الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)

(أهم الفوائد والدروس والعِبر من استشهاد الفاروق)

المقال (6)

بقلم: د. علي محمد الصلّابي

1 محرم 1445هـ/ 19 يوليو 2023م

 

إن من أهم الفوائد والدروس والعِبر التي نستفيدها من حادثة استشهاد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) هي:

1 - التَّنبيه على الحقد الَّذي انطوت عليه قلوب الكافرين ضدَّ المؤمنين:

ويدلُّ على ذلك قتل المجوسي أبي لؤلؤة لعمر - رضي الله عنه - وتلك هي طبيعة الكفَّار في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، قلوبٌ لا تضمر للمسلمين إِلا الحقد، والحسد، والبغضاء، ونفوسٌ لا تكنُّ للمؤمنين إِلا الشَّرَّ، والهلاك، والتَّلف، ولا يتمنَّون شيئاً أكثر من ردَّة المسلمين عن دينهم، وكفرهم بعد إِسلامهم (سير الشُّهداء دروسٌ وعبرٌ، عبد الحميد السِّحيباني، ص 36)، وإِنَّ الَّذي ينظر جيِّداً في قصَّة مقتل عمر - رضي الله عنه- وما فعله المجوسيُّ الحاقد أبو لؤلؤة؛ يستنبط منها أمرين مهمَّين، يكشفان الحقد الَّذي أضمره هذا الكافر في قلبه تجاه عمر، وتجاه المسلمين، وهما:

أ - أنَّه قد ثبت في الطَّبقات الكبرى لابن سعدٍ بسندٍ صحيحٍ إِلى الزُّهري (الطَّبقات، 3/345): أنَّ عمر - رضي الله عنه - قال لهذا المجوسيِّ ذات يومٍ: ألم أحدَّث أنَّك تقول: لو أشاء لصنعت رحىً تطحن بالرِّيح، فالتفت إِليه المجوسيُّ عابساً وقال: لأصنعنَّ لك رحىً يتحدَّث النَّاس بها. فأقبل عمر على مَنْ معه، فقال: توعَّدني العبد.

ب - الأمر الثَّاني الَّذي يدلُّ على الحقد الَّذي امتلأ به صدر هذا المجوسي: أنَّه لمَّا طعن عمر - رضي الله عنه - طعن معه ثلاثة عشر صحابيَّاً استشهد منهم سبعةٌ.. جاء في رواية الإِمام البخاريِّ قوله: فطار العلج (المقصود أبو لؤلؤة الفارسي) بسكِّينٍ ذات طرفين لا يمرُّ على أحدٍ يميناً ولا شمالاً إِلا طعنه، حتَّى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعةٌ (البخاريُّ، كتاب مناقب الصَّحابة، رقم 3700)، ولو كان عمر - رضي الله عنه - ظالماً له، فما ذنب بقيَّة الصَّحابة الَّذين اعتدى عليهم ؟ !، ومعاذ الله تعالى أن يكون عمر ظالماً له ! إِذ قد ثبت في رواية البخاري: أنَّه لمَّا طُعن - رضي الله عنه - قال: يا بن عبَّاس ! انظر من قتلني، فجال ساعةً، ثمَّ جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع ؟ - أي: الصَّانع -، قال: نعم، قال: قاتله الله ! لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الَّذي لم يجعل منيَّتي بيد رجلٍ يدَّعي الإِسلام (البخاريُّ، كتاب المناقب، رقم 3700).

وهذا المجوسيُّ أبو لؤلؤة قام أحبابه أعداء الإِسلام ببناء مشهدٍ تذكاريٍّ له على غرار الجندي المجهول في إِيران، يقول السَّيِّد حسين الموسوي من علماء النَّجف: واعلم أنَّ في مدينة كاشان الإِيرانيَّة، في منطقةٍ تسمّى (باغي فين) مشهداً على غرار الجندي المجهول، فيه قبرٌ وهميٌّ لأبي لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي، قاتل الخليفة الثَّاني عمر بن الخطَّاب، حيث أطلقوا عليه ما معناه بالعربيَّة (مرقد بابا شجاع الدِّين)، وبابا شجاع الدِّين هو لقب أطلقوه على أبي لؤلؤة لقتله عمر بن الخطَّاب، وقد كتب على جدران هذا المشهد بالفارسي: (مرك بر أبو بكر، مرك بر عمر، مرك بر عثمان) ومعناه بالعربيَّة: الموت لأبي بكر، الموت لعمر، الموت لعثمان، وهذا المشهد يزار من قبل الشِّيعة الإِيرانيِّين، وتلقى فيه الأموال، والتَّبرُّعات، وقد رأيت هذا المشهد بنفسي، وكانت وزارة الإِرشاد الإِيرانيَّة قد باشرت بتوسيعه، وتجديده، وفوق ذلك قاموا بطبع صورة على المشهد على كارتاتٍ، تستخدم لإِرسال الرَّسائل، والمكاتيب (لله ثمَّ للتَّاريخ، كشف الأسرار وتبرئة الأئمَّة الأطهار، ص 94).

