بواكير تطبيق مبدأ الشورى والانتخابات في الإسلام .. بيعة النقباء
بقلم: د. علي محمد الصلابي
شهدت بيعة العقبة الثانية لحظة مفصلية في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ انتقلت فيها الدعوة الإسلامية من طور الاستضعاف إلى مرحلة بناء المجتمع والدولة. وقد مثّل اختيار الأنصار لاثني عشر نقيباً خطوةً تأسيسية أراد بها النبي ﷺ ترسيخ مبدأ الشورى، وتعميق روح المشاركة والمسؤولية، ووضع أسس العمل الجماعي والمؤسسي في المجتمع المسلم الناشئ، كما أظهرت هذه البيعة قدرة الإسلام على تأسيس وبناء مشروع حضاري يقوم على الاختيار البشري والمرجعية الإلهية في آن واحد، ومن خلال دراسة هذه التجربة المبكرة تتجلى معالم الدولة المدنية الإسلامية التي جمعت بين قيم الوحي واجتهاد الإنسان.
فحين بايع الأنصار النبي (ﷺ) في العقبة الثانية، قال لهم الرسول (ﷺ): «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم»[(1)]، ويؤخذ من اختيار النقباء دروس مهمة منها:
أ ـ أن الرسول (ﷺ) لم يعين النقباء، إنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا، فإنهم سيكونون عليهم مسؤولين وكفلاء، والأولى أن يختار الإنسان من يكفله، ويقوم بأمره، وهذا أمر شورى، وأراد الرسول (ﷺ) أن يمارسوا الشورى عملياً من خلال اختيار نقبائهم.
ب ـ التمثيل النسبي في الاختيار، فمن المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج أكثر من الذين حضروا البيعة من الأوس، فكانوا ثلاثة أضعاف الأوس، بل يزيدون، ولذلك كان النقباء ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج [(2)].
ج ـ جعل رسول الله (ﷺ) النقباء مشرفين على سير الدعوة في يثرب، حيث استقام عود الإسلام هناك، وكثر مثقفوه ومعتنقوه، فأراد الرسول (ﷺ) أن يشعرهم أنهم لم يعودوا غرباء؛ لكي يبعث إليهم أحداً من غيرهم، وأنهم غدوا أهل الإسلام، وحماته وأنصاره [(3)].
د ـ وفي بيعة العقبة التي سبقت الهجرة بايع الأنصار بالشورى والاختيار رسول الله (ﷺ) على إقامة الدولة الإسلامية في المدينة، وولدت يومئذ أولى المؤسسات الدستورية الإسلامية بالاختيار مؤسسة «النقباء الاثني عشر»، فتميزت «الدولة» عن «النبوة والرسالة» يكون الأولى اختياراً بشرياً، وبناء مدنياً، وبكون الثانية اصطفاء إلهياً لا مدخل للناس فيه، وبكون الدولة ثمرة للاجتهاد البشري، بينما «الدين وضع إلهي على البشر فيه السمع والطاعة، وإسلام الوجه لله».
لكن هذه (الدولة) نشأت واستمرت (إسلامية) لا لأنها فقط، قد تعاقد على إقامتها قوم (مسلمون) يؤمنون بالله واليوم والآخر، وإنما لأنها اختارت المرجعية الإسلامية ـ قراناً وسنة ـ الله ورسوله ـ حكماً بين رعيتها ورعاتها في كل مناحي سياستها وعمرانها، لقد قامت هذه الدولة لحراسة الدين، ولسياسة الدنيا بهذا الدين، فكانت إنجازاً مدنياً أقامه البشر وإسلامياً؛ لأن حاكميتها هي شريعة الله.
إنها ليست الوضع الإلهي الذي لا مدخل فيه لاجتهادات الناس، وليست أيضاً الإنجاز البشري الذي لا علاقة له بالدين، إنها دولة مدنية إسلامية في الوقت ذاته، لقد قامت الشورى والبيعة والاختيار البشري، وارتفعت بالإسلام مرجعية لسياستها، فهي اجتهاد بشري محكوم بمرجعية الإسلام، وذلك نمط علاقة الدين بالدولة.
لقد أقام المسلمون دولة الإسلام إنجازاً بشرياً مدنياً مرجعيته (الشريعة الإسلامية) فأقاموا بذلك الدين، وساسوا به الدولة، بل وكل نواحي العمران، فعرفت الإنسانية حضارة أبدعها البشر، لكنها مصطحبة بصبغة الإسلام، فكل عمرانها المدني، من علوم واداب وفنون، وكل التطبيقات لها إنما تبتغي تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية بواسطة هذا الإبداع في هذه الحياة [(4)].
في بيعة العقبة الثانية، وقوله (ﷺ): «أخرجوا لي اثني عشر نقيباً» دليلٌ واضح على مشروعية انتخاب القوم لمن يمثلهم فيما يقررون، وما يشاركون به من عمل مثل هذا المثال؟ ومن يدير علاقتهم وتعهداتهم؟ وإذا غابت هذه المفاهيم عن الأمة، ورأت أمماً أخرى تقيم سياستها على هذا الرشد، فهل تحرم العقل والرشد، وتقاطع سنة الرسول (ﷺ) وسنة عقلاء البشر؟ وسنة قام عليها مجدها من أجل أن تخالف رشد الآخرين، بأن ترتكس حمأ الاستبداد والعبودية؛ لأن بعض الأجداد ارتكسوا فيها؟ ولو لم يكن هناك من دليل قريب ولا بعيد، فإن رصيد التجربة البشرية الناجحة، وظهور المصلحة في الانتخابات والديمقراطية لا يجيز لمسلم عقل أن يتجنب الخير المشهود؛ لأن أحداً من أجداده لم يمارسه، ويبحث عمّا يضره، ويدمِّر مستقبله؛ لأنه يخالف الغرب أو الشرق، فما اتضح خيره وغلب على شره، واستبانت مصلحته، واتضحت الحاجة إليه وجب انتهاجه، فكيف إذ كان في سيرة رسول الله (ﷺ) له شواهد [(5)].
المراجع والمصادر:
ـ[1]مسند أحمد (3/ 461) ، مستدرك الحاكم (3/ 282).
ـ[2]السيرة النبوية .. دراسة تحليلية، محمد أبو فارس، ص 209.
ـ[3]السيرة النبوية، علي محمد الصلابي ص 315.
ـ[4]الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين، محمد عمارة، ص50، 53.
ـ[5]الديمقراطية .. الجذور وإشكالية التطبيق، محمد الأحمري، ص107 ، 108.