التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (20)
"تشريع الزكاة "
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
في السَّنة الثانية للهجرة شرع الله الزَّكاة؛ الَّتي هي ركنٌ من أركان الإسلام، وكان ذلك بعد شهر رمضان؛ لأنَّ تشريع الزَّكاة العامَّة كان بعد زكاة الفطر، وزكاة الفطر كانت بعد فرض صيام رمضان قطعاً؛ يدلُّ على هذا ما رواه الأئمَّة: أحمد، وابن خزيمة، والنَّسائيُّ، وابن ماجه، والحاكم من حديث قَيْس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: «أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تَنْزِل الزَّكاةُ، ثمَّ نزلت الزَّكاةُ، فلم يأمرنا، ولم ينهنا ونحن نفعله» (صحيح سنن النسائي للألباني، رقم: 2506)، قال الحافظ ابن حجر: «إسناده صحيحٌ» (ابن حجر العسقلاني، د.ت، ص 3/207)، «وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً على أنَّ مشروعية الزَّكاة إنما كانت بالمدينة في السَّنة الثَّانية» (أبو شهبة، 1996، ص 2/111).
فالزَّكاة في العهد المكيِّ كانت مطلقةً من القيود والحدود، وكانت موكولةً إلى إيمان الأفراد وأرْيَحِيَّتِهِم، وشعورهم بواجب الأخوَّة نحو إخوانهم من المؤمنين، فقد يكفي في ذلك القليل من المال، وقد تقتضي الحاجة بذلَ الكثيرِ أو الأكثر (القرضاوي، 1994، 1/77).
فكانت الآيات المكِّيَّة تهتمُّ بجانب التَّربية والتَّوجيه، وتحثُّ على رعاية الفقراء والمساكين بأساليب متنوعةٍ، منها: أنَّ إطعام المساكين من لوازم الإيمان، ففي سورة المدَّثر - وهي من أوائل ما نزل من القرآن - يعرض القرآن الكريم مشهداً من مشاهد الآخرة، مشهد أصحاب اليمين من المؤمنين، في جنَّاتهم يتساءلون عن المجرمين من الكفرة، وقد أُطبقت عليهم النِّيران، فيسألونهم عمَّا أحلَّ بهم هذا العذاب، فكان من أسبابه، وموجباته: إهمال حقِّ المسكين، وتركه لأنياب الجوع والعُري تنهشه، وهم عنه معرضون (القرضاوي، 1994، 1/70)، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ [المدثر: 38 - 46] .
وقصَّ الله على عباده قصَّة أصحاب الجنَّة، الَّذين تواعدوا أن يقطفوا ثمارها بِلَيْلٍ؛ ليحرموا منها المساكين - الَّذين اعتادوا أن يصيبوا شيئـاً من خيرها يوم الحصاد - فحلَّت بهم عقوبة الله العاجلة: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لاَ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلـمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخرةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [القلم: 19 - 33] .
ولم تقف عناية القرآن المكِّيِّ عند الدَّعوة إلى الرَّحمة بالمسكين والتَّرغيب في إطعامه ورعايتـه، والتَّرهيب من إهمالـه والقسوة عليـه؛ بل تجاوز ذلـك، فجعل في عنق كلِّ مؤمنٍ حقاً للمسكين، أن يحضَّ غيره على إطعامـه ورعايته، وجعل تَـرْكَ هذا الحضِّ قرينَ الكفر بالله العظيم، وموجبـاً لسُخْطه - سبحانه - وعذابه في الآخرة. قال تعالى في شأن أصحاب (الشِّمال): ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ [الحاقة: 30 - 32] . وَلِمَ كلُّ هذا العذاب والهوان والخزي على رؤوس الأشهاد؟: ﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ [الحاقة: 33 - 34] .
وهذه الآيات المزلزِلة للقلوب، المنذرة بالعذاب، هي الَّتي جعلت مثلَ أبي الدَّرداء - رضي الله عنـه - يقول لامرأتـه: «يا أمَّ الدرداء! إنَّ لله سلسلةٌ ولم تزل تغلي بها مرَاجِلُ النَّار منذ خَلقَ الله جهنَّمَ، إلى يوم تُلقى في أعناق الناس، وقد نجَّانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحُضِّي على طعام المسكين يا أمَّ الدَّرداء» (القرضاوي، 1994، 1/70).
أمَّا القرآن المدني، فقد نزل بعد أن أصبح للمسلمين جماعةٌ، لها أرضٌ وكيانٌ وسلطان؛ فلهذا اتَّخذت التَّكاليف الإسلاميَّة صورةً جديدةً ملائمةً لهذا الطَّور: صورة التحديد والتَّخصيص، بعد الإطلاق والتَّعميم، وصورة قوانين إلزاميَّة، بعد أن كانت وصايا توجيهيةً فحسب، وأصبحت تعتمد في تنفيذها على القوَّة والسُّلطان، مع اعتمادها على الضَّمير والإيمان، وظهر هذا الاتِّجاه المدنيُّ في الزَّكاة؛ فحدَّد الشَّارع الأموال التي تجب فيها وشروط وجوبها والمقادير الواجبة، والجهات التي تُصرف لها وفيها، والجهاز الذي يقوم على تنظيمها وإدارتها، وأكَّد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في المدينة فريضة الزَّكاة، وبيَّن مكانتها في دين الله، وأنَّها أحد الأركان الأساسية لهذا الدِّين، ورغَّب في أدائها، ورهَّب من منعها بأحاديث شتَّى، وأساليب متنوعةٍ.
وأعلن الرَّسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه: أنَّ أركان الإسلام خمسةٌ، بدأها بالشَّهادتين، وثنَّاها بالصَّلاة، وثلَّثها بالزَّكاة، فالزَّكاة في السُّنَّة - كما هي في القرآن - ثالثةُ دعائم الإسلام: الَّتي لا يقوم بناؤه إلا بها، ولا يرتكز إلا عليها (القرضاوي، 1994، 1/78-89)، وعندما طبَّق المسلمون هذا الرُّكن كما أمر الله تعالى، وكما شرع رسولُه صلى الله عليه وسلم، تحقَّقت أهدافٌ عظيمة في المجتمع، وبرزت آثارها في حياة الفرد والمجتمع، كالوقاية من الشحّ، وتنمية المال وزيادته بفضل البركة التي يطرحها الله تعالى فيه بفعل الزكاة والصدقات، وأيضاً حصول الأمن في الدنيا والآخرة، وحصولُ المحبَّة بين الأغنياء والفقراء، وشيوع الأمن والطُّمَأْنِينَة في أوساط المجتمع، وشعور المسلمين بأنهم كالجسد الواحد في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم.
المراجع:
1. أبو شهبة، محمد، (1996)، السِّيرة النَّبويَّة في ضوء القرآن والسُّنَّة، دار القلم - دمشق، الطَّبعة الثَّالثة، 1417هـ 1996م.
2. ابن حجر العسقلاني، (د.ت)، فتح الباري، دار المعرفة، بيروت - لبنان.
3. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 537-545.
4. القرضاوي، (1994)، فقه الزَّكاة، مكتبة وهبة، الطَّبعة الحادية والعشرون، 1414 هـ 1994 م.