2 - بيان الخشية، والخوف من الله الَّتي تميَّز بها عمر رضي الله عنه:

وممَّا يدلُّ على هذا الخوف الَّذي سيطر على قلب عمر - رضي الله عنه - قبيل استشهاده قوله لمَّا علم: أنَّ الَّذي طعنه هو المجوسي أبو لؤلؤة: الحمد لله الَّذي لم يجعل منيَّتي بيد رجلٍ يدَّعي الإِسلام (البخاريُّ، كتاب المناقب، رقم 3700)، فإِنَّه رغم العدل الَّذي اتَّصف به عمر - رضي الله عنه - والَّذي اعترف به القاصي، والدَّاني، والعربي، والعجمي، إِلا أنَّه كان خائفاً أن يكون قد ظلم أحداً من المسلمين، فانتقم منه بقتله، فيحاجُّه عند الله تعالى، كما تدلُّ على ذلك رواية ابن شهابٍ: أنَّ عمر قال: الحمد لله الَّذي لم يجعل قاتلي يحاجُّني عند الله بسجدةٍ سجدها له قطُّ ! وكما تدلُّ عليه كذلك رواية مبارك بن فضالة: يحاجُّني بقول: لا إِله إِلا الله (سير الشُّهداء دروسٌ، وعبرٌ، ص 40)، وهذه عجيبةٌ من عجائب هذا الإِمام الرَّبَّاني، ينبغي أن يتربَّى عليها الدُّعاة، والمصلحون، وأن يكون الانكسار علامةً من أكبر علاماتهم، حتَّى ينفع الله تعالى بهم، كما نفع بأسلافهم كعمر - رضي الله عنه - وليكن مقال الجميع قول محمد أحمد الراشد في الرقائق:

وَاحَسْرَتِي، وَاشَقْوَتِي

مِنْ يَوْمِ نَشْرِ كِتَابِيَ

هْوَاطُوْلَ حُزْنِي إِنْ أَكُنْ

أُوتِيْتُهُ بِشِمَالِيَ

هْوَإِذَا سُئِلْتُ عَنِ الخَطَا

مَاذَا يَكُوْنُ جَوَابِيَهْ ؟

وَاحَرَّ قَلْبِي أَنْ يَكُوْنَ

مَعَ الْقُلُوْبِ القَاسِيَهْ

كَلا وَلاَ قَدَّمْتُ لِي

عَمَلاً لِيَوْمِ حِسَابِيَهْ

بَلْ إِنَّني لِشَقَاوَتِي

وَقَسَاوَتِي وَعَذَابِيَهْ

بَارَزْتُ بِالزَّلاتِ فِي

أيَّامِ دَهْرٍ خَالِيَهْ

مَنْ لَيْسَ يَخْفَى عَنْهُ مِنْ

قُبْحِ المَعَاصِي خَافِيَهْ.

3- التَّواضُع الكبير عند الفاروق رضي الله عنه:

دلَّ على تواضع أمير المؤمنين الكبير في حادث استشهاده قوله لابنه عبد الله: انطلق إِلى عائشة أمِّ المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السَّلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإِنِّي لست اليوم للمؤمنين أميراً (البخاريُّ، كتاب المناقب، رقم 3700). ويدلُّ عليه كذلك قوله لابنه لمَّا أذنت عائشة بدفنه إِلى جنب صاحبيه: فإِذا أنا قضيت، فاحملوني، ثمَّ سلِّمْ، فقل: يستأذن عمر بن الخطَّاب، فإِن أذنت لي فأدخلوني، وإِن ردَّتني، فردُّوني إِلى مقابر المسلمين، فرحم الله عمر ! - رضي الله عنه -، ورزقنا خُلُقاً من خُلُقه، وتواضعاً من تواضعه، وجزاه خير ما يجزي به الأتقياء المتواضعين، إِنَّ ربِّي قريبٌ مجيبٌ (سير الشُّهداء، ص 41).

