(في مسألة حدود العقل عند ابن باديس)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2):
الحلقة: 156
بقلم: د.علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1442 ه/ يوليو 2021
عندما وضع ابن باديس حدود العقل ومهمته ؛ حصرها في مجال النظر والبحث والاكتشاف والتحليل والتعليل في عالم الممكن، وأكد على أن قصور العقل عن إدراك الحقائق المغيبة عنه ليس بسبب طبيعته، ولكن بسبب إرادة الله. وأن عدم إدراك هذه الحقائق فيه رحمة بالإنسان وفضل من الله ونعمة. وأن قصور العقل عن إدراك حقائق النفس الإنسانية يرجع إلى تشابك العوامل المؤثرة في سلوكه من عواطف وانفعالات. ولذا فإن الأثرة المستولية على النفوس حجاب كثيف يحول دون رؤية الحقائق كما هي.
ويعلل ابن باديس ضرورة عدم إطلاق قدرات العقل، لأن مهمة العقل مرتبطة بطبيعته وطبيعة الحقائق التي يستطيع إدراكها والأخرى التي يعجز عن إدراكها، فالعقل عاجز عن إدراك حقيقة القدر والروح وبعض حقائق الكون البعيدة التي لم يكشفها العلم بعد، وتسمى بالمعجزات الكونية، وأن خفاء تلك الحقائق في الآيات الكونية لم تأت عبثاً، بل كانت إيقافاً للعقل عند حده، وتعريفاً له بقدره، وتنبيهاً له على عظيم آيات ربه، حتى أن حقيقة العقل نفسه وطبيعته كانت ضمن هذه الحقائق التي لم يستطع العقل البشري إدراكها بسهولة.
والعقل عند ابن باديس لا يعمل بمفرده في مجالي المحسوس والمعقول أو ما يسميه بعالم العلوم والاداب، لأن العقل عنده يستعين في إدراكه وتحقيق مهامه بالنور الإلهي، ويسترشد بمنهج القرآن والسنة حتى يتغلب على العقبات التي تعوق عمله وأداءه لوظيفته، وبذلك يتغلب على حالة الشك والتردد والضعف ويخرج من حالات الحيرة إلى حالة الاطمئنان.
وهكذا حدد ابن باديس مهمة العقل وحدوده وقدراته، أما ما فوق قدرته فعليه أن يفوض الأمر لله، لأن مجال الإدراك البشري هو الممكن المحدود بحدود العقل وقدراته، ومهمته فيه هي التأمل للوصول إلى اليقين والإيمان، أما مجال الغيب فليس للعقل فيه مجال، وعليه التصديق به دون محاولة إدراك حقيقته، لأنه عجز عن إدراك كنه هذه الأشياء التي هو عاجز عن إدراكها.
ويصف ابن باديس مجالات عمل العقل وحالات قوته وعجزه تفصيلاً أثناء تفسيره لقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ *} [آل عمران: 7].
إن في خلق الله وفي شرع الله وفي قدر الله وفي كلام الله ما يخفى على العقول إدراك حقيقته أو حكمته أو معناه لطفاً من الله بالإنسان وتنبيهاً له، وقد قامت الحجة عليه فيما جهل بما عرف، وكثيراً ما كانت الفروض الوهمية الموضوعة موضع اليقينيات سبباً في صد العقول عن النظر وطول أمد الخطأ والجهل، ويكون عمله ـ أي العقل ـ في قدر الله هو الاعتبار في تصاريف القدر، والاتعاظ بأحوال البشر واستحصال قواعد الحياة من سير الحياة، فإذا رأى من تصاريف القدر ما لم يعرف وجهه،ولم يتبين ما فيه من عدل وحكمة وإحسان ورحمة ؛ فليذكر عجزه، وليذكر ظهور ما خفي عنه من مثل ذلك في وقت ثم ظهر له فيوقن أن هذا مثله، وأنه إذا طالت به الأيام قد يظهر له من وجهه ما خفي منه، فيتلقاه الان بالتسليم والتنزيه راداً علمه إلى الله تعالى مفوضاً أمره إليه، ويكون عمله في شرع الله هو الفهم لنصوص الآيات والأحاديث ومقاصد الشرع وكلام أئمة السلف وتحصيل الأحكام وحكمها والعقائد وأدلتها والاداب وفوائدها والمفاسد وأضرارها، حتى إذا بلغ إلى حكم لم يعرف حكمته وقضاء لم يدر ما علته ذكر عجزه وتوقف عنده، فلم يكن من المرتابين ولا من المتكلفين، ولم يمنعه عجزه عن تعليل وتبيين وجهة ذلك القليل من المعنى ؛ من التفهم والتدبر لما بقى له من الكثير.
ويكون عمله في كتاب الله هو التفهم والتدبر لاياته والتفطن لتنبيهاته ووجوه دلالته واستثارة علومه من منطوقه ومفهومه على ما دلت عليه لغة العرب في منظومها ومنثورها وما جاء في التفاسير المأثورة، وما نقل من مفهوم الأئمة الموثوق بعلمهم وأمانتهم المشهود لهم بذلك من أمثالهم، فإذا وقف أما المتشابه رده إلى المحكم، وإذا انتهى إلى فواتح السور ذكر عجزه فامن بما لها من معنى وقال: الله أعلم. فهذا السير النظري والعمل العملي المبني على اليقين بعدل الخالق جل جلاله وحكمته ورحمته في خلقه وقدره وشرعه وكلامه، ومعرفة العبد بقدره ومقامه ؛ يزداد السائر على مقتضاه إيماناً وعلماً وفوائد جمة.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com