الثلاثاء

1447-05-13

|

2025-11-4

المسلم إيجابي أينما حلَّ وارتحل .. سيرة يوسف عليه السلام نموذجاً

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

قدم المسلمون الصورة المثالية والأفضل في التعايش مع مكونات المجتمع المختلفة عبر كافة العصور، وقد حققوا وطبقوا ذلك حتى في الحالات التي يكون فيها المسلمون أقليةً في مجتمع أغلبيتهم من غير المسلمين، وعندما يعيش المسلمون في دولة غير مسلمة، فالمسلم إنسان إيجابي أين ما حلَّ وارتحل، فالمسلم الحقيقي والملتزم هو دليل الحق والقدوة الأخلاقية والإنسان البنّاء الذي يحب الخير لجميع الناس، ويتعاون معهم على البر والتقوى وعلى فعل الخير أياً كان، ويساعد المستضعفين ويقدم العون للمحتاجين وينفق على الفقراء، ولا يبخل بما يملك في سبيل خدمة الإنسانية ونفع البشرية بما يرضي الله تعالى. فالمسلم هو الإنسان المعطاء والكريم بعمله وعلمه وماله وقوله ونصيحته، وقد ضرب القرآن الكريم لنا نموذجاً رائعاً عن ذلك المسلم الذي يعيش في وسط اجتماعي لا يعتنق دينه، وفي ظل دولة غير مسلمة، وذلك في سياق سرد قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وهو نبيٌ عاش بين قوم وثنيين وفي ظل دولة وثنية سجنته ظلماً.

قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ** قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ** وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ** يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ** قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ** ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ** ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: 42 - 49].

بقي يوسف u في السجن حتى جاء الفرج من الله تعالى مباشرة وكان ذلك بسبب ما قدر سبحانه لملك مصر أن يرى في نومه رؤيا تنبّئه، كانت بتقدير العليم الحكيم سبباً لخروج يوسف من السجن، ونهاية لمحنته وآلامه (1). هذه الرؤيا خلد الله ذكرها في كتابه العزيز وذكر تفاصيلها لأنها من أعظم الرؤى التي عرفتها البشرية لقد تعلقت بها حياة شعوب بأكملها، لقد رآها ملك مصر (2). وقد اهتم الملك لهذه الرؤيا التي يظهر منها أنّ الضعيف يغلب القوي، ولعله خشي أن يكون له صلة بحكمه وسلطانه ولذلك اهتم بها (3). ولم يعرف الملأ الذين حول الملك تفسيراً للرؤيا التي رآها الملك في منامه. فعندما أذن الله بالفرج هيأ الأسباب حيث حركت رؤيا الملك ذاكرة الساقي، وما كان لموضوع مثل هذا الموضوع ولا لحادثة مثل حادثة الساقي مع يوسف ما كان لها أتنسى لولا الحكمة والإرادة الإلهية العظيمة. لقد أثارت الرؤيا ما كان دفن من عهد طويل، فهتف الساقي كمن دبّت فيه حياة بعد موت: "أنا أنبئكم بتأوليه"، وبذلك استأذن ليذهب إلى من يؤول رؤيا الملك، وإذ به ينتقل من بلاط الملك إلى حيث يوسف يقبع في السجن كل هذه السنين وما نالت السنون من معنويات يوسف عليه السلام شيئاً (4).

ويهتف به الساقي لهفاً: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾، أفتنا في سبع بقرات، ويعيد عليه الرؤيا بحروفها وحذافيرها وترتيبها مما يدل على أنه كان يعطيها اهتماماً وعناية ويتوقع شأناً وخطراً، ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾؛ ولم يكن الساقي يتوقع من يوسف المحسن أن ينتقم لنفسه فيكتم علماً أكرمه الله به، أو يرد ملهوفاً وقت حاجة انتقاماً للذات أو تصفية حسابات.

إن الأمر يتعلق بحياة شعب، ولا يجوز أن تطغى الأمور الشخصية على القضايا التي تمس المصالح العامة (5)، والساقي يلقب يوسف (بالصديق) أي الصادق الكثير الصدق وهذا ما جربه في شأنه من قبل، ونقل الساقي ألفاظ الملك التي قالها كاملة، لأنّه يطلب تأويلها فكان دقيقاً في نقلها (6).