4 - الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وهو على فراش الموت:

إِنَّ اهتمام الفاروق بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر لم يتخلَّ عنه حتَّى وهو يواجه الموت بكلِّ الامه وشدائده، ذلك: أنَّ شابَّاً دخل عليه لمَّا طعن، فواساه، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك ! من صحبة رسول الله(ﷺ)، وقدم في الإِسلام ما قد علمت، ثمَّ وُلِّيت، فعدلت، ثمَّ شهادة ! قال - أي: عمر -: وددتُ أنَّ ذلك كفافٌ، لا عليَّ، ولا لي، فلمَّا أدبر؛ إِذا إِزاره يمسُّ الأرض، قال: ردُّوا عليَّ الغلام، قال: يا بن أخيَّ ارفع ثوبك فإِنَّه أنقى لثوبك، واتقى لربِّك (البخاريُّ، كتاب المناقب، رقم 3700).

وهكذا لم يمنعه - رضي الله عنه - ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف، ولذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه - فيما رواه عمر بن شبَّة: يرحم الله عمر ! لم يمنعه ما كان فيه من قول الحقِّ (سير الشُّهداء، ص 42). ومن عنايته الفائقة في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر في هذه الحالة أيضاً، لمَّا دخلت عليه حفصة - رضي الله عنها - فقالت: يا صاحب رسول الله ! ويا صهر رسول الله ! ويا أمير المؤمنين ! فقال عمر لابن عمر - رضي الله عنهما -: يا عبد الله ! أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسنده إِلى صدره، فقال لها: إِنِّي أُحرِّجُ عليك بما لي عليك من الحقِّ أن تندبيني (من الندب أي تذكر النادب الميت بأحسن أوصافه) بعد مجلسك هذا ! فأمَّا عينك؛ فلن أملكها (الحِسْبَة د.فضل إِلهي، ص 27).

وعن أنس بن مالكٍ، قال: لمَّا طُعن عمر؛ صرخت حفصة، فقال عمر: يا حفصة ! أما سمعت رسول الله(ﷺ) يقول: « إِنَّ المُعْوَل عليه يُعذَّب » ؟ وجاء صهيبٌ، فقال: واعمراه! فقال: ويلك يا صهيب ! أما بلغك: أنَّ المُعْوَل عليه يُعذَّب (فضائل الصَّحابة، أحمد بن حنبل، 1/418).

ومن شدَّته في الحقِّ - رضي الله عنه - حتَّى بعد طعنه وسيلان الدَّم منه، فعندما قال له رجل: استخلف عبد الله بن عمر، قال: واللهِ ما أردتَ الله بهذا (سير الشُّهداء، ص 43)!

5 - جواز الثَّناء على الرَّجل بما فيه إِذا لم تُخشَ عليه الفتنة:

كما هو الحال هنا مع عمر - رضي الله عنه - إِذ أثني عليه من قبل بعض الصَّحابة لأنَّهم كانوا يعلمون: أنَّ الثَّناء عليه لا يفتنه. قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - وهو العالم الرَّبَّانيُّ، والفقيه الكبير: أليس قد دعا رسول الله ﷺ أن يعزَّ بك الدِّين والمسلمين؛ إِذ يخافون بمكَّة، فلمَّا أسلمت كان إِسلامك عزَّاً، وظهر بك الإِسلام..، وأدخل الله بك على كلِّ أهل بيتٍ من توسعتهم في دينهم، وتوسعتهم في أرزاقهم، ثمَّ ختم لك بالشَّهادة، فهنيئاً لك ! وهكذا لم تؤثر هذه الكلمات في قلب عمر شيئاً، ولم يفرح بها، ولذا ردَّ على ابن عبَّاس قائلاً: والله إِنَّ المغرور من تغرُّونه (سير الشُّهداء دروسٌ وعبرٌ، ص 45)!

