإذا هو عبد الله وإذا عبد المطلب حريصاً على الوفاء بالنذر، وإذا قومه من حوله يعرضون عليه فكرة الفداء وإذ هو يدير القداح حول الكعبة ويضاعف الفداء، والقداح يخرج في كل مرة على عبد الله، حتى يبلغ الفداء مائة ناقة بعد عشر، وهي الدّيّة المعروفة، فيقبل منه الفداء، فينحر مائة وينجو عبد الله، ينجو ليودع رحم آمنة أطهر نطفة وأكرم خلق الله على الله -محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ثم يموت، فكأنما فداه الله من الذبح لهذا القصد الوحيد الكريم الكبير.(2)
ثم تتواكب الأطياف والذكريات من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يدرج في طفولته وصباه فوق هذا الثرى، حول هذا البيت، وهو يرجع الحجر الأسود بيديه الكريمتين فيضعه موضعه ليطفئ الفتنة التي كادت تنشب بين القائل وهو يصلي وهو يطوف وهو يخطب وهو يعتكف، وإن خطواته - عليه الصلاة والسلام- لتنبض حية في الخاطر وتتمثل شاخصة في الضمير، يكاد الحاج هناك يلمحها وهو مستغرق في تلك الذكريات وخطوات الحشد من صحابته الكرام وأطيافهم ترف وتدف فوق هذا الثرى، حول ذلك البيت، تكاد تسمعها الأذن وتكاد تراها الأبصار.
والحج بعد ذلك كله مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة، مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا}، ويجدون محورهم الذي يشدهم جميعاً إليه، هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعاً ويلتقون عليها جميعاً ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها، راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان ويجدون قوتهم التي ينسونها حيناً، قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين، الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد، راية العقيدة والتوحيد.(3)
وهو مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة في كل عام في ظل الله، بالقرب من بيت الله وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة والذكريات الغائبة والحاضرة في أنسب مكان وأنسب جو وأنسب زمان، فذلك إذ يقول الله سبحانه {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}.. كل جيل بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته وذلك بعض ما أراده الله بالحج يوم أن فرضه على المسلمين وأمر إبراهيم - عليه السّلام- أن يؤذن به في الناس.(4)

مراجع الحلقة الثانية و الثمانون بعد المائتين:
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2419).
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2419).
(3) المرجع نفسه، (4/2420).
(4) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2320).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي
http://www.alsallabi.com/salabibooksOnePage/27


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022