"الإيمان بالقدر في القصص القرآني"
مختارات من كتاب "الإيمان بالقدر"
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة الخامسة
وردت الإشارات الكثيرة إلى الإيمان بالقدر في قصص الأنبياء والرسل وأخبار الأولين الواردة في القرآن عموماً، ومنها ما ورد بذكر خسف الله تعالى بقارون وداره، يقول تعالى عن قومه: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [القصص: 82]. فقوله ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ لبعض عباده ويُضيّقه على بعضهم فله الأمر، يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى (1).
وكذلك في خبر الله تعالى عن زكريا ومريم عليهما السلام، قال تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37]. فقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: الراجح أنه من كلام مريم، وهو يفيد التقرير بأن الله قد يرزق عباده بغير حساب، وأن ذلك مرتبط بمشيئته سبحانه (2). وفي قصة الرجل صاحب الجنتين يقول تعالى عن صاحبه أنه قال له وهو يحاوره: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾ [الكهف: 39] أي: هلا قلت عندما دخلتها: ﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾، أي الأمر بمشيئة الله، وما شاء الله كان فترد أمر جنتك من الحسن والنضارة لخالقه سبحانه، ولا تفتخر به لأنه ليس من عملك وصنعك ﴿ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ أي: وهلا قلت: ﴿ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾، معترفاً بأنها وما فيها بمشيئة الله ـ تعالى ـ إن شاء أبقاها، وإن شاء أفناها، وأنك عاجز عنها، وعن غيرها لولا معونة الله (3).
وفي سورة الجن يذكر الله تعالى أن الجن قالوا: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: 10]، فهم بعد أن منعوا من استراق السمع جزموا أن الله أراد أن يحدث في الأرض حادثاً كبيراً من خير أو شر، فقالوا: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ....﴾ الآية، فهم مؤمنون بأن الله له الإرادة المطلقة، وقد كانوا مؤدبين فقد أضافوا الخير إلى الله تعالى والشر حذفوا فاعله تأدباً (4).
إن الإيمان بالقدر داخلٌ ضمناً في الإيمان بالله، بل هو جزء حقيقي منه لأن معناه، الإيمان بإحاطة علم الله تعالى بكل شيء وشمول إرادته لكل ما يقع في الكون، ونفوذ قدرته في كل شيء.
والإيمان بالقدر، الذي جاء به الإسلام هو إيمان بمقتضى الكمال الإلهي الذي تميزت به عقيدة الإسلام، وصححت به أوهام الفلسفات، وانحراف الديانات في شأن الألوهية.
فليس الإله في الإسلام إلهاً معزولاً عما يجري في الكون لا يعلمه ولا يتدخل فيه بتدبير ولا تصريف كـ "إله أرسطو" الذي لا يعرف إلا ذاته، ولا يعلم عن هذا الكون شيئاً، ولا يدبر فيه أمراً، أو "إله أفلوطين" الذي لا يعلم ذاته نفسها. وليس كإله المجوس، الذي له نصف الكون يدبره ويتصرف فيه، وهو ما يتعلق بالخير والنور، أما النصف الآخر وهو ما يتصل بالشر والظلمة، فذلك من شأن إله آخر، فهما إلهان إذن: أحدهما إله الخير والنور، والآخر إله الشر والظلمة والحرب بينهما سجال حتى ينتصر إله الخير في النهاية .
وليس هو كآلهة اليونان، التي تخبط في تصرفاتها خبط عشواء والتي تعيش في حرب مع البشر، حتى إن رواياتهم عن القدر وضرباته للناس تمثله هازئاً بهم، متحدياً لهم، يطاردهم ويتجنى عليهم، ولهذا كثر الحديث في أدبهم عن قسوة القدر، وعن القدر الأعمى، والقدر الغاشم ونحو ذلك.
وليس كإله بني إسرائيل، الذي تصوره توراتهم المحرفة، وكتبهم وأساطيرهم، غيوراً منتقماً مدمراً، متعصباً لشعب إسرائيل دون العالمين، خائفاً من الإنسان أن يأكل من شجرة الحياة، فيصبح كواحد من الآلهة، نادماً على ما يفعله في بعض الأحيان عاجزاً عن مقاومة الإنسان، حتى إن إسرائيل ليصارعه فيصرعه (5).
ليس هذا الذي تتصوره أو تصوره الديانات والفلسفات هو إله الإسلام، إنما الإله في الإسلام هو مالك الملك، وصاحب الخلق والأمر، رب العالمين، هو خالق كل شيء عن قبضة قهره، ولا حي أو جماد عن دائرة سلطانه، يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء، ولا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو مع هذا بر كريم، عدل رحيم، عليم حكيم، لا يظلم أحداً، ولا يأخذ مخلوقاً بذنب غيره، ولا يبخسه أجر سعيه، فلا يخاف أحد عنده ظلماً ولا هضماً، والظلم: أن يعاقبه بما لم يفعل والهضم: أن يضيع أجر ما قد عمل، والله سبحانه لا يعاقب بغير سيئة ولا يضيع أجر حسنة، بل يضاعفها كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 40] . هذا هو الإله الذي يجري كل شيء في الكون بتقديره وتدبيره بعلمه ومشيئته ومقتضى حكمته، وعلى هذا الأساس كان إيمان السلف بالقدر من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، فليس الإيمان بالقدر إيماناً بالبخت والمصادفات والعشوائية في الكون، كهؤلاء الذين ينقلون إلى العربية التغييرات اليونانية والغربية عن القدر فتراهم يقولون: القدر الأعمى، والقدر الأحمق، والقدر الغاشم، وعبث الأقدار، وسخرية القدر ونحوها، وهي ألفاظ وتعبيرات يبرأ منها الإسلام والمسلمون، إنما هو إيمان بإحاطة علم الله وعموم مشيئته وشمول قدرته، وربوبيته لكل ما في الكون وإن كل ما يحدث في الوجود إنما يتم بناء على ترتيب أو تصميم سابق، وتدبير قدير، وتقدير عزيز عليم (6).
---------------------------------------
مراجع الحلقة الخامسة:
(1) تفسير السعدي (6 / 61 ) ، القضاء والقدر ص 130.
(2) القضاء والقدر، د. عبد الرحمن المحمود ص 131.
(3) فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق حسن خان (5/ 454) .
(4) تفسير ابن كثير (8/ 267) ، القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود ص 131.
(5) الإيمان بالقدر للقرضاوي ص 10.
(6) الإيمان بالقدر للقرضاوي ص 11.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/648