انحراف الفطرة والشذوذ الجنسي أسباب لغضب الله وعقابه الشديد
بقلم د. علي محمّد الصَّلابي
حين هاجر لوط مع عمّه خليل الله إبراهيم (عليهما السّلام) نزلا بوادي الأردن، ثم عاش لوط (عليه السلام) وحده في إحدى القبائل على ضفاف البحر الميت أو بحيرة لوط، كما سميت فيما بعد، وكانت تسكن مدينة سدوم، وصار لوط (عليه السّلام) منهم بالصهر والمعايشة.
ثم حدث أن فشا في القوم شذوذ عجيب، يذكر القرآن الكريم أنه يقع لأول مرة في تاريخ البشرية، ذلك هو الميل الجنسي المنحرف إلى الذكور بدلاً من الإناث اللاتي خلقهن الله للرجال؛ لتتكون من الجنسين وحدات طبيعية منتجة تكفل امتداد الحياة بالنسل وفق الفطرة المطّردة في جميع الأحياء، إذ خلقها الله أزواجاً ذكراناً وإناثاً، فلم يقع الشذوذ والانحراف إلى الجنس المماثل قبل قوم لوط هؤلاء، ومن خلال قصة لوط وخطابه لقومه في القرآن الكريم، يظهر أن الفساد قد استشرى فيهم بكل ألوانه، فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
كانوا يأتون الرجال، وهي فاحشة قذرة، تدل على انحراف الفطرة، وفسادها من أعماقها، فالفطرة قد تفسد بتجاوز حدّ الاعتدال والطهارة مع المرأة؛ فتكون هذه جريمة فاحشة، ولكنها داخلة في نطاق الفطرة، ومنطقها، فأما ذلك الشذوذ، فهو انخلاع من فطرة الأحياء جميعاً، وفساد في التركيب النفسي والتركيب العضوي على حد سواء، فقد جعل الله لذة المباشرة الجنسية بين الزوجين، متناسقة مع خط الحياة الأكبر وامتداد بالنسل الذي ينشأ عن هذه المباشرة الشاذة، فلا هدف لها، ولم يجهز الله الفطرة بالتذاذها تبعاً لانعدام الهدف منها، فإذا وجد فيها أحد لذة، فمعنى هذا أنه انسلخ نهائياَ من خط الفطرة، وعاد مسخاً لا يرتبط بخط الحياة.
وكانوا يقطعون السبيل، فينهبون المال، ويُرعون المارة، ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرهاً، وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى، إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض، ويأتون في ناديهم المنكر، يأتونه جهاراً وفي شكل جماعي متفق عليه، لا يخجل بعضهم من بعض، وهي درجة أبعد في الفحش، وفساد الفطرة، والتبجح بالرذيلة إلى حدٍّ لا يرجى معه صلاح.
وجاءت قصة لوط (عليه السّلام) في سورة العنكبوت مختصرة، وظاهر أن لوطاً أمرهم في أول الأمر ونهاهم بالحسنى، وأنهم أصروا على ما هم فيه، فخوّفهم عذاب الله، وجابههم بشناعة جرائمهم الكبرى، فكان جوابهم: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ]العنكبوت:29[، فهو التبجح في وجه الإنذار، والتحدي المصحوب بالتكذيب والشرود الذي لا تُنتظر منه أوبة، وقد أعذر إليهم رسولهم فلم يبقَ إلا أن يتوجه إلى ربه طالباً نصره الأخير.
قال تعالى: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} ]العنكبوت:30[، وهنا يسدل الستار على دعاء لوط، ليرفع عن الاستجابة، وفي الطريق يلم الملائكة المكلفون بالتنفيذ بإبراهيم (في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/2733).
وقد وصفهم الله تعالى بالإسراف لما أتاهم العذاب، قال: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} ]الذاريات:34[، والمسرف هو الذي تجاوز الحدّ في المعصية، فكان هناك حدوداً للأمور، وحدوداً للحلال وحدوداً للحرام، وقد بيّنها الحق سبحانه وعلّمنا كيف نقف عند هذه الحدود؛ فقال تعالى في الحلال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} ]البقرة:229[، وقال في الحرام: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} ]البقرة:187[، أي: قف عند حدود الحلال لا تتجاوزه إلى غيره، أما الحرام فإياك أن تقربه، احذر مجرد الاقتراب منه؛ لأنّك لو اقتربت منه توشك أن تقع فيه فهي حماية لك (تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، 23/14590)
كما قال الله سبحانه وتعالى لآدم (عليه السلام): {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} ]البقرة:35[، وقال: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ]الإسراء:32[، ففي الحرام لا يمنعنا من الفعل، بل يمنعنا من الاقتراب من أسبابه، ففي أي شيء أسرف هؤلاء المجرمون المسرفون؟ أسرفوا في فعل محرّم يناقض الطبيعة النقية، التي خلقها الله.
وإن الجريمة التي ارتكبها هؤلاء القوم، واستحقوا بها ما حاق بهم من ألوان العذاب، أنهم صرفوا هذه الغريزة التي جعلها الله في الإنسان عن وجهها الحلال إلى وجه آخر محرم لا فائدة منه ولا ثمرة له؛ وجه ينافي الفطرة السليمة، والأذواق المستقيمة، فكانوا يأتون الذكران بدل أن يأتوا النساء كما أحل الله تعالى، ومعلوم أن الإتيان مقصور على مكان الحرث والاستنبات: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ]البقرة:223[، ويكون ذلك عن طريق الزواج الذي أباحه الله لعباده (تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (23/14592).
قوم لوط أسرفوا على أنفسهم، ووقعوا في جريمة الإتيان للذكران، وتصريف الشهوة الجنسية بوسيلة شيطانية حرمها الله تعالى، ولما كان هذا الفعل زنا يستحق الرجم، رجمهم الله لا بحجارة من الأرض، وإنما بحجارة من السماء، تنزل على كل واحد منهم باسمه؛ تخصه دون غيره، بحيث لم تُبقِ منهم أحداً وأبادتهم عن بكرة أبيهم.