6 - حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل عمر رضي الله عنه:

كعب الأحبار هو كعب بن مانع الحميري، كنيته أبو إِسحاق، واشتهر بكعب الأحبار، أدرك النَّبيَّ(ﷺ) وهو رجلٌ كافرٌ، وأسلم في خلافة عمر، سنة اثنتي عشرة (جولةٌ تاريخيَّةٌ في عصر الخلفاء الرَّاشدين، محمَّد السَّيِّد الوكيل، ص 294)، وقد اشتهر قبل إِسلامه بأنَّه من كبار علماء اليهود في اليمن، وبعد إِسلامه أخذ عن الصَّحابة الكتاب، والسُّنَّة، وأخذوا وغيرهم عنه أخبار الأمم الغابرة، خرج إِلى الشَّام، وسكن حمص، وتوفِّي فيها (سير أعلام النُّبلاء، 3/489 - 494).

وقد اتُّهم كعب الأحبار في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب، فقد جاءت روايةٌ في الطَّبري عن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - تشير إِلى اتِّهامه في مقتل عمر جاء في تلك الرِّواية:.. ثمَّ انصرف عمر إِلى منزله، فلمَّا كان من الغد جاءه كعب الأحبار، فقال له: يا أمير المؤمنين ! اعهد فإِنَّك ميِّتٌ في ثلاثة أيَّامٍ. قال: وما يدريك ؟ قال: أجده في كتاب الله عزَّ وجلَّ التَّوراة، قال عمر: الله إِنَّك لتجد عمر بن الخطَّاب في التَّوراة ؟ ! قال: اللَّهُمَّ لا، ولكنِّي أجد صفتك، وحليتك، وأنَّه قد فني أجلك، قال: وعمر لا يحسُّ وجعاً، ولا ألماً فلمَّا كان من الغد جاءه كعب، فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يومٌ، وبقي يومٌ، وليلةٌ؛ وهي لك إِلى صبيحتها، قال: فلمَّا كان الصُّبح، خرج إِلى الصَّلاة، وكان يوكل بالصُّفوف رجالاً، فإِذا استوت؛ جاء هو فكبَّر، قال: ودخل أبو لؤلؤة في النَّاس، في يده خنجرٌ له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ستَّ ضرباتٍ، إِحداهنَّ تحت سرَّته، وهي التَّي قتلته (تاريخ الطَّبري، 5/182، 183).

ولقد بنى بعضُ المفكِّرين المحدثين على هذه الرِّواية نتيجةً، مفادها: اشتراك كعب الأحبار في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - مثل الدكتور جميل عبد الله المصري في كتابه: أثر أهل الكتاب في الفتن، والحروب الأهليَّة في القرن الأوَّل الهجري، وعبد الوهَّاب النَّجار في كتابه: الخلفاء الرَّاشدون، والأستاذ غازي محمَّد فريج في كتابه: النَّشاط السِّرِّي اليهودي في الفكر، والممارسة (العنصريَّة اليهوديَّة واثارها في المجتمع الإِسلامي، 2/518، 519)، وقد ردَّ الدُّكتور أحمد بن عبد الله بن إِبراهيم الزُّغيبي على الاتِّهام الموجَّه لكعب الأحبار، فقال: والَّذي أراه في هذه القصَّة المعقَّدة: أنَّ تلك الرِّواية؛ الَّتي رواها الإِمام الطَّبري - رحمه الله تعالى - غير صحيحةٍ، لأمورٍ كثيرةٍ من أهمِّها:

أ - أنَّ هذه القصَّة لو صحَّت لكان من المنتظر من عمر - رضي الله عنه - أن لا يكتفي بقول (كعب)، ولكن لجمع طائفةً ممَّن أسلم من اليهود وله إِحاطةٌ ب-(التَّوراة) مثل عبد الله بن سلام، ويسألهم عن هذه القصَّة، وهو لو فعل لافتضح أمر (كعب)، وظهر للنَّاس كذبه، ولتبيَّن لعمر - رضي الله عنه - أنَّه شريكٌ في مؤامرةٍ دبِّرت لقتله، أو أنَّه على علمٍ بها، وحينئذٍ يعمل عمر - رضي الله عنه - على الكشف عنها بشتَّى الوسائل، وينكِّل بمدبريها، ومنهم كعب، هذا هو المنتظر من أيِّ حاكمٍ، فضلاً عن عمر - رضي الله عنه - المعروف بكمال الفطنة، وحدَّة الذِّهن، وتمحيص الأخبار، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، فكان ذلك دليلاً على اختلاقها (الحديث والمحدِّثون، أو عناية الأمَّة الإِسلاميَّة بالسُّنَّة، محمَّد أبو زهو، ص 182).

