النضال ضد الاستعمار الفرنسي في بلد “المليون شهيد”، يكتسب أهمية خاصة بالتاريخ الاسلامي الحديث، وهو ما جعل الدكتور علي محمد الصلابي يركب في بحر الحقائق التاريخية الذي تصطدم أمواجه لتسطر بطولات الجزائريين وقادتهم في مواجهة الغزاة الفرنسيين، ليؤلف الجزء الأول من موسوعة “كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي”، وهي في طريقها للمطابع، حيث ركّز الدكتور الصلابي في بحثه على سيرة الأمير عبد القادر الجزائري وقيادته للدولة وجهادها المسلح ضد الاحتلال، قائلاً: “أثناء هذا البحث عشت مع الأمير عبد القادر يوماً بيوم، وشهراً بشهر، وسنة بسنة، واتّضحت لي سيرته كقائد رباني ومجاهد إسلامي، وناقشت بكل موضوعية وحياد الشبهات والأكاذيب التي أُلصقت به”.
بيعة الأمير عبد القادر
وكتب الشيخ الصلابي في مقالة له على موقع “الاسلام اليوم”، نبذة عن كتابه الجديد، حيث أكد “أن قبائل الجزائر بايعت الأمير عبدالقادر الذي اشتهر بالشجاعة والذكاء والعلم والصفات الحميدة، وذلك بعد أن كان والده الشريف محي الدين الحسني يحظى باحترام ووقار وهيبة ولكن تقدمه بالسن جعله يتأخر بالقيادة لأجل ابنه عبد القادر”.
وأضاف الصلابي: “أن الأمير عبد القادر بعد بيعته واستلامه لزمام الأمور، شرع في تنظيم أمور الدولة وتشكيل الكوادر الحكومية، فعيّن الأكفاء من الرجال، واعتمد الفقه الإسلامي أي التشريعات المنبثقة من القرآن الكريم والسنة نظاماً لحكمه وبناء الدولة والجهاد لتحرير الوطن من الغزاة المحتلين”.
القيادة العسكرية
وبحسب مؤلف الكتاب، فان الأمير عبد القادر سارع في تأسيس الجيش النظامي وطوّر استراتيجيته العسكرية واهتم بتطوير حرب العصابات وأصبح يتقنها اتقاناً كبيراً وكان يفاجئ ويربك الخصم وهي التي جعلت الأمير أشهر والمع رواد هذا النوع من الحرب، كما اهتم بالمخابرات والاقتصاد وهو بذلك سبق الأمير “عبد الكريم الخطابي” زعيم حرب الريف بالمغرب والشيخ “عمر المختار” بليبيا واستفاد منه الكثير من قادة التحرر الذين جاءوا من بعده.
نقض المعاهدة واندلاع الحرب
وفي سطور هذا الكتاب يقص المؤلف واقعة نقض معاهدة “التافنة” من قبل الاحتلال الفرنسي، حيث حرص الأمير عبدالقادر على إطالة أمد الهدنة، ولكن القتال اندلع من جديد ووجّه الأمير نداءه للشعب وأوامره إلى خلفائه وبدأت مرحلة جديدة من الزحف على معسكرات العدو وحصونه وتكبد الفرنسيون خسائر رهيبة، وقد استمرت المعارك مع الجيوش الفرنسية وكانت خطط الأمير متنوعة ومتجددة، وهزم “الجنرال بيجو” في معارك أيالة وهران ومتيجة، على الرغم من كثرة جنوده وحداثة الأسلحة.
وكانت قوة الأمير تكمن في استحالة العثور عليه إنها في المكان الرحب الواسع في حرارة شمس أفريقيا المحرقة في مكان ندرة المياه، إنها أيضاً في حياة الترحال التي خطها كأسلوب لمحاربة فرنسا.
لقد اعترف خصومه القادة العسكريون بعبقريته الفذة وأظهروا اعجابهم بالأمير مثل المارشال بيجو، ولامورسيير وشاغارنيه، حيث قال الجنرال بيجو عن الأمير عبد القادر: “انه خصم صنديد نخشى بطشه”.
حقيقة تاريخية مهمة
وفي هذا الكتاب ردّ الشيخ الصلابي على الشبهات الكاذبة التي أحاطت بسيرة الأمير المجاهد عبدالقادر، قائلاً: “إن الحقيقة التاريخية التي وصلت إليها من خلال الدراسة العميقة والبحث الجاد وتتبع سيرة الأمير يوم بيوم وشهر بشهر وسنة بسنة وفي الجزائر وفي الحج وفي السجون وفي المنافي وفي المهجر وفي مجالسه العلمية والحربية والسياسية تبين لنا أن الأمير لم يكن يوماً ماسونياً ولا خادماً لفرنسا، والمبادرة التي قام بها الأمير في الدفاع عن المسيحيين في الشام كانت خالصة لوجه الله الكريم، ولم تكن لدنيا يصيبها أو وسام يبتغيه”.
وفاتُه وتحوله الى رمز للنضال
ودوَّن مؤلف الكتاب، الأيام الأخيرة للأمير عبد القادر ومرضه ووفاته ودفنه ونقل رفات الأمير بعد تحرير الجزائر عام 1966م إلى بلاده في احتفال شعبي ورسّْمي مهيب، وما أن حطت الطائرة بجثمان الأمير في مطار العاصمة وأطل جثمانه الملفوف بالعلم الجزائري حتى امتدت أيادي رئيس الجمهورية “هواري بومدين” والوزراء لتحمله، وفي تلك اللحظات علت أصوات عشرات الألوف من الجزائريين والجزائريات “الله أكبر” تشق عنان السماء، وكانت ترافق الهتافات زغاريد النساء، وكانت دموع الفرح تملأ مآقي الجميع وتسيل مدراراً.
وأشار المؤلف بقوله: “إن الله عز وجل أعلى ذكر الأمير في تاريخ البشرية المعاصر وأصبح من رموز النضال وأحرار العالم الذين ناضلوا وكافحوا وجاهدوا لتنال شعوبهم الحرية والكرامة، لقد أثار كفاحه البطولي ضد فرنسا الغازية إعجاباً كبيراً في كافة أنحاء العالم والدول الأوربية، كما كان له صدى كبير حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي سنة 1846م أسست مدينة صغيرة بولاية إيوا “iowa” من طرف ثلاثة رواد أمريكيين يسمون جون تومسون، وتيموثي ديفيس وتشنز سايج أطلق عليها اسم القادر على شرف الأمير”.
فقرات أخرى
وتضمن الكتاب عددا من الفقرات المهمة الأخرى، التي لم يسع لنا في هذا التقرير ذكرها بالتفصيل ومنها: ” مراجعة الأمير عبدالقادر لعلماء المغرب واستشارتهم لابراء ذمته أمام الله، وابتكاره لمدينة الخيام المتنقلة لتجنيب المدن الدمار، بالاضافة الى سجنه من قبل الفرنسيين ثم هجرته إلى الشام وتفرغه للعلم والتدريس ومخالطة العلماء”.
هذا وناقش المؤلف الاتهامات التي وجهت إلى الأمير مثل: اتهامه بوحدة الوجود وتأثره بفكر بن عربي ونسبة كتاب المواقف إليه، واثبت بالدليل والبرهان بطلان الكثير مما نسب إليه وبراءته من عقيدة وحدة الوجود والانتساب إلى المحافل الماسونية.
(المصدر: منتدى العلماء)