الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

العلم هو سراج يخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن الضلالة إلى الهداية ومن الحيرة إلى الرشد وهو أنواع منوعة، وأشرف العلم ما تعلق بمعرفة الله عزوجل وأسمائه وصفاته، فذلك يثمر في القلب من معاني الحب والإنابة والتضرع والتوكل والخوف والرجاء ما يسر النفوس ويطمئن القلوب ويقوم السلوك ما يجعل المسلم راضيا مطمئنا فرحا بما يسره شاكرا لنعم الله صابراً على ما يصيبه من البلايا والرزيا محتسبا أجره على الله.

تربّى الصِّدِّيق على يدي رسول الله ، وحفظ كتاب الله تعالى، وعمل به في حياته، وتأمَّل فيه كثيراً، كما أن التربية النبوية على مكارم الأخلاق وملازمة الصديق للنبي ﷺ جعلت منه عالما حقيقيا.

فقد كان الصِّدِّيق من أعلم الناس بالله، وأخوفهم له،(السيوطي، 1997، ص59) وقد اتَّفق أهل السُّنَّة على أنَّ أبا بكرٍ أعلم الأُمَّة، وحكى الإجماع على ذلك غيرُ واحدٍ،(ابن تيمية،1997،ج13، ص127) وسبب تقدُّمه على كلِّ الصَّحابة في العلم، والفضل ملازمتُه للنبيِّ ﷺ، فقد كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً، وكان يسمر عند النبيِّ ﷺ بعد العشاء، يتحدَّث معه في أمور المسلمين، دون غيره من الصحابة، وكان إذا استشار أصحابه أوَّل من يتكلَّم أبو بكرٍ في الشورى، وربَّما تكلَّم غيره، وربَّما لم يتكلَّم غيره، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره؛ اتَّبع رأيه دون رأي من يخالفه،(مال الله، 1989،ص 335) وقد استعمله النبيُّ ﷺ على أوَّل حجَّةٍ حُجَّت من مدينة النبيِّ ﷺ، وعلمُ المناسك أدقُّ ما في العبادات، ولولا سعة علمه؛ لم يستعمله، وكذلك الصَّلاة استخلف عليها، ولولا علمه لم يستخلف، ولم يستخلف غيره لا في حجٍّ ولا في صلاةٍ، وكتاب الصَّدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكرٍ، وهو أصحُّ ما روى فيها، وعليه اعتمد الفقهاء، وغيرهم، في كتابه ما هو متقدِّم منسوخٌ، فدلَّ على أنَّه أعلم بالسُّنَّة النَّاسخة، ولم يُحفظ له قولٌ يخالف فيه نصّاً، وهذا يدلُّ على غاية البراعة، والعلم.

وفي الجملة لا يُعْرَف لأبي بكرٍ مسألةٌ في الشَّريعة غلط فيها، وقد عرف لغيره مسائلُ كثيرةٌ.(بن قاسم، 1996، ص60)

وكان رضي الله عنه يقضي، ويفتي، بحضرة النبيِّ ﷺ، ويقرُّه، ولم تكن هذه المرتبة لغيره، وقد بيَّنت ذلك في سلب أبي قتادة بحنين.(بن قاسم، 1996، ص59)

وقد ظهر فضل علمه، وتقدُّمه على غيره بعد وفاة الرَّسول ﷺ، فإن الأُمَّة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصَّلها هو بعلمٍ يبيِّنه لهم، وحجَّةٍ يذكرها لهم من الكتاب والسُّنَّة، وذلك لكمال علم الصِّدِّيق، وعدله، ومعرفته بالأدلَّة التي تزيل النِّزاع، وكان إذا أمرهم؛ أطاعوه. كما بيَّن لهم موتَ النبيِّ ﷺ، وتثبيتهم على الإيمان، ثمَّ بيَّن لهم موضع دفنه، وبين لهم ميراثه، وبين لهم قتال مانعي الزَّكاة لما استراب فيه عمر، وبين لهم: أنَّ الخلافة في قريش، وتجهيز جيش أسامة، وبيَّن لهم: أن عبداً خيَّره الله بين الدُّنيا والآخرة، هو رسول الله ﷺ  (بن قاسم، 1996، ص59).