ب - أنَّ هذه القصَّة لو كانت في التَّوراة، لما اختصَّ بعلمها كعبٌ - رحمه الله تعالى - وحده، ولشاركه العلم بها كلُّ من له علمٌ ب- (التَّوراة) من أمثال عبد الله بن سلام رضي الله عنه (الحديث والمحدِّثون، أو عناية الأمَّة الإِسلاميَّة بالسُّنَّة، محمَّد أبو زهو، ص 182).

ج- أنَّ هذه القصَّة لو صحَّت أيضاً؛ لكان معناها: أنَّ كعباً له يدٌ في المؤامرة، وأنَّه يكشف عن نفسه بنفسه، وذلك باطلٌ لمخالفته طباع النَّاس؛ إِذ المعروف أنَّه من اشترك في مؤامرةٍ، يبالغ في كتمانها بعد وقوعها، تفادياً من تحمُّل تبعاتها، فالكشف عنها قبل وقوعها لا يكون إِلا من مغفَّلٍ أبلهَ، وهذا خلاف ما كان عليه كعب، من حدَّة الذِّهن، ووفرة الذَّكاء (المرجع السابق نفسه).

د - ثمَّ ما ل- (التَّوراة) وتحديد أعمار النَّاس؟ إِنَّ الله تعالى إِنَّما أنزل كتبه هدىً للنَّاس، لا لمثل هذه الأخبار التَّي لا تعدو أصحابها (العنصريَّة اليهوديَّة، 2/524).

هـ ثمَّ أيضاً هذه التَّوراة بين أيدينا ليس فيها شيءٌ من ذلك مطلقاً. وبعد أن أورد الشَّيخ محمَّد محمَّد أبو زهو تلك الاعتراضات الأربعة الأولى، عقَّب عليها، بقوله: ومن ذلك كلِّه، يتبيَّن لك: أنَّ هذه القصَّة مفتراةٌ بدون أدنى اشتباه، وأنَّ رمي كعب بالكيد للإِسلام في شخص عمر، والكذب في النَّقل عن التَّوراة اتِّهامٌ باطلٌ، لا يستند على دليلٍ، أو برهانٍ.

ويقول الدُّكتور محمَّد السَّيِّد حسين الذَّهبي - رحمه الله -: ورواية ابن جريرٍ الطَّبري للقصَّة لا تدلُّ على صحَّتها؛ لأنَّ ابن جريرٍ كما هو معروفٌ عنه لم يلتزم الصحَّة في كلِّ ما يرويه، والَّذي ينظر في تفسيره يجد فيه ممَّا لا يصحُّ شيئاً كثيراً (العنصريَّة اليهوديَّة، 2/525)، كما أنَّ ما يرويه في تاريخه لا يعدو أن يكون من قبل الأخبار الَّتي تحتمل الصِّدق، والكذب، ولم يقل أحدٌ بأنَّ كلَّ ما يُروى في كتب التَّاريخ ثابتٌ، وصحيحٌ (الإِسرائيليَّات في التَّفسير والحديث، ص 99)، ثمَّ يتابع قائلاً: ثمَّ إِنَّ ما يعرف عن كعب الأحبار من دينه، وخلقه، وأمانته، وتوثيق أكثر أصحاب الصِّحاح له؛ يجعلنا نحكم بأنَّ هذه القصَّة موضوعةٌ عليه، ونحن ننزِّه كعباً عن أن يكون شريكاً في قتل عمر، أو يعلم من يدبِّر أمر قتله، ثمَّ لا يكشف لعمر عنه، كما ننزِّهه أن يكون كذَّاباً وضَّاعاً، يحتال على تأكيد ما يخبر به من مقتل عمر نسبته إِلى التَّوراة، وصوغه في قالبٍ إِسرائيليٍّ (الإِسرائيليَّات في التَّفسير والحديث، ص 96). إِلى أن يقول: اللَّهُمَّ إِنَّ كعباً مظلومٌ من متَّهميه ! ولا أقول عنه: إِلا أنَّه مأمونٌ، وعالمٌ استغلَّ اسمه، فنُسب إِليه رواياتٌ معظمها خرافاتٌ وأباطيل، لتروج بذلك على العامَّة، ويتقبَّلها الأغمار من الجهلة.

