السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

من الثابت تاريخياً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُعيّن للمسلمين من يقوم بأمر الدولة الإسلامية بعد وفاته بل لم يحدّد رسول الله الطريقة التي تتبع في اختيار الحاكم بعده، وإنما أوضح القواعد العامة التي يجب أن يراعيها الحاكم في سيرته في الناس ويبيّن بسيرته وأقواله ـ المثل العليا التي يجب التمسك بها والمحافظة عليها من جانب الحاكم والمحكومين على السواء، وأعطى الإسلام فرصة للاجتهاد وفق الأصول والثوابت والقيم والمبادئ وراعى تغير الزمان والمكان، وتوالي الأجيال، وتقلبات الظروف الاجتماعية والاقتصادية وغيرها؛ مما يتحكم في النظام السياسي ويؤثر فيه. ومن ثم ترك الرسول صلى الله عليه وسلم أمر اختيار الحاكم ونظام الحكم للناس، ليقرروا ـ حسب مصالحهم ـ ما يناسب متطلبات الزمان والمكان والظروف المتغيرة، غير مقيدين إلا بالقواعد العامة للشريعة الإسلامية، وبالقواعد والمثل الأخلاقية العليا التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلال سنين حكمه في المرحلة المدينة، منذ قامت الدولة الإسلامية الأولى حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى[1].

وهذا البُعد في الاعتراف بإرادة الأمة في اختيار الحكام، والنظام الذي يناسبها مع مراعاة مقاصد الشريعة في ذلك، يدل على مرونة التشريع الإسلامي وإنه صالح ومصلح لكل زمان ومكان.

أولاً: انتقال الرئاسة لأبي بكر الصّدِّيق سلمياً:

لما علم الصحابة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه وهو يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده[2]، والتف الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولما بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين وهم مجتمعون مع أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنه لترشيح من يتولى الخلافة[3]، قال المهاجرون لبعضهم: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيباً[4]، قال عمر رضي الله عنه: فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ[5] عليه القوم. فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين؟، قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: فلا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينهم[6]، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا هم مجتمعون وإذا رجل مزمِّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟، فقالوا: يُوعك، فلما جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم ـ يا معشر المهاجرين ـ رهط منَّا، وقد دفَّت دافة[7] من قومكم[8]، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر[9]، فلما سكت أردت أن أتكلم ـ وكنت قد زوّرت[10] مقالة أعجبتني أريد أن أقدّمها بين يدي أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وكنت أداري منه بعض الحدِّة، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك[11].

فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بداهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت. فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ـ فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ـ فلم أكره مما قال غيرها، وكان والله أن أقدّم فتضرب عنقي لا يُقرِّبني ذلك من إثمٍ أحب إليّ من أن أتأمَّر على قومٍ فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسوِّل إليَّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن.

فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجب[12]، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى خشيت من الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار[13].

وفي رواية أحمد .. فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فلم يترك شيئاً أنزل في الانصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا وذكره، وقال: ولقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار»، ولقد علمت يا سعد[14] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر فبَرُّ الناس تبع لبرِّهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم»، قال: فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء[15].

 

 

[1] في النظام السياسي للدولة، محمد سليم الغواص، ص: 73.
[2] التاريخ الإسلامي للحميدي عبد العزيز (9/ 21).
[3] عصر الخلافة الراشدة أكرم العمري، ص: 40.
[4] المصدر نفسه.
[5] تمالأ: تشاور.
[6] الرجلان هما: عويمر بن ساعدة، ومعن بن عدي.
[7] الدافة: الجماعة تأتي من البادية إلى الحاضرة.
[8] أي عدد قليل.
[9] أي يخرجوننا من أمر الخلافة.
[10] أي: أعددت.
[11] على رسلك: على مَهْلك.
[12] الجذيل: تصغير جذل، وجذل: وهو عود ينصب للإبل الجربى، تحتك به من الجرب، فأراد أن يُستشفى برأيه كما كان تستشفى الإبل بالاحتكاك بذلك العود، والعذيق: تصغير عذق، والعَذق، النخلة نفسها فأينما مالت النخلة الكريمة بنوا من ناحيتها المائل بناء مرتفعاً يدعمها لكيلا تسقط، فذلك الترجيب ولا يرجب إلا كرام النخل، والترجيب: التعظيم، يقال: رجبت الرجل رجباً أي عظمته، وإنما صغرهما جذيل وعذيق على وجه المدح وإنما وصفهما بالكرم. شرح ابن بطال على البخاري.
[13] البخاري، رقم: 6830.
[14] يعني سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه.
[15] مسند أحمد (1/ 5) الخلافة والخلفاء، البهنساوي، ص: 50.

المصدر: الإسلام اليوم 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022