ولقد رأى رسول الله ﷺ له رؤيا تدلُّ على علمه، فعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: « رأيت كأني أعطيت عُسّاً مملوء لبناً، فشربت منه حتى تملأتُ، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد، واللَّحم، ففضلت منها فضلةٌ، فأعطيتها أبا بكرٍ». قالوا: يا رسول الله، هذا علمٌ أعطاك الله حتى إذا تملأت منه، فضلت فضلةٌ، فأعطيتها أبا بكر، فقال ﷺ: « قد أصبتم» (عاشور، الكومي،1994،ص 155).

وكان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يرى: أنَّ الرؤيا حقٌّ، وكان يجيد تأويلها، وكان يقول إذا أصبح: من رأى رؤيا صالحةً فليحدِّثنا بها، وكان يقول: لأن يرى رجلٌ مسلمٌ مُسْبِغُ الوضوء رؤيا صالحةً أحبُّ إليَّ من كذا، وكذا. وممّا عبره ﷺ من الرُّؤى ما يلي: عن ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ: أنَّ رجلاً أتى رسول الله، فقال: إنِّي رأيت الليلة في المنام ظلَّةً تنطف السَّمن، والعسل، فأرى الناس يكفون منها، فالمستكثر، والمستقِلُّ، وإذا سببٌ واصلٌ من الأرض إلى السَّماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثمَّ أخذ به رجلٌ اخر فانقطع، ثمَّ وُصِلَ. فقال أبو بكرٍ: يراسل الله! بأبي أنت، والله لَتَدَعَنِّي فأَعْبُرَهما، فقال النبيُّ ﷺ: «اعبُرها» قال: أمّا الظُّلَّة فالإسلام، وأمّا الذي ينطف من العسل، والسَّمن فالقران، حلاوته تنطف، فالمستكثر من القران، والمستقلُّ، وأمّا السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحقُّ الذي أنت عليه، تأخذ به، فيُعليك الله، ثمَّ يأخذ به رجل اخر فيعلو به، ثم يأخذ رجل اخر فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله! بأبي أنت، أصبت أم أخطأت؟ قال النبيُّ ﷺ: «أصبت بعضاً، وأخطأت بعضاً » . قال: فوالله لَتُحَدِّثَنِّي بالذي أخطأت . قال: « لا تُقسم ».(السيوطي،1997، ص129)

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أنَّها رأت كأنَّه وقع في بيتها ثلاثة أقمار، فقصتها على أبي بكرٍ ـ وكان مِنْ أعبر النَّاس ـ فقال: إن صدقت رؤياك لَيُدْفَنَنَّ في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثةٌ. فلمّا قبض النبيُّ ﷺ قال: « يا عائشة هذا خيرُ أقمارك ». فقد كان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ أَعْبَرَ هذه الأمَّة بعد نبيِّها.(السيوطي،1997، ص130)

ومع كونه ـ رضي الله عنه ـ من أعلم الصَّحابة إلا أنَّه من أبعد الناس عن التكلُّف. فعن إبراهيم النَّخَعي قال: قرأ أبو بكرٍ الصِّدِّيق {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا *} [عبس: 31] فقيل: ما الأبُّ؟ فقيل: كذا، وكذا، فقال أبو بكرٍ: إنَّ هذا لهو التكلُّف، أيُّ أرضٍ تقلُّني، وأي سماءٍ تُظلُّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!

 

مراجع البحث

علي محمد الصلابي، الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003م صص110-112

جلال الدِّين السُّيوطي، تاريخ الخلفاء عُني بتحقيقه إِبراهيم صالح، دار صادر، بيروت، الطَّبعة الأولى 1417هـ 1997م.

تقي الدِّين أحمد بن تيميَّة الحَرَّاني، مجموعة الفتاوى، دار الوفاء، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1997م.

محمَّد مال الله، أبو بكرٍ الصِّدِّيق، مكتبة ابن تيميَّة، الطبعة الأولى 1410هـ 1989م

محمَّد بن عبد الرحمن بن محمَّد بن قاسم، أبو بكرٍ الصِّدِّيق أفضل الصَّحابة وأحقُّهم بالخلافة، دار القاسم الطَّبعة الأولى 1417هـ 1996م.

محمَّد أحمد عاشور، جمال عبد المنعم الكومي، خطب أبي بكرٍ الصِّدِّيق، دار الاعتصام.1414ه-1994م


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022