وأمَّا الدُّكتور محمَّد السَّيِّد الوكيل، فيقول: إِنَّ أوَّل ما يواجه الباحث هذا هو موقف عبيد الله بن عمر الَّذي لم يكد يسمع بما حدث لأبيه حتَّى يحمل سيفه، ويهيج كالسَّبع الحرب، ويقتل الهرمزان، وجفينة، وابنةً صغيرةً لأبي لؤلؤة؛ أفترى عبيد الله هذا يترك كعب الأحبار والشُّبهة تحوم حوله، ويقتل ابنة أبي لؤلؤة الصَّغيرة؟ إِنَّ أحداً يبحث الموضوع بحثاً علميَّاً لا يمكن أن يقبل ذلك، ويضاف إِلى ذلك: أنَّ جمهور المؤرِّخين لم يذكروا القصَّة، بل لم يشيروا إِليها، فابن سعدٍ في الطَّبقات وقد فصَّل الحادث تفصيلاً دقيقاً لم يُشر قطُّ إِلى الحادثة، بل كلُّ ما ذكر عن كعب الأحبار: أنَّه كان واقفاً بباب عمر يبكي، ويقول: والله لو أنَّ أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخِّره؛ لأخَّره (الطَّبقات، 3/361)! وأنَّه دخل على عمر بعد أن أخبره الطَّبيب بدنوِّ أجله، فقال: ألم أقل لك إِنَّك لا تموت إِلا شهيداً، وأنت تقول: من أين، وأنا في جزيرة العرب. ويأتي بعد ابن سعدٍ ابنُ عبد البرِّ في الاستيعاب، فلا يذكر شيئاً قطُّ عن قصَّة كعب الأحبار (جولةٌ في عصر الخلفاء الرَّاشدين، ص 296).

وأمَّا ابن كثيرٍ، فيقول: إِنَّ وعيد أبي لؤلؤة كان عشيَّة يوم الثُّلاثاء، وأنَّه طعنه صبيحة يوم الأربعاء لأربعٍ بقين من ذي الحجَّة (البداية والنِّهاية، 7/137)، لم يكن إِذاً بين التَّهديد والتَّنفيذ سوى ساعاتٍ معدوداتٍ، فكيف ذهب كعب الأحبار إِلى عمر، وقال له ما قال: اعهد فإِنَّك ميِّتٌ في ثلاثة أيَّامٍ، ثمَّ يقول: مضى يومٌ، وبقي يومان، ثمَّ مضى يومان، وبقي يومٌ وليلة، من أين لكعب هذه الأيَّام الثَّلاثة إِذا كان التَّهديد في اللَّيل والتَّنفيذ صبيحة اليوم التَّالي ؟ ويتوالى المؤرِّخون، فيأتي السُّيوطي في تاريخ الخلفاء، والعصامي في سمط النُّجوم العوالي، والشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب، وابنه عبد الله في كتابيهما مختصر سيرة الرَّسول، وحسن إِبراهيم حسن في تاريخ الإِسلام السِّياسي، وغيرهم، فلا نجد واحداً منهم يذكر القصَّة من قريبٍ، أو بعيدٍ، أليس هذا دليلاً على أنَّ القصَّة لم تثبت بصورةٍ تجعل المحقِّق يطمئنُّ إِلى ذكرها؛ هذا إِذا لم تكن منتحلةً مصنوعةً، كاد بها بعض النَّاس لكعب لينفِّروا منه المسلمين، وهذا ما تطمئنُّ إِليه النَّفس، ويميل إِليه القلب، وبخاصَّةٍ بعدما عرفنا: أنَّ كعباً كان حسن الإِسلام، وكان محلَّ ثقة كثيرٍ من الصَّحابة؛ حتَّى روَوْا عنه حديث رسول الله(ﷺ) (جولةٌ في عصر الخلفاء الرَّاشدين ص 296).

 

المرجع الأساسي:

- فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)؛ شخصيته وعصره للمؤلف الدكتور علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، ط2 1430هـ - 2009م، ص. ص 560 – 570. ورابط الكتاب على الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي:

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/630


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022