ونلاحظ أن يوسف u لم يطلب لقاء الملك ليخبره بالتأويل وهذا يدل على نبل نفسه وترفعه رغم السجن، وهو يعلم أنهم لم يأتوا إليه إلا لما عجز غيره عن تعبيرها، وهذا ما يوحي به قوله تعالى: ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، ومع ذلك لم يطلب مقابلاً لتعبيره، ولو كان هذا المقابل رفع ظلم حل به، أو خلع ثوب التهمة الذي ألبسوه إياه، ولو أراد مجرد التزلف للسلطان لاستغل هذه الفرصة واحتال مقابلة الملك، فقد كان بإمكانه أن يدعي ضرورة سؤال الملك بعض الأسئلة ليتمكن من تعبير رؤياه، أو ليثق أنها على ما حكاه الساقي، لكنه لم يكُ ينتظر الفرج إلا ممن بيده الأمر كله، ربه ورب هذا الملك.

ولا شك أن يوسف u علم في استشارة الملك له فرصة ذهبية يجب استثمارها، ولكنه لم يفكر في مصالحه الشخصية، وفكر فيما يكفل مقام النبوة العزة والكرامة، ولعل يوسف u أدرك جهل المستشارين وذلك الملأ، وقدر أنهم لم يحسنوا إدارة الأزمة القادمة لذلك كان لابد من تقديم تقرير وافٍ ليتضمن الرد على السؤال، والتدابير التي ينبغي اتخاذها لمنع الكارثة الاقتصادية من الوقوع، فلم يعبر الرؤيا بأن قال: تأتيكم سنوات شديدة تتلوها سنوات رخاء، بل أخبرهم كيف السبيل للنجاة من تلك السنوات المهلكات ريثما تتغير الحال، فيها للأحسن. لقد استحوذ هذا الخلق الكريم على نبي الله يوسف، فلم يطق إلا أن يكون محسناً، لم يكن يملك أحد ممن رآه إلا أن يصفه بذلك، وفي هذا الموقف دليل على أن الإحسان إلى عامة الخلق مندوب.

إن حال نبي الله يوسف u في ذلك الموقف أفصحت عن إحسانه وأفصحت أيضاً عن خلق كريم آخر، ألا وهو العزة بالله، وإلا فمتى كان الملوك يسعون إلى السجناء سعياً ويلتمسون عندهم المشورة التماساً، ولكن حقيق على العزيز الجبار أن يعز عبده الذي فوض إليه أمره، وألجأ إليه ظهره، واكتفى به حسيباً (7).

بادر يوسف ليس ليفسر الرؤيا وحسب، ولكن ليرسم خطة عملية تستغرق القطر كله ﴿تَزْرَعُونَ﴾، وتستغرق الشعب المصري كله وتستغرق سنين بطولها: ﴿سبع سنين﴾. إن يوسف u يقدم من هذه الجملة معلومة عملية رائعة ويرشد إلى أحسن طريقة لحفظ الحبوب، وهي إبقاء الحبوب في السنابل لحين الحاجة إليها، فهذا ليحفظها من التسوس، لأن السوس لا يكون في الحب الذي في السنابل اليابسة.

وقال العلمي - رحمه الله -: " أجابهم يوسف على الفور ولم يشترط أن يخرجوه لقاء ذلك، لأنّه كريم وشأن الكريم عدم الإبطاء، والإخلاص في الإعطاء. أفتاه يوسف مع أنه كان عهِد إليه بتوسطه عند مليك مصر ولم يفعل، وإنما بسط له التدبير اللازم وكيفية تلطيف هذه الأزمة التي ستحل بالمصريين، مع أن المصريين هم الذين سجنوه ظلماً، لأن النصيحة من الإيمان وكاتم العلم ملعون، ولأن الذي سجنه إنما أفراد، وكذلك الذي نسي أن يذكر حال يوسف ومظلمته عند الملك إنما هو أيضاً واحد، فكيف يبخل يوسف بالعلم وحسن التدبير بذنب رجل أو رجلين " (8).

إن يوسف u لم يكتف بتعبير الرؤيا، بل بادر فوضع لهم خطة عمل لمواجهة سنوات القحط والجفاف، خطة اقتصادية تتناول الحياة الزراعية والتنموية للأمة خلال خمس عشر سنة مقبلة (9). إن يوسف u رسم هذه الخطة لأحوال الشعب المصري المعيشية لمستقبل يمتد خمسة عشر عاماً، وهو نبي كريم مؤمن بقضاء الله وقدره، ويعلم أن كل شيء خلقه الله بقدر سبق به علمه سبحانه، وتعلقت به مشيئته في الأزل، ويعلم أيضاً أن الإنسان لا يستطيع أن يخترق أسوار القدر، ولكن القدر غيب عن الإنسان، وقد أمر بأن يسعى في تحصيل أسباب ما يراه نافعاً، واجتناب أسباب ما يراه ضاراً، ثم يرضى بما قدر الله تعالى له. ولم يكتف u بتعبير رؤيا الملك، بل قدم لهم نُصحه وإرشاده وخبرته وعلمه في شؤون الزراعة والادخار والتموين، وهذا يدل على أن العلوم التي علمها الله تعالى يوسف لم تكن محصورة في علوم العقيدة والعبادة وتعبير الرؤيا، فقد كان عليه السلام يُعلم علوماً كثيرة تتعلق بشؤون الزراعة والادخار والتموين، تعلمها دون أن يدخل مدرسة وجامعة، علمه الله إياها بواسطة الوحي، وقد ظهر ذلك من قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي﴾ [يوسف: 37]، فلم يبخل يوسف عليه بعلومه وخبرته، كما يفعل الآن الخبراء الذين تستقدمهم الدول المختلفة من الدول المتقدمة في مجال العلوم، فلا يقدمون مشورتهم وخبرتهم للمحتاجين إليها حتى يأخذوا عليها ثمناً باهظاً وامتيازات كبيرة. قدمها يوسف u للمحتاجين إليها قبل أن تُطلب منه، قدمها لمن أساؤوا إليه وظلموه وأدخلوه السجن بسبب عفته وأمانه، قدمها لهم وهو لا يزال في سجنهم قبل أن يخرجوه منه، وعرف الملك فضل يوسف u وعلمه، فأمر بإخراجه من السجن وإحضاره إليه، ولكن يوسف u أبى أن يخرج من السجن حتى تثبت براءته، فقد رأى أن دخوله السجن عرّضه للشبهة ولهذا أصر أن ينفيها عنه قبل خروجه (10).

ومن الأمثلة النموذجية والرائعة التي ضربها المسلمون في التعايش الإنساني والتفاعل الإيجابي مع المجتمع، هو إقامة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحبشة بعد هجرتهم إليها، فالصحابة رضي الله عنهم عاشوا مسالمين مصلحين في مجتمعهم، ولم يقوموا بإثارة أي نوع من الفتن والمشاكل، سواء أكان ذلك مع الشعب الذي استضافهم أو مع أصحاب السلطة والحكم هناك، بل قابلوا الإحسان بالإحسان وردوا المعروف بالمعروف، وحفظوا للنجاشي جميله. وهكذا هم المسلمون إذا عاشوا في بلاد ودول غير مسلمة، فإنهم يحترمون القوانين ويلتزمون بها ما دامت لا تتعارض مع النصوص القطعية ومع ثوابت الدين والعبادات المفروضة، فإذا كان القانون مخالفاً لذلك، فإنهم لا يقومون بتطبيقه فقط، فلا يقومون بالعصيان والتمرد، ولا إثارة الفتن والمشاكل، ولا يجوز لهم ذلك.

 

المصادر والمراجع:

1. عبد الحميد محمود طهماز، التفسير الموضوعي لسور القرآن، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1435ه، ص 4/179.

2. ناصر العمر، آيات للسائلين تفسير تحليلي وموضوعي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1429ه/ 2008م، ص 219.

3. عبد الحميد طهماز، التفسير الموضوعي لسور القرآن، ص 4/180.

4. أحمد نوفل، سورة يوسف دراسة تحليلية، دار الفرقان، عمان- الأردن، ص 406.

5. نوفل، سورة يوسف دراسة تحليلية، ص 407.

6. نوفل، سورة يوسف دراسة تحليلية، ص 407.

7. ناصر العمر، آيات للسائلين تفسير تحليلي وموضوعي، ص 227.

8. عبدالله العلمي، مؤتمر تفسير سورة يوسف، دار الفكر، دمشق، 1961م، ص 2/819-820.

9. عبد الحميد طهماز، التفسير الموضوعي لسور القرآن، ص 4/183.

10. عبد الحميد طهماز، التفسير الموضوعي لسور القرآن، ص 4/184-185.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022