التمكين ثمرة للإعداد العقائدي والتربية الراشدة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
يحتل الإعداد المعنوي والعقائدي المكانة الأولى كسبب من أسباب التمكين، وهذا الإعداد يكون عن طريق إعداد الأفراد الربانيين، ولقد رسم لنا النبي صلى الله عليه وسلم منهجاً متميزاً في تربية الأفراد على معاني الربانية وتحمل أداء رسالة رب البرية، وكان صلى الله عليه وسلم مهتما ببناء القاعدة الصلبة وتربية أتباعه على معاني العقيدة الصحيحة، فقد حرص صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول من بعثته على أن يعطي الناس التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عند من صفت نفوسهم، واستقامت فطرتهم، ولقد ركز النبي صلى الله عليه وسلم في تربيته لأصحابه على عدة جوانب منها:
- أن الله منزه عن النقائص، موصوف بالكمالات التي لا تتناهى فهو سبحانه واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
- وأنه سبحانه خالق كل شيء، ومالكه، ومدبر أمره " أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ
- وَالأمْرُ" [الأعراف: 54].
- وأنه تعالى جده مصدر كل نعمة في هذا الوجود، دقت أو عظمت، ظهرت أو خفيت "وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ" [النحل: 53].
- وأن علمه محيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، ولا ما يخفى الإنسان وما يعلن: "وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" [الطلاق: 12].
- وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب " مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" [ق: 18].
- وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون، وما يهوون، ليعرف الناس معادنهم، من منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهرا وباطنا، فيكون جديرا بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط، فلا يساوي شيئا، ولا يسند إليه شيء: " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" [الملك: 2].
- وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه، ولاذ بحماه، ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر: " إِنَّ وَلِيَّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ" [الأعراف: 196].
- وأنه وأن حقه سبحانه وتعالى على العباد أن يعبدوه، ويوحدوه، فلا يشركوا به شيئا: " بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ" [الزمر: 66].
- وأنه - سبحانه - حدد مضمون هذه العبودية، وهذا التوحيد في القرآن العظيم.
وظل صلى الله عليه وسلم يطرق معهم هذه الجوانب، ويكرر على أصحابه ومن آمن به, ويفتح عيونهم عليها من خلال الكتاب المنظور، والكون المسطور حتى خشعت قلوبهم وسمت أرواحهم, وطهرت نفوسهم، ونشأ لديهم تصور وإدراك لحقيقة ومضمون الألوهية يخالف تصورهم الأول، وإدراكهم القديم (2).
اهتم صلى الله عليه وسلم بغرس حقيقة المصير وسبيل النجاة لأصحابه موقنا أن من عرف منهم عاقبته، وسبيل النجاة والفوز في هذه العاقبة، سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك هذا السبيل، حتى يظفر غدا بهذه النجاة, وذلك الفوز، وركز صلى الله عليه وسلم في هذا البيان على الجوانب التالية:
-
- أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير: " إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [يونس: 24]. " قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ" [النساء: 77].
- وأن كل الخلق إلى الله راجعون، وعن أعمالهم مسئولون ومحاسبون, وفي الجنة أو في النار مستقرون: " أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" [القيامة: 36].
- وأن نعيم الجنة ينسى كل تعب ومرارة في الدنيا، وكذلك عذاب النار ينسي كل راحة وحلاوة في هذه الدنيا: " أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ` ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ` مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ" [الشعراء: 205 - 207].
" كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ" [الحاقة: 24].
-
- وأن الناس مع زوال الدنيا، واستقرارهم في الجنة، أو في النار، سيمرون بسلسلة طويلة من الأهوال والشدائد: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ` يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ" [الحج: 1،2].
وقال تعالى: " فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ` السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً" [المزمل: 17، 18].
-
- وسبيل النجاة من شر هذه الأهوال، ومن تلك الشدائد، والظفر بالجنة والبعد عن النار (2)، بالإيمان بالله تعالى وعمل الصالحات ابتغاء مرضاته: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ" [البروج: 11].
ومضى صلى الله عليه وسلم كذلك يبصرهم ويذكرهم بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومنزلتهم ومكانتهم عند الله، وظل صلى الله عليه وسلم معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم ما لهم عند الله، وما دورهم، ورسالتهم في الأرض، وتأثرا بتربيته الحميدة تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكل ما في وسعهم، وما في طاقتهم دون فتور أو توان، ودون كسل أو ملل، ودون خوف من أحد إلا من الله، ودون طمع في مغنم أو جاه إلا أداء هذا الدور وهذه الرسالة، لتحقيق السعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة (3).
وكان صلى الله عليه وسلم يحرص على إعداد أصحابه إعدادًا ربانيا وكانت خطواته تتم بكل هدوء وتدرج وسرية، وانصبت أهدافه التربوية على تعليم الكتاب والسنة وتلاوة القرآن الكريم وتطهير النفوس من أمراضها، وإعداد الأفراد لتحمل تكاليف الدعوة والرسالة، وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم والدعاة من بعده ذلك التوجيه المتمثل في قوله تعالى: " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" [الكهف: 28].
فالآية الكريمة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على تقصير وأخطاء المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم خاصة إن كانت خاطئة، وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة، وأن يوضح لهم طبيعة طريق الدعوة، وأنها شاقة, وأن لا يغرر مغرر ليبعده عنهم، وأن لا يسمع فيهم منتقصاً، ولا يطيع فيهم متكبراً أغفل الله قلبه عن حقيقة الأمور وجوهرها (4).
المصادر والمراجع:
(1) انظر: منهج الرسول صلى الله عليه في غرس الروح الجهادية، د. سيد نوح، ص 10: 160.
(2) انظر: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في غرس الروح الجهادية، د. سيد نوح، ص 19: 34.
(3) انظر: المصدر نفسه، ص37.
(4) انظر: الطريق إلى جماعة المسلمين، حسين بن محسن بن علي جابر، ص170.
(5) فقه النصر والتمكين، علي محمد الصلابي، ط1، مكتبة التابعين، القاهرة، 2001، ص